مقالات
يوم الأرض… وضياع العرب والعروبة…؟ بقلم: مصطفى قطبي
تمر ذكرى يوم الأرض هذا العام والمؤامرات الصهيونية والغربية الاستعمارية ما زالت على دأبها لهدم البلدان العربية للإتيان بجماعات تكفيرية متواطئة مع الامبريالية والصهيونية مثلما الحال في دول الخليج التي تتآمر مع الغرب لتفتيت العالم العربي، وتسليط الخونة والعملاء على مقدرات الأمة العربية وإفقارها وتجريدها من مكامن القوة فيها لإغلاق القضية الفلسطينية، ولم يكن تحطيم ليبيا ومن قبلها العراق إلا بداية لمشروع التقسيم الجديد وضرب معاقل المقاومة للمشروعات الامبريالية، في سورية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية.
في كل عام يحيي الشعب العربي والفلسطيني وأحرار العالم ذكرى يوم الأرض في الثلاثين من آذار، اليوم الذي انتفض فيه الشعب الفلسطيني برمته في هبة عارمة شكلت حلقة من حلقات النضال الشعبي المشروع دفاعاً عن الأرض وتشبثاً فيما تبقى له من ديار، في وجه الهجمات المستشرسة لتهويد الاراضي العربية.
لقد اكتسب يوم الأرض زخمه ورمزيته من إجماع الشعب الفلسطيني بكل أبنائه على رفض الظلم والاستبداد وسياسات الاحتلال التهويدية والاستيطانية التي زادت وتيرتها بشكل ملحوظ بعد نكبة عام 1967 والتي ضربت تداعياتها كل بيت فلسطيني، وعلى خلفية استمرار سياسة المصادرات والاقتلاع والتهويد الإسرائيلية تشكلت في منطقة الجليل التي طالها النصيب الأكبر من سرقة أراضيها لجنة الدفاع عن الأرض التي انبثقت عن لجان محلية في إطار اجتماع عام أجري في مدينة الناصرة في 18 تشرين الأول 1975، حيث أكدت لجنة المتابعة العليا ـ وهي الهيئة القيادية العليا لفلسطينيي 48 ـ بأن إسرائيل صادرت نحو مليون ونصف المليون دونم منذ قيامها حتى العام 1976، ولم يبق بحوزتهم سوى نحو نصف مليون دونم، عدا ملايين الدونمات من أملاك اللاجئين وأراضي المشاع العامة، وهو الأمر الذي أدى إلى غضب شعبي عارم لم تستطع قوات الاحتلال إيقافه رغم الإجراءات العنيفة والشرسة التي اتخذتها لكسر إرادة الفلسطينيين ومنع انطلاق فعاليات نضالية، لكن رؤساء المجالس البلدية العربية أعلنوا الإضراب العام يوم 25 آذار 1976، تلا ذلك تصعيداً في المظاهرات والمواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال حيث ولد يوم الأرض الأول في 30 آذار 1976 بعد أن نشبت مواجهات دامية بين فلسطينيي 48 وقوات الاحتلال وامتدت طيلة اليوم التالي بخاصة في منطقة الجليل، وقد انفجرت في ذلك اليوم مسيرات الغضب في مختلف أراضي 48، واستخدمت إسرائيل الرصاص الحي ووسائل القمع والبطش، إذ دخلت قوات الاحتلال مدعومة بالدبابات والمروحيات إلى القرى الفلسطينية وأعادت احتلالها موقعة عشرات الشهداء والجرحى الفلسطينيين، ويؤكد الكثير من الباحثين والمحللين السياسيين في هذا الصدد أن يوم الأرض أصبح حدا فاصلا بين مرحلتين في تاريخ مسيرة فلسطينيي 48، تميزت الأولى بالإذعان لسياسات إسرائيل، واتسمت الثانية بالمواجهة والكفاح والنضال لنيل الحقوق المدنية والقومية.
وإسرائيل في ذكرى يوم الأرض تسعى إلى إقامة القدس الكبرى وهي تمثل 10 في المائة من مساحة الضفة الغربية بهدف تغيير التركيبة السكانية لمصلحة اليهود وفصل الضفة الغربية عن شمالها لمنع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس وبنية تشييد 73 ألف وحدة سكنية خلال الأربع سنوات القادمة ووضع مليون يهودي داخل القدس والضفة الغربية، وما القرار العسكري الذي صدر في نيسان 2009 برقم 1650 إلا البداية لطرد فلسطينيي الضفة الغربية، وحق العودة يهدده الضياع لأن عمليات الطرد التي هي نتيجة منطقية للمشروع الصهيوني مازالت مستمرة، إذ لا يمكن بناء دولة يهودية مع وجود سكان عرب مؤثرين يمتلكون الأغلبية الساحقة في الأراضي الزراعية والذين لديهم قابلية لتزايد ديمغرافي.
واليوم، وبعد 37 عاماً، على ذلك اليوم الخالد في النضال الوطني الفلسطيني، جرت مياه كثيرة وسالت دماء غزيرة وشهدت المنطقة أحداثاً جساماً، تجعل من الضروري والهام الوقوف على واقع القضية الفلسطينية والكشف عما حدث فيها من أخطاء، وتصويب مجرى النضال الوطني الفلسطيني، بما يتناسب والتحديات التي يواجهها الواقع الفلسطيني، والذي أدى إلى تراجع القضية الوطنية الفلسطينية على غير صعيد، ما يتطلب مراجعة نقدية جريئة إلى كل ما آلت إيه القضية الفلسطينية التي زاد من صعاب ما تتعرض له الواقع العربي المتراجع ومتاهاته، وقبل أن يفرض على الشعب الفلسطيني اتفاقيات جديدة أكثر خطورة من اتفاقية أوسلو وملحقاتها، في ضوء تصاعد سياسات القتل الإسرائيلية، وانفلات إجراءات الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، والخطر المحدق بالقدس، من خلال طرد سكانها وإحاطتها بالعديد من المستوطنات، في محاولة محمومة لخلق وقائع جيو سياسية على الأرض، فمنذ أوسلو تضاعف الاستيطان مئات المرات، وتوسعت سياسة تقطيع أوصال الوطن الفلسطيني، وعزل المدن ومنع التواصل الجغرافي والديموغرافي، واتساع دائرة التمييز العنصري، وتشديد الخناق على الأسرى والمعتقلين بغية إخضاعهم. وما يؤسف له أن تواجه هذه السياسة الإسرائيلية فلسطينياً بمزيد من الانقسام والاقتتال والاحتراب وتأجيل المصالحة الوطنية إلى أجل غير مسمى وبتحجيم المقاومة، وقبول البعض بجعل حق العودة والذي هو جوهر القضية الفلسطينية مجالا للتفاوض، الأمر الذي يوجب على كل التيارات والفصائل المسارعة إلى إنجاز المصالحة، بعيداً عن أية حسابات ضيقة وأنانية.
إن الوقائع والمعطيات الإسرائيلية ـ الأمريكية تشير إلى ذلك بوضوح، وأن من بين أحد أهم أهداف زيارة التي قام الرئيس الأمريكي ”باراك أوباما” إلى المنطقة في الأيام الماضية العمل على حل المسالة الفلسطينية وقضية الصراع العربي الفلسطيني بما يتفق والحسابات الإسرائيلية، لأن إسرائيل الآن وفي هذه المرحلة هي القوة الوحيدة المستفيدة من الأحداث التي تجري في المنطقة، وأن حكومة ”نتنياهو” الجديدة تستغل ذلك في محاولة لإعادة تدوير زوايا حالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كما تريد وبالآليات التي تريد، بعد أن تردى واقعنا العربي وانكشفت عورات القضية الفلسطينية على أكثر من صعيد.
إن الحراك الشعبي الفلسطيني ـ العربي ـ الإسلامي المتضامن مع الشعب الفلسطيني المطالب بالعودة وتقرير المصير وبناء الدولة وإنقاذ القدس يذكّر من جهة من نسي أو تناسى بأن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع على الأرض، وتالياً فهو صراع وجود وليس صراعاً على حدود، ولن ينتهي بمعاهدات ولا باتفاقيات، بل بانكفاء الغزوة الصهيونية، وعودة الحق لأصحابه، ومن جهة أخرى، يقول للمحتلين الصهاينة الذين راهنوا على سقوط الفلسطيني في مستنقع الإحباط واليأس، إن إرادة المقاومة والصمود أقوى من كل محاولات التسويف والوعود والتيئيس، وتالياً لن يسلم الشعب الصامد فوق أرضه ”بالأمر الواقع” مهما اشتد سعير النار الصهيونية، ويوم الأرض هو البداية، ليس فقط لرفض الاحتلال وممارساته، بل أيضاً لرفض سياسة الهرولة والتطبيع العربية، وتعرية خيارات السلطة التي تمنع مقاومة الاحتلال وتعيش وهم ”الإنجاز” من مفاوضات عبثية لا قيمة لها إلا في الميزان الإسرائيلي.
يوم الأرض، يوم انتفاضة الدماء لحماية أرض الأجداد، يوم نهاية الحلم الصهيوني بترويض أهلنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948، عبر أدوات القمع تارة وعبر الإغراءات تارة أخرى فانتفض أهل الدار، بالدماء معلنين أن الأرض لنا، ولن تُسرق منا ولن تُزور بأسماء من اختراعات حاخامات الصهاينة… وفي هذه الأيام يتصدى المواطنون الفلسطينيون لاعتداءات قطعان المستوطنين المستمرين في عدوانهم الظالم والاستيطان المستشري في الضفة الغربية والقدس المحتلتين.
وفي يوم الأرض تتأكد الحقائق أن المشروع الصهيوني قائم على الاستيطان، ونهب الأرض وتهويد أسمائها وتغيير معالمها، في حملة مستمرة منذ إعلان الكيان الإسرائيلي وحتى اللحظة بشكل منظم ومنسق لم يتوقف، فما زالت سرقة الأرض مستمرة في كل فلسطين، الضفة المحتلة يُمارس بحقها حملة استيطانية وحشية تنمو كجسم سرطاني بشكل متسارع يقضم الأرض، ويحتل قمم الجبال ويطوق القدس المحتلة ويخنقها ويدمر الأحياء العربية عبر سياسة هدم البيوت، كما أن الجدار العنصري يمضي بتعرجاته من شمال الضفة إلى جنوبها يسيطر على الأراضي الزراعية ومصادر المياه والحياة الطبيعية حتى أصبحت الضفة عبارة عن كانتونات تحيط بها المستوطنات من كل جانب.
أياً يكن الأمر، نحن أمام وضعية جديدة للحراك الشعبي الفلسطيني… نحن أمام يقظة عربية وإسلامية جديدة… عنوانها الأرض، هذه اليقظة قد تتطور وتتصاعد، وقد تنتكس وتتراجع… نقطة البدء في تطوير هذه الظاهرة التي تهز أركان الحلم الصهيوني القائم على الاستيطان والتهويد وتغيير معالم المدن العربية الفلسطينية، تبدأ من فلسطين والفلسطينيين أنفسهم، وقبل غيرهم، ولقد أظهرت الجماهير الفلسطينية في الداخل والشتات، ولاسيما في الضفة الغربية، استعداداً تاماً لاستعادة ”غضبها الذي لم يهدأ إلا ليثور من جديد”…
فيوم الأرض هو يوم الحقوق الثابتة غير القابلة للتفاوض، وهو يوم الهوية، وحق الفلسطيني بالتحرر الوطني، وتقرير المصير بالإرادة الوطنية الخالصة، وهو يوم يجب أن يتم فيه تجديد الذاكرة العربية التي أخذتها سياسات المتآمرين على قضية العرب الأولى فلسطين إلى فضاءات تعطي فيها كيان العنصرية والاستيطان الفرص الكافية للمزيد من الاستيطان والتهويد وضم الأراضي دون أي مقاومة بحجة عدوٍ آخر صار أكثر خطورة على حياة العرب ومستقبلهم من الصهاينة والغزاة ومشاريعهم الشرق ـ أوسطية التفتيتية للأمة العربية جغرافياً وتاريخاً.
نعم يدخل يوم الأرض في هذا العام إلى فضاءات التحول العربي المريبة التي لم تعد جادّة في تذكرِ فلسطين، والأراضي التي تحتلها إسرائيل. لا تذكّر القدس وهدم المسجد الأقصى المزمع، ولا التهويد وإقامة الدولة اليهودية مع حرمان الفلسطينيين من دولتهم الوطنية اللازمة أسوة بشعوب الأرض، وكل الذي تصر على تذكره هو حقوق الإنسان العربي في نظامه العربي، وكذبة الديمقراطية المبحوث عنها والحرية، والربيع العربي الذي حصل من أولى مهامه هدم الدولة الوطنية العربية، وإدخال العرب في أجواء الانقسامات الداخلية، والحروب الأهلية، وتجريف ثرواتهم في خضم ذلك.
هذه هي ـ مع الأسف ـ أجواء العرب الراهنة، فهم قد أدخلوا منذ بداية 2011 إلى فضاءات تم تصويرها بأنها فضاءات تجديد النظم العربية، والتوجه نحو أهداف الأمة في التحرر الوطني، والقومي، والإنساني، ولكن ما حصل الآن على ضوء ربيع تونس، ومصر، واليمن، وليبيا، هو أن نزاعات داخلية حول تركيب النظم الجديدة لن تؤدي إلى التوافقات على تركيبها، بل الظاهر أن النزاعات المسلحة من ليبيا حتى اليمن تنذر بما نبّهت إليه القوى العربية غير المرتبطة بالمخطط الصهيوأميركي حين نبهت من أخذ مسألة الربيع حجة لنسف الجغرافية الراهنة للعرب، جغرافية سايكس ـ بيكو، واستبدالها بكيانات قبلية، وطائفية، وعرقية، ودينية، لن تعود معها وحدة الأمة الجيو ـ تاريخية لأكثر من قرون من الزمان وستكون أكثر خطورة من سايكس ـ بيكو.
اليوم نحيي الذكرى الـ 37 ليوم الأرض، يوم فلسطين، يوم الوطن… ذكرى نجددها كل عام لنقول مع الشعب الفلسطيني: نحن هنا، فلسطين أرضنا وسنعود إليها. واليوم نحن أحوج ما نكون ليوم للأرض، يوم للوطن في كل بلداننا العربية وليس في فلسطين فقط لأن رياح الانقسام والتشرذم وتفتت الأرض وضياعها، تعصف بنا جميعاً، والمأساة أنها رياح عربية بتنا مع استمرار عصفها بنا نخجل أمام فلسطين وقدس أقداسها، فما عسانا نقول لها في ذكرى أرضها المقدسة المحتلة.
المأساة الأخرى إننا في يوم فلسطين نحتاج لتذكير السلطتين الوهميتين الواهمتين في رام الله وغزة بأن فلسطين هي الأرض التي من واجبهما الدفاع عنها والحفاظ عليها موحدة قوية، وأن الشعب الفلسطيني هو الشعب الذي تقع عليهما مسؤولية تمتين وحدته وحمايته من القتل والاضطهاد والحصار قبل التفكير بكرسي وبسلطة معلقتين باحتلال ليس لهما في ظله كرسي ولا سلطة ولا كرامة ولا أرض.
وأخيراً، لقد شكلت الأرض ولا زالت مركز الصراع ولب قضية وجودنا ومستقبلنا، فبقاؤنا وتطورنا منوط بالحفاظ على أرضنا والتواصل معها. ويجب علينا أن نُسجل وقفة تأمل، نحو واقعنا المؤلم فلا أقل من إعادة الاعتبار لخيار الجماهير، التي خرجت في يوم الأرض تُقدم الشهداء وتسكب الدماء من أجل الحفاظ والدفاع عن هذه الأرض وفي مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني… والتأكيد على خيار المقاومة التي هي سبيل التخاطب مع العدو بعد فشل كل خيارات التسوية، ونحن نرى حملة الاستيطان الشرسة في كل الأرض الفلسطينية وبخاصة في مدينة القدس المحتلة التي أصبحت في خطر داهم أكثر من أي وقت مضى.