مقالات
يوم الشهيد… في ذاكرة مصر وضمير الأجيال – بقلم: مصطفى قطبي
03/09/2019
الحديث عن الشهادة هو الحديث عن الوطن، وكيفية تجسيد عشقه واقعاً ملموساً، يكون من خلال تقديم الروح في سبيل طهارته وقداسته، وبقائه منيعاً حراً يشمخ بدماء الشهداء الأبرار عبر التاريخ، وقد زرعوا أنفسهم في رحم أرضه فداء للأرض والحرية.
واستمراراً لهذا الفكر السليم والنهج العروبي والقومي الصحيح، تحتفل مصر والقوات المسلحة، في التاسع من آذار من كل سنة، بيوم الشهيد… عيد أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر، عيد أولئك الأبطال العظام الذين سطروا ملاحم بطولية رائعة، ستبقى ذكراها حية خالدة في ضمير ووجدان أمتنا تتوارثها الأجيال جيلاً بعد آخر، فشهداء مصر كانوا ومازالوا مثال التضحية والفداء وعنوان كل نبيل وعظيم في تاريخ هذا الوطن المعطاء…
فالشهادة من الوجهة الأخلاقية تعني فعل الاستشهاد بمضامينه الوطنية والإنسانية، لذلك كانت قيمة الشهادة وستبقى في المرتبة الأولى على سلم أولويات المنظومة القيمية، بالنظر لما تنطوي عليه من تضحيات بالأنفس والأرواح، تجسد المنطلق والهدف في الدفاع عن الوطن، وصون حريته وكرامته، وبقاء رايته عزيزة خفاقة في سماء صافية، وعلى أرض صلبة عصية على الاختراق.
والشهادة بهذا المعنى، هي واجب مقدس يستلزم تأدية ضريبة الانتماء الوطني والمواطنة الصالحة، أو ما يسمى بـ(ضريبة الدم) التي يتوجب على كل مواطن أن يدفعها طواعية لا كرها، عندما يستحق الدفع، حيث يبادر كل مواطن إلى تلبية نداء الوطن، للدفاع عنه وحمايته من كل معتد أو دخيل يريد تدنيس أرضه والنيل من كرامته وزعزعة أمنه واستقراره، وهنا تتجلى محبة الوطن بأسمى معانيها، حيث يضحي المرء بحياته ويستشهد من أجله، فترخص حياته أمام حياة الوطن لأن الشهادة بطبيعتها تفعيل لإرادة الحق والواجب، وطريق إلى الحياة الكريمة، والحياة الكريمة لا تكون إلا في وطن ينعم بالحرية والعزة والكرامة…
فالشهيد هو الإنسان الذي يتجاوز ذاته الضيقة، ويسمو بها إلى الذات الاجتماعية الوطنية الأرحب خلقيا والأرقى روحياً، ليصل إلى مرتبة القديسيين والعظماء، الذين كرسوا حياتهم من أجل أن يحيا الآخرون، حيث يلتقي الشهيد بروحه الطاهرة ونفسه النبيلة وجه ربه براحة واطمئنان، بعدما أدى واجبه الاجتماعي والوطني والإنساني، بقناعة ورضا وتسليم بهذا الواجب المقدس، الذي يتمثل في تلقائية الإقدام على الفعل بإيمان يرتقي إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يضحي الإنسان بحياته من أجلها، بلا خوف أو تردد… وهذا كله يرتبط بالإرادة الوطنية الصادقة، غير القابلة للمساومة.
وهل هناك أكرم ممن يجود بروحه ودمه وحياته ليحيا وطنه حراً كريماً، ولينعم أبناء وطنه بالأمن والأمان؟ وهل هناك أكثر نبلاً وشهامة ومروءة، ممن يعشق الشهادة التي يجد فيها حياة المجد والخلود الأبدي، لا تنساه ذاكرة التاريخ ولا دورة الأزمان؟ فيبقى إسم الشهيد ناصعاً في صفحات التاريخ، وتبقى روح الشهيد منارة شامخة في سماء الوطن الشامخ، تضيء دروب النضال والكفاح أمام الأجيال القادمة، لكي تكون سياجاً منيعاً، يحصن الوطن الغالي في وجه كل المتآمرين والطامعين والمعتدين، ومن يريدون شراً بمصر أو تدنيس ترابها الطاهرة.
وهذا يعني أن الشهيد يجسد قيمة الكرامة بأسمى معانيها ودلالاتها، لتشمل الوطن والشعب، والتاريخ والمستقبل، وأي كل ما في الحياة بأبعادها الفردية والاجتماعية والإنسانية، فالكرامة بمضامينها ومعانيها، ترتبط بمقومات الحياة الشخصية والاجتماعية، وبالتالي الوطنية، إذ إن كرامة المواطن من كرامة الوطن، وثمن كرامة الوطن غال لا يعادله إلا ثمن الحرية، وكلاهما يحتاج إلى التضحية والفداء، أي الشهادة التي تقدم الدماء الزكية/الطاهرة قرباناً لصون حرية الوطن وعزته وكرامته.
ما أشبه اليوم بالبارحة… فالمصريون هم المصريون مهما اختلف الزمان وتبدل المكان.
فيوم الشهيد هذا العام يأتي زاخراً بالتضحيات الكبيرة التي يقدمها جنود مصر البواسل في تصديهم للحرب القذرة التي تشنها جبهة العدوان والتآمر على مصر، لمحاولة النيل منها ومن شعبها الصامد، وإخضاعها لتبعية أميركا والغرب بعد أن عجزت طوال عقود طويلة عن تنفيذ مخططاتها وتمرير مشاريعها التقسيمية، ليقف الجيش المصري البطل اليوم كما في السابق سداً منيعاً أمام شرور الأعداء ويقدم الغالي والنفيس في سبيل أن تبقى مصر حرة أبية ورايتها عالية خفاقة.
فما يقدمه أبطال مصر اليوم في تصديهم لعصابات الأخوان الإرهابية، إنما يعكس أصالة الشعب المصري وحبه المتجذر لوطنه، وتقديسه لترابه، فهو قد تربى منذ القدم على القيم النضالية، وحفر بدماء شهدائه الأبرار الانتصارات تلو الأخرى، وسطر أروع الملاحم البطولية ضد المستعمرين الغزاة، فردهم على أعقابهم، وجروا وراءهم ذيول الخيبة والهزيمة، فغدت قوافل الشهداء عنوان عز وفخار لحماية مصر، والحفاظ على استقلالها وسيادتها ووحدتها الوطنية الصلبة. فالشعب الذي يملك أبناؤه إرادة الصمود والتصدي، إرادة التضحية والشهادة، هو الشعب الذي يملك حتمية النصر والبقاء.
فعلاقة المصريين بالشهادة والشهداء لم تكن حالة طارئة في حياتهم، ولا هي نتاج حقبة أو مرحلة إنما تمتد في عمق تاريخهم، وفي صميم وجودهم، وقد ارتبطت بمعاني العطاء اللامحدود والاستعداد الدائم للبذل والتضحية.
والتاسع من آذار سيبقى نبراساً تهتدي به الأجيال القادمة، واستذكاراً لأرواح الشهداء الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض مصر… والشعب المصري الأبي مصمّم اليوم على اجتثاث الإرهاب من جذوره، لتعود مصر كما كانت واحة في الأمن والاستقرار، وبلداً للمحبة والتسامح، ومهما حاول المستعمرون الجدد وأدواتهم الرخيصة من مستعربين وعثمانيين أن يزرعوا القتل والدمار في مصر، إلا أنهم سيهزمون عاجلاً وليس آجلاً، فمصر كما انتصرت في السابق ستكتب نصرها اليوم على الإرهاب بوعي شعبها وصموده، وتضحيات جيشها البطل، الذي يؤكد كل يوم بأن أمن الوطن والمواطن خط أحمر لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.
كلمة أخيرة: في يوم الشهيد… نستذكر قول أحد الشعراء:
سلام عليكم في أرض السلام
يا من خلعتم رداء الخوف وألقيتموه في ازدراء
ولبستم رداء الموت طوعاً في إباء
وقاتلتم حتى الشهادة
بكينا وبكت الأرض عليكم دموعاً
وزغردت حين احتضنتكم السماء