أخبار العالمعاجل
سقط قناع الديمقراطية حكومة نتنياهو الجديدة وممارساتها تكشف “زيف” شعارات إسرائيل
وكالات:
“واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط تحكمها وزارة “السوابق”، من وزير مدان بالاحتيال إلى آخر متهم بالرشوة وخيانة الأمانة، ورئيس الوزراء يسعى لتحصين نفسه ضد دخول السجن، عن طريق فرض قانون يحميه مدى الحياة!
إنها إسرائيل، الدولة التي صوَّرها زعماءُ الغرب لشعوبهم، عبرَ إعلامهم، على أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط. وظلَّ ذلك القناع ذريعتهم منذ إعلان تأسيسها على أراضي فلسطين، كي يغضّوا الطرْفَ عن الاحتلال وممارساته غير القانونية وغير الإنسانية.
لكن ها هو قناع الديمقراطية الزائفة قد سقط، بشهادة كثير من الإسرائيليين أنفسهم، وعلى مرأى ومسمع من رعاة تل أبيب الغربيين، وتتعالى الأصوات: “أنقِذونا”، لكنها هذه المرة ليست أصوات الفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال والصمت الغربي والدولي، بل من الإسرائيليين، الذين وجدوا “ديمقراطيتهم” المزعومة تحت مطرقة اليمين المتطرف وغُلاة المستوطنين.
حكومة نتنياهو.. ماذا تعني؟
“حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تنزِع القناع الذي ساعد في تسهيل التواطؤ الغربي”، هذه الكلمات اختارها كاتب إسرائيلي يساري عنواناً لمقال نشره في موقع Middle East Eye البريطاني، وألقى من خلاله الضوءَ على ما تعنيه الحكومة التي شكَّلها بنيامين نتنياهو مؤخراً، وتوصف بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بالنسبة لصورة الدولة العبرية في عيون داعميها ورُعاتها الغربيين، الذين لطالما تغنَّوا بواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ويقول كاتب المقال، وهو جدعون ليفي، كاتب العمود والمؤلف الصحفي وعضو مجلس تحرير صحيفة Haaretz، إن إسرائيل تتغير بصورة واضحة، حيث يرى العالم “ديمقراطية ليبرالية غربية تتحرك بسرعة خطيرة نحو القومية المتطرفة والأصولية والعنصرية والفاشية، أي تحطيم الأسس الديمقراطية”، نتيجة لما آلت إليه الانتخابات الأخيرة. “وعلى الرغم من أن هذه الصورة هي توصيف صحيح، فإنها ليست الوصف الدقيق لما يحدث، فهذا الرأي يفترض ضمنياً أن إسرائيل كانت، حتى حدوث ذلك التغيير، ديمقراطية غربية فعلاً، وهي الآن تتحول بشكل واضح إلى شيء آخر، لكن الحقيقة هي أن إسرائيل لا تتغير، بل تتخلص من أقنعتها، وتُمزّق صورتها الزائفة تمزيقاً”.
الحكومة التي يشير إليها هي تلك التي شكّلها أكثر سياسي إسرائيلي بقاءً في المنصب، والتي رأت النور بعد خامس انتخابات عامة خلال أقل من ثلاث سنوات، وتضم الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة وممثلي المستوطنات غير الشرعية، ويرأسها نتنياهو، الذي يُحاكَم في ثلاث قضايا، مُتهَماً بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة. وتضم الحكومة أيضاً وزيراً أُدين بالاحتيال الضريبي من قبل، وهو النائب عن حزب شاس الديني، أرييه درعي. ولم يكن ممكناً أن يتولى درعي أي منصب وزاري في دولة “ديمقراطية شكلاً” كإسرائيل من دون تعديلات قانونية، وهو ما قام به الكنيست، الذي أقر قانوناً يسمح لأي شخص مدان بجريمة ولم يُحكم عليه بالسجن، بالحصول على حقيبة وزارية.
هذا الكنيست (البرلمان) أقر أيضاً قانوناً عجيباً آخر يسمح بتسليم حقيبة وزارية بعينها لوزيرين، والهدف منه هو السماح لزعيم “الصهيونية الدينية” المتطرفة، بتسلئيل سموتريش، بتسلم شؤون الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة، التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، برتبة وزير دفاع ثانٍ. وذلك الوزير الثاني مستوطن يقيم في أرضٍ محتلة هي الضفة الغربية، ويتحدث طوال الوقت عن رغبته في “إجهاض” أية آمال لدى الفلسطينيين بتحقيق المساواة على “أرض بني إسرائيل”، من خلال رحيلهم أو عيشهم كخدم لليهود أو قتلهم.
كما أقر الكنيست قانوناً خاصاً يتعلق بتوسيع مسؤوليات وزير الأمن الداخلي، وهو منصب يشغله زعيم حزب “القوة اليهودية” اليميني إيتمار بن غفير. ويبلغ السياسي اليميني المتطرف 46 عاماً، وبدأ نشاطه السياسي وهو في عمر الـ14. إذ كان عضواً في حزب كاخ الفاشي، الذي جرى تصنيفه منظمةً إرهابية وحظره داخل دولة الاحتلال عام 1994. وامتنع جيش الاحتلال عن تجنيد بن غفير بسبب عضويته السابقة في المنظمة. وكرّس بن غفير مسيرته القانونية للدفاع عن نشطاء العنف اليمينيين، وقال بنفسه إن الاتهامات وُجِّهَت إليه في 53 قضية، ولم تجرِ إدانته سوى في ثمانٍ منها فقط. وكان بن غفير يُعلّق في غرفة معيشته صورةً لباروخ غولدشتاين، الذي قتل 29 فلسطينياً في الخليل عام 1994، لكنه أُجبِرَ على إزالتها لاحقاً. وبعد أن أصبح عضواً في الكنيست عام 2021، افتتح بن غفير مكتبه البرلماني في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية المحتلة، في خطوة استفزازٍ واضحة أثناء شهر رمضان المبارك. كما سبق له اجتياح باحات المسجد الأقصى المقدس في أكثر من مناسبة، وجرى تصويره من قبل وهو يهدد الفلسطينيين بمسدسه.
كما تضم الحكومة شخصيات مثل عوفر سوفر، الذي يشغل حقيبة “الهجرة والاستيعاب” في حكومة نتنياهو، فمن هو السيد عوفر؟ رائد مشاة سابق في جيش الاحتلال تتمحور أجندته السياسية الرئيسية في الكنيست حول زيادة ميزانية الأمن و”تهويد” دولة الاحتلال.
وهناك أيضاً ألموج كوهين، صاحب الـ35 عاماً، والذي يشغل منصب نائب وزير الاقتصاد، فهو ينتمي إلى حزب القوة اليهودية، وخدم في شرطة الاحتلال لمدة 11 عاماً كعضوٍ في فرقة التدخل السريع، بعد أن أنهى خدمته العسكرية في جيش الاحتلال. وكان كوهين قد نشر مؤخراً صورةً لنفسه قبل تسع سنوات وهو يجثو بركبتيه فوق ثلاثة فلسطينيين من مدينة رهط، بينما كانوا مقيدين أرضاً. وكتب كوهين التعليق التالي على الصورة: “يتذكر هؤلاء الأشخاص ما كنت أفعله وأنا في الجيش”، مع رمزٍ تعبيري يغمز. وتشير الصورة إلى أن الرجال الثلاثة نجحوا في التعرف على كوهين، باعتباره واحداً من رجال الشرطة الذين اعتدوا عليهم.
هذه هي الحكومة التي يرى ليفي أنها مزقت الأقنعة عن ديمقراطية إسرائيل الزائفة، ووضعت الغرب في مأزق أخلاقي. فالتواطؤ الغربي، والتغاضي عن انتهاكات دولة الاحتلال للقوانين الدولية والإنسانية كان مبرَّراً طوال الوقت بأن إسرائيل دولة ديمقراطية تعيش في محيط غير ديمقراطي، وهو الشرق الأوسط، وأن ما يقوم به جيشها بحق الفلسطينيين ما هو إلا “دفاع عن النفس”. لكن السؤال هنا هو: هل كانت إسرائيل، منذ تأسيسها دولة ديمقراطية حقاً؟ أم أنها لا تختلف كثيراً عن محيطها الشرق أوسطي، وإن اختلفت فهو اختلاف للأسوأ؟
إسرائيل وقناع الديمقراطية
مثلت الأساطير، منذ إعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948، جزءاً رئيسياً من تراث إسرائيل، مِن الجيش الذي لا يُقهر، إلى الأمن الذي لا يمكن اختراقه، لكنّ “واحة الديمقراطية” ربما تكون الأسطورة الأطول بقاءً في هذا السياق، ويمكن إرجاع ذلك إلى الرغبة المتبادلة بين زعماء إسرائيل من جهة والغرب من جهة أخرى، في الحفاظ على تلك الأسطورة، لكن أحداث السنوات الأخيرة أسقطت الأقنعة، وفضحت الأسطورة، ليس فقط في الخارج، وإنما في الداخل الإسرائيلي ذاته.
فأسطورة الديمقراطية هذه كانت بلا أساس حقيقي منذ البداية، إذ إن “قانون العودة” الذي يعود إلى عام 1950 هو في حد ذاته قانون يقوض أحد أعمدة الديمقراطية، وهي المساواة، فهذا القانون حدّد منذ البداية إطاراً تتميز داخله مجموعة عرقية بعينها عن باقي سكان الدولة. ورغم ذلك فإن الإدعاء بأن إسرائيل دولة ديمقراطية استمر، وظلَّ يجد آذاناً مصغية في الغرب على مدى عقود، بل ظلت مؤسسات غربية متخصصة في ترتيب الدول حول العالم، فيما يُعرف بمؤشر الديمقراطية، تضع دولة الاحتلال في مراتب متقدمة للغاية.
إذ جاءت إسرائيل، في أحد مؤشرات الديمقراطية التي تصدر عن وحدة الاستخبارات بالإيكونوميست، في المرتبة الثالثة والعشرين عالمياً، متقدمة على دول مثل إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة، بعد أن منحتها الوحدة 7.97 درجة من إجمالي 10، وذلك عن عام 2021، وفي أعقاب تقرير منظمة العفو الدولية، الذي حكم بأن إسرائيل تطبّق نظام “الفصل العنصري” ضد الفلسطينيين، مَن هم تحت الاحتلال، وحتى مَن يحملون الهوية الإسرائيلية من عرب فلسطين 1948.
أما عن كيف تُعامل إسرائيل الفلسطينيين من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية، أو عرب 1948، فتلك قصة لطالما غضّ الجميع الطرْفَ عنها، حتى سقطت الأقنعة خلال السنوات القليلة الماضية.
إذ يبلغ عدد سكان إسرائيل ما يزيد قليلاً عن تسعة ملايين نسمة، وحوالي خُمس هؤلاء، أي نحو 1.9 مليون شخص تقريباً هم من العرب، وهم الفلسطينيون الذين بقوا في ديارهم التي أصبحت داخل حدود دولة إسرائيل بعد إنشائها في عام 1948، بينما فرّ ما يصل إلى 750 ألفاً منهم، أو تعرّضوا للطرد من منازلهم خلال الحرب التي تلت ذلك.
يُطلِق السكان الذين بقوا داخل إسرائيل على أنفسهم اسمَ عرب إسرائيليين، أو فلسطينيين إسرائيليين، أو فلسطينيين فقط. وغالبية الفلسطينيين داخل إسرائيل مسلمون، ولكن كما هو الحال في باقي المجتمع الفلسطيني يشكل المسيحيون ثاني أكبر مجموعة بشرية بينهم.
ومنذ اليوم الأول لإعلان إسرائيل كدولة، يتعرض الفلسطينيون حَمَلةُ الجنسية الإسرائيلية إلى تمييز منهجي في بلادهم، وهو ما أكدته العديد من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إذ تقول منظمة العفو الدولية إن إسرائيل تفرض تمييزاً منهجياً ضد الفلسطينيين الذين يعيشون فيها.
ووفقاً لتقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، في أبريل/نيسان 2021، تمارس السلطات الإسرائيلية الفصل العنصري، وهو جريمة ضد الإنسانية، سواء تجاه الفلسطينيين داخل إسرائيل أو الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة.
وللحكومة الإسرائيلية تاريخ طويل من مصادرة الأراضي المملوكة لعرب فلسطين من حملة الجنسية الإسرائيلية، والذين يتهمون تل أبيب بالتمييز المنهجي ضدهم في الميزانية الوطنية.
دولة “الطوارئ” والتفرقة بين مواطنيها
النقطة المحورية في أي دولة ديمقراطية هي القوانين التي تحكمها، والتي لا تفرق بين مواطنيها، فكيف تعمل تلك النقطة في إسرائيل إذاً؟ في البداية، القوانين التي تحكم دولة الاحتلال تختلف من مجموعة عرقية إلى أخرى، حيث لا يوجد قانون موحد يسري على الجميع، ولكن كل مجموعة في إسرائيل مختلفة عن الأخرى.
على سبيل المثال فإن القوانين الإسرائيلية التي تحكم أهلية الحصول على الجنسية الاسرائيلية تعطي الأفضلية لليهود، الذين يمكنهم الحصول على جواز السفر الإسرائيلي تلقائياً، بغض النظر عن مكان ولادتهم، بينما يُحرم الفلسطينيون، المطرودون من ديارهم وأطفالهم، من هذا الحق، حتى ولو كانوا من عرب إسرائيل.
وفي عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) “قانون قومية الدولة”، المثير للجدل، والذي ألغى اللغة العربية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العبرية، ونص على أن الحق في تقرير المصير الوطني “يقتصر على الشعب اليهودي”.
وبإقرار هذا القانون، تكون إسرائيل قد أسقطت عن نفسها ورقة التوت رسمياً. فالقانون يعني “التفوق اليهودي”، ويؤكد على أن العرب في إسرائيل سيظلون “مواطنين من الدرجة الثانية” طوال الوقت.
ويرى كثير من المراقبين في الداخل والخارج أن إقرار هذا القانون، والذي قدمه بنيامين نتنياهو، وكان رئيساً للوزراء وقتها، مجاملة لحلفائه من المستوطنين واليمينيين المتطرفين، لكن ما جاء بعد ذلك أثبت أن ذلك القانون لم يكن إلا قمة جبل الجليد، إذ قبل مرور أقل من 4 سنوات على إقراره، سقطت إسرائيل وديمقراطيتها المزعومة في قبضة الحكومة الأكثر تطرفاً على الإطلاق، وبرئاسة نتنياهو أيضاً.
النقطة الأخرى المحورية أيضاً في أي دولة ديمقراطية تتعلق بعدم اللجوء لقوانين “الطوارئ” على الإطلاق، وإذا لجأت حكومة ما في دولة ديمقراطية لتلك النوعية سيئة السمعة من القوانين لأسباب قد تراها “قهرية”، فإن ذلك يكون مؤقتاً وإذا ما تمادت تلك الحكومة في توظيف تلك القوانين، تتصدى لها المحكمة العليا أو الدستورية.
فماذا عن إسرائيل؟ أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبالتحديد خلال عام 2003، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قانون “المواطنة والدخول إلى إسرائيل” كقانون طوارئ يهدف إلى منع لم شمل الأسر من عرب إسرائيل، إذ نص على أنه “لن يُسمح لأي شخص يحمل بطاقة هوية الضفة الغربية أو غزة بالانتقال إلى إسرائيل للانضمام إلى زوجته/زوجها هناك”.
وبغض النظر عن المبررات التي ساقتها حكومة تل أبيب لتمرير قانون الطوارئ ذاك، وتصوير مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وجرايمه بحقهم على أنها “إرهاب” يستدعي فرض الطوارئ، جاء أيضاً في نص القانون أنه “يظل هذا القانون سارياً حتى نهاية عام من تاريخ نشره، ولكن يحق للحكومة، بموافقة الكنيست، تمديد سريانه من وقت لآخر، لفترة يجب ألا تتجاوز سنة واحدة في كل مناسبة”.
اليوم وبعد عشرين عاماً بالتمام والكمال من تمريره، لا يزال قانون الطوارئ ذاك سارياً في إسرائيل، ويستمر استغلاله لعدم منح الجنسية إلا لعدد قليل ممن تنطبق عليهم شروطها، من غير اليهود بطبيعة الحال.
بل تم توسيع القانون في عام 2007 ليشمل مواطني إيران والعراق وسوريا ولبنان. وفي المقابل، يمكن لغير اليهود الآخرين الذين يتزوجون من إسرائيليين التقدم بطلب للحصول على الجنسية من خلال عملية مدتها خمس سنوات، تخضع لفحوصات أمنية فردية.
ويرى منتقدو القانون أنه يتعارض مع ما تعلنه إسرائيل عن “التزامها بالمساواة في الحقوق لجميع مواطنيها”، كما قدمت جماعات الحقوق المدنية التماسات متكررة على مدار السنوات للمحكمة العليا الإسرائيلية لإلغاء القانون، على اعتبار أنه “غير دستوري”، لكن دون جدوى.
وتقول جماعة “عدالة” العربية الإسرائيلية للحقوق المدنية على موقعها الرسمي: “على الرغم من أن القانون صدر في الأصل كأمر مؤقت، فإن الكنيست مدد صلاحيته مراراً، ما جعله قانوناً دائماً، وتأثرت آلاف العائلات الفلسطينية بالقانون، وأُجبرت على الافتراق والانقسام أو الانتقال إلى الخارج، أو العيش في إسرائيل تحت وطأة الخوف المستمر من ترحيلهم”. ولطالما أعرب نوابٌ عرب وإسرائيليون في الكنيست عن معارضتهم لتمديد القانون على مر السنوات، لكن أيضاً دون جدوى.
الفساد.. عرض مستمر في “واحة الديمقراطية”
القوانين تمييزية، وتُفرّق بين المواطنين، والطوارئ حاضرة باستمرار، والفصل العنصري تجاه خُمس سكان الدولة أمر واقع، وبالقانون أيضاً، فماذا ظل من ديمقراطية إسرائيل المزعومة؟ الفساد؟ دعونا نلقِ نظرة على هذا الملف أيضاً.
أي متابع لأخبار إسرائيل وإعلامها لا يسعه إلا أن يتساءل عن ذلك القدر الهائل من الفساد، الذي يعتبر عنصراً رئيسياً من عناصر السياسة الإسرائيلية، وكيف يمكن أن يستقيم ذلك مع تلك الصورة التي يتم الترويج لها في الغرب، وبخاصة مقولة “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط.
مبعوث إسرائيل إلى المغرب، دافيد غوفيرن، تم استدعاؤه إلى تل أبيب عام 2021 “بسبب اتهامات بالاعتداء الجنسي والتحرش والفساد”، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت. وبالإضافة إلى “سرقة هدية ثمينة من البلاط الملكي المغربي”، واجه زعيم الدبلوماسية الإسرائيلية اتهامات بالاستغلال الجنسي لعدد من النساء المحليات.
تُحقق وزارة الخارجية الإسرائيلية أيضاً في تقارير حول قيام رجل أعمال إسرائيلي، لا يحمل أي منصب رسمي، باستضافة مسؤولين كبار، من بينهم رئيس الوزراء السابق يائير لابيد، عندما كان يتولى حقيبة الخارجية. قام رجل الأعمال هذا بترتيب اجتماعات بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم المغاربة، دون أن تكون له أية صفة رسمية أو أي علاقة بحكومة تل أبيب، فما القصة، ولماذا تُحقق وزارة الخارجية في الأمر؟ تتساءل بعض صحف إسرائيل.
حقيقة الأمر هنا هي أن الاستغلال الجنسي وسرقة الأموال العامة واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية هي أمور منتشرة للغاية في إسرائيل، من رؤساء الدولة وحتى صغار الموظفين. وفي عام 2016، تم إطلاق سراح الرئيس الإسرائيلي، موشيه كاتساف، من السجن، بعد قضائه 5 سنوات من عقوبته البالغة 7 سنوات، لإدانته باغتصاب موظفة في وزارة السياحة، عندما كان يتولى حقيبة الوزارة في تسعينيات القرن الماضي، ولإدانته أيضاً بالتحرش بامرأتين عندما كان يشغل منصب رئيس الدولة بين 2000 و2007.
إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، أُجبر على الاستقالة من منصبه بعد إدانته بتلقي “مظاريف مليئة بالعملة الأمريكية” من رجل الأعمال الأمريكي-اليهودي، موريس تالانسكي، وهي الأموال التي استخدمها أولمرت لحسابه الشخصي، وليس للإنفاق على العمل السياسي كما زعم. تم الحكم على أولمرت بالحبس 27 شهراً، قضى منها في السجن 16 شهراً، بحسب مقال لموقع ميدل إيست مونيتور البريطاني.
في عام 2004، تم إلقاء القبض على وزير الطاقة الإسرائيلي الأسبق، غونين سيغيف، مُتّهماً بتهريب المخدرات والاحتيال في بطاقات الائتمان. كان الوزير يحاول تهريب 25 ألف حبة من مخدر إكستاسي، لدى عودته من زيارة عمل إلى هولندا. وحكم عليه بالسجن أيضاً.
في عام 2008، تمت إدانة شلومو بينيزري، الذي شغل حقائب وزارية منها الصحة والطاقة، بالرشوة وخيانة الأمانة وعرقلة العدالة، ودخل السجن. أما أرييه درعي، الذي كان يشغل حقيبة الداخلية، فقد وُجهت إليه اتهامات متعددة بالفساد ودخل السجن ثم أطلق سراحه. وعاد مرة أخرى لتولي منصب وزاري، بعد أن مرر الكنيست قانوناً خاصاً يجيز ذلك، يسمونه في إسرائيل “قانون درعي”!
هذا مجرد غيض من فيض، فالقائمة طويلة، والتهم متعددة، وهذا فقط ما تم الكشف عنه، وفي دولة يدفع كبار المسؤولين فيها أموالاً طائلة لوسائل الإعلام كي يحظوا “بتغطية إيجابية”، يكون من الصعب كشف جميع الحقائق، فكيف يمكن أن توصف دولة كهذه بأنها ديمقراطية من الأساس؟
وسقطت أخيراً “ورقة التوت”
في عام 2010، عندما أيدت محكمة إسرائيلية عليا الأحكام الصادرة بحق الرئيس الأسبق كاتساف، قال نتنياهو: “هذا يوم حزين لدولة إسرائيل ولمواطنيها”، لكن السياسي الأبرز في تاريخ إسرائيل والأطول بقاءً في منصب رئيس الوزراء، أشاد بالنظام القضائي قائلاً إن “المحكمة أرسلت اليوم رسالةً واضحة وضوح الشمس، وهي أن الجميع في إسرائيل متساوون أمام القانون”.
لكن عندما واجه نتنياهو الاتهامات نفسها، وصف النظام القضائي نفسه بأنه “مُسيّس وغير عادل”، وقرر ألا يخضع لأحكامه، فماذا فعل؟ قرر أن يشكل حكومة يحظى وزراؤها بحصانة خاصة مهما فعلوا، وهذه ليست مبالغة ولا رأياً من خارج إسرائيل، بل هذه نصّ كلمات نائب النائب العام الإسرائيلي نفسه.
لجنة الدستور والقانون والعدالة في الكنيست كانت تناقش، الإثنين 16 يناير/كانون الثاني 2023، مشروع قانون يعفي الوزراء من الأخذ برأي المستشارين القانونيين للوزرارت عند إصدار أي قرارات، فماذا قال نائب النائب العام، الذي كان حاضراً نيابةً عن رئيسه؟
“إذا تمت الموافقة على هذا المشروع ستصبح الحكومة ورئيسها غير خاضعين للقانون، بل سيصبحون هم القانون”. هذا نص كلمات جيل ليمون، نائب النائب العام جيلي باهاراف-مايرا، بحسب صحيفة هارتس، مضيفاً أن “هذه الخطوات ستقوض حكم القانون، وستصبح الآليات القانونية شكلية تماماً بلا أي مضمون أو معنى، ولن يخضع مجلس الوزراء ولا الوزراء للقانون”.
لكن إطلاق يد وزراء أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً من الناحية القانونية ليس التعديل الوحيد، فحكومة نتنياهو التي قدمت وهدفها تعديل النظام القضائي، وصفتها رئيسة المحكمة العليا في إسرائيل، إستر حايوت، بأنها “ستسحق منظومة العدالة”، وتظاهر مئات المحامين الإسرائيليين أمام محكمة تل أبيب احتجاجاً على مشروع الحكومة، محذّرين من “أنه يهدد الديمقراطية”.
فالخطة سياسية بامتياز، وتهدف إلى منح الكنيست مزيداً من الصلاحيات في تعيين القضاة، وقالت كبيرة القضاة حايوت إن “المشروع الجديد الذي قدمه وزير العدل لا يهدف إلى تحسين النظام القضائي، بل إلى سحقه”. وأضافت: “هذا هجوم جامح على النظام القضائي، وكأنه عدو يجب سحقه”.
كان القانون في إسرائيل، التي ليس لها دستور من الأساس، ينص على أن اختيار القضاة يتم من خلال لجنة مشتركة من القضاة والمحامين والنواب بإشراف وزارة العدل الإسرائيلية، ومن بين مقترحات تعديل النظام القضائي التي قدمها الوزير أيضاً “بند الاستثناء”، الذي يتيح لنواب البرلمان، بأغلبية بسيطة، إلغاء قرار صادر عن المحكمة العليا.
أما لماذا هذه التعديلات التي تُسقط ورقة التوت نهائياً عن نظام يضع، منذ نشأته، قناع الديمقراطية ويتباهى به؟ فالإجابة متعددة الأوجه. الوجه الأول يتمثل بطبيعة الحال في رئيس الحكومة نفسه، أي بنيامين نتنياهو، فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية تسببت محاولات نتنياهو إنقاذ نفسه من مصير الكثيرين من كبار مسؤولي إسرائيل، وهو السجن متهماً بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، في عدم استقرار سياسي وانتخابات عامة تكررت 5 مرات.
ومنذ المرة الأولى عام 2019، يصر نتنياهو على استصدار قانون من الكنيست يحصنه شخصياً ضد دخول السجن، ويضع ذلك شرطاً رئيسياً أمام أي حزب أو سياسي يتحالف معه. وعندما تحالفت المعارضة ضده وشكلت الحكومة السابقة، مثل نتنياهو أمام المحكمة في ثلاث قضايا، حملت تفاصيل كثيرة مخزية لكنها كاشفة.
فنتنياهو، الرقم الأصعب في السياسة الإسرائيلية منذ أكثر من عقدين من الزمان، استغل منصبه لتحقيق مكاسب شخصية، ودفع أموالاً طائلة لوسائل إعلام كي تنشر “تغطية إيجابية” لصالحه، إضافة إلى أمور أخرى كثيرة، بحسب أكثر من 300 شاهد استمعت إليهم النيابة وقدموا أطناناً من الأدلة.
وفي هذا السياق، ليس غريباً أن يتحالف نتنياهو مع الأحزاب الدينية المتطرفة وأحزاب المستوطنين غير الشرعيين وأحزاب اليمين المتطرف، لتشكيل حكومة تضم وزراء مدانين بالاحتيال والإرهاب، وذلك عبر تمرير قوانين مفصلة خصيصاً من أجله ومن أجلهم، فيا لها من ديمقراطية زائفة!
أما الوجه الآخر لتلك التشريعات التي تتبناها حكومة “السوابق” برئاسة “المتهم” نتنياهو، فهو السعي لإضفاء الشرعية على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي أراض فلسطينية محتلة كما تنص القوانين الدولية وباعتراف رعاة إسرائيل الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة نفسها.
فأحد أهداف أغلب أحزاب هذا الائتلاف اليميني المتطرف هو إكمال عملية التهويد الكامل للقدس الشرقية المحتلة، وضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وهو ما يعني القضاء نهائياً على حل الدولتين، الذي لا يزال يمثل الأساس الدولي في التعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
ورغم سعي إسرائيل، منذ نشأتها، إلى ابتلاع كامل أراضي فلسطين التاريخية وعدم تنفيذ أي من القرارات الدولية، فإنه من الناحية الشكلية كانت تل أبيب تحاول تنفيذ ذلك المخطط بصورة تدريجية، عن طريق فرض الأمر الواقع، دون تغيير الشكل القانوني، وهو ما يعطي الداعمين الغربيين لإسرائيل الفرصة لمواصلة تقديم الدعم “لواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”.
وفي هذا السياق، على سبيل المثال، كان لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان دير لين، تصريح خلال زيارتها لإسرائيل، في يونيو/حزيران 2022، قالت فيه: “إن أقوى رابط مشترك بيننا (الاتحاد الأوروبي وإسرائيل) هو إيماننا بالديمقراطية وبقيمها. فالديمقراطية أدت إلى تقوية هذا الرابط الخاص من الصداقة على مدى عقود. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، تحتاج الديمقراطيات في أوروبا وإسرائيل إلى التماسك والعمل معاً”. والسؤال الآن: ما رأي السيدة أورسولا في ديمقراطية إسرائيل بعد تولي حكومة نتنياهو المسؤولية؟
المتابع للإعلام الغربي والدوائر السياسية الغربية يمكنه أن يرصد بسهولة حجم القلق من تبعات ما يشهده الداخل الإسرائيلي حالياً، بعد أن سقطت ورقة التوت التي كانت تستر تلك الديمقراطية المزعومة، وأصبح الحديث عن احتمالات اندلاع حرب أهلية في إسرائيل وارداً ويتردد بقوة، في ظل الصراع المتصاعد بين أتباع اليمين المتطرف من جهة والمعارضين من جهة أخرى.
واستَبَقَت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن الاجتماع الاحتفالي لحكومة نتنياهو بالإعلان عن تمسكها بحل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومعارضتها السياسات التي تعرّض هذا الحل للخطر، وهو ما يمثل أحد أبرز التحديات أمام الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، والتي تضم في عضويتها مستوطنين يدعمون ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
كما أصدر عدد من المنظمات المدنية والشخصيات، منها الدبلوماسي الأمريكي دانيال كيرتزر، مطالبات علنية مفتوحة لواشنطن، بأن توقف مساعداتها الأمنية والعسكرية للحكومة الإسرائيلية، وبخاصة بعد أن أصبح بن غفير وزيراً للأمن الداخلي، وفي ضوء التحذيرات المتصاعدة من ارتكاب حكومة نتنياهو الجديدة جرائم حرب ضد الفلسطينيين.
كما طالبت منظمة “المحاربون من أجل السلام” السفارة الأمريكية في تل أبيب بنقل رسالة لأعضاء مجلس الشيوخ، مفادها تقليص المساعدات الأمريكية الأمنية المقدمة للحكومة الإسرائيلية الجديدة.
أما نتنياهو فلا يبدو مهتماً بهذه النقطة، إذ أعاد إحياء وزارة الشؤون الاستراتيجية، وهي وزارة موازية لوزارة الخارجية، كان قد أنشاها من قبل وأغلقتها الحكومة السابقة. ومنح نتنياهو أحد المقربين منه، وهو رون ديرمر (سفير سابق لتل أبيب في واشنطن) مسؤولية الوزارة العائدة للحياة.
أما وزارة الخارجية نفسها، فقد كلف نتنياهو إيلي كوهين بالحقيبة لمدة عام، على أن يتولاها بعده يسرائيل كاتز لمدة عامين، ثم يعود كوهين للوزارة في العام الرابع والأخير من عمر الحكومة، هذا بالطبع على افتراض أن هذه الحكومة ستكمل مدتها، على عكس حكومات إسرائيل السابقة منذ أكثر من ست سنوات.
ويرى كثير من الدبلوماسيين الإسرائيليين أن قرارات نتنياهو ستتسبب في تدمير ما تبقى من دبلوماسية إسرائيل، وتجعل من الحفاظ على ما تبقى من صورة “الدولة الديمقراطية” مهمة مستحيلة.
هذه هي الصورة العامة لما سعوا منذ نشأتها إلى تصويرها على أنها “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، لكنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من كيان غارق في الفساد والمصالح الشخصية، ولا تحكمه قوانين ولا مساواة ولا حتى حرية رأي، في ظل شراء “التغطية”، وصفقات “التلميع”، وما فعلته حكومة نتنياهو الحالية لم يكن إلا إسقاط ورقة التوت التي كانت تستر تلك الديمقراطية الزائفة.
أما الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وانتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، فهي ما كان يتم تبريرها دائماً على أنها “دفاع عن النفس”!
وإذا كان بإمكانك أن تخدع كل الناس بعض الوقت، أو أن تخدع بعض الناس كل الوقت، فمن المستحيل أن تخدع كل الناس كل الوقت، وهذا تحديداً ما يبدو أنه حدث ويحدث مع أسطورة “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”.
فمنذ البداية، تأسّس ذلك الكيان على أعمدة وهمية دعائية، عنوانها البرّاق هو “الديمقراطية”، لكن النخبة الفاسدة حتى النخاع، وغياب العدالة بين المواطنين، وعدم احترام القانون الدولي، أو القانون الأخلاقي، أو حتى القانون الإنساني لا يمكن أن تكون إلا بنية تحتية لكيان عنصري، يحمل بين جَنَباته أسبابَ انهياره على رؤوس من شيّدوه مهما طال الزمن.
وهكذا تشكّلت حكومة “السوابق” برئاسة المتهم بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، لتضع المسمار الأخير في نعش تلك الصورة الهزلية، التي أُشير إليها طويلاً على أنها “ديمقراطية إسرائيل”!