مقالات
محمد علي.. والذين معه خالد عكاشة مدير المركز المصري للفكر و الدراسات الاستراتيجية
كتبت على صفحتي الشخصية؛ بموقع “فيسبوك” تعليقا اعتبرته حينها حديث سابق لأوانه، وفق تاريخ نشره المسجل في يوم 5 سبتمبر الجاري. على اعتبار أن في هذا التوقيت المبكر، لم يكن الأمر يتعدى نشر “مقطعين فيديو”، لا يوجد أحد لديه المعلومات شبه الكافية التي يمكنها الاحاطة بما يقوله “محمد علي”، ولا بطبيعة المشهد التي يقف وسطه، كي يوجه هذا السيل من الاتهامات والألفاظ المدوية. لكن الأمر لم يكن يحتاج لوقت طويل، كي يستطيع أي متابع “محايد” على الأقل أن يدرك أن الأمر برمته، يقينا هو على غير حقيقة ما يقال على لسانه، أو يروج بدرجة الكثافة التي أقلقت وأزعجت الرأي العام. هذا الغضب الذي انتاب شرائح واسعة من المصريين، بدا له ارتباط وثيق بهذا الرواج الكبير الذي احدثته تلك المقاطع المصنعة بدائيا، وبدت الشهرة المفاجأة للمقاطع بمثابة اختبار مباغت للجميع، نجح فيها من نجح، وانزلق آخرون في خديعة المصداقية التي ظلت مراوغة لأيام.
ما توقعته مبكرا، وأكدته الحوادث والفيديوهات اللاحقة، أن مسألة المستحقات المالية التي تخص محمد علي، والتي حاول اطلاق إيهامه الأولى عنها، وأنها في ذمة الأفرع الهندسية للقوات المسلحة، هي أكذوبة كبرى استخدمت فقط لضمان جذب أكبر قدر من المستمعين والمتابعين، وأن تغليف هذا الأمر بـ”حواديت الفساد” لم يكن الغرض منها سوى تجربة الهجوم، على سمعة القوات المسلحة المصانة لدى الوجدان المصري بدرجة راسخة. فتبدو الهزة كبيرة، ويصير انتظار المزيد من التفاصيل هو الرابط القادر على ضمانة الاستمرارية. ما لبثت تلك الحماسة المفرطة لشخص يبحث ويطالب بحقوقه المهدرة، إلى تحويل الدفة بعد “نصف أسبوع” لا غير، إلى مساحة أخرى أرحب تمكن محمد علي من المضي قدما، وجاء هذا لسببين رئيسيين. الأول أن من هم وراء محمد علي، ليسوا بارعين سوى في قياس مدى التأثير الذي يمكنهم احداثه في ذهنية الكتل المتابعة، لذلك سريعا أيقنوا أن التمادي في تركيز الهجوم على الجيش المصري، سيصاب بانتكاسة سريعة، فما جرى أن الغالبية الكاسحة لم تقف عند حد عدم تصديق الاتهامات المرسلة، التي جرت على لسان محمد علي، انما ذهبت إلى الغضب ورفض الهجوم على الجيش. هذا جرى رصده مبكرا ممن هم يديرون محمد علي، فكان الانتقال السريع إلى مربعات السياسة وإدارة الدولة، وهي مساحات قادرة على الحفاظ على حياة المشهد البائس، إلى أبعد زمني ممكن. بطبيعة السياسة التي بها من الجدليات والأراء التي يمكن أن يظل تغذية محمد علي بها، مستمرا ومتجددا وبه أكبر قدر من التنوع.
السبب الثاني؛ أن المستهدف الحقيقي من تلك الموجة المنظمة، هي نظام الحكم بكامله، ولذلك فالتدرج في الهجوم هو ما استدعى أن تكون القوات المسلحة في الصدارة، على أن يأتي الباقي تباعا في قذائف متتالية. وهنا بالعودة إلى ما دونته في 5 سبتمبر من أن كاتب سيناريو هذا المشهد، والذي يحدد لمحمد علي العناصر الرئيسية التي سيتحدث فيها، حتما سيقع سريعا في مجموعة من الأخطاء التي سيكون مبعثها، الارتباك من تدفق الأحداث ومتغيراتها على الجانب الآخر (المتلقي)، وهو ما جرى بالفعل بعد تشكل مساحة الرأي المتشكك والمرتاب، من الآلية برمتها ومن الشخص في حد ذاته، وتنامى واتسع قدر الارتباك وحجم الأخطاء بعد ظهور الأشباه، الذين تم الدفع بهما لتسخين المشهد وضمانة التنوع في الوجوه. كنت قد ختمت حديثي في التدوين المبكر المشار إليه، بجملة: “ستنجلي فيهم حقيقة الباحث الموهوم عن أمواله الضائعة، ونظراءه ممن سيظهرون تباعا .. وبسرعة”. هذا قبل ظهور “وائل غنيم” و”مسعد أبوفجر”، بأسبوع كامل تقريبا، لكن الآليه كانت تنبئ بذلك وضمانة حياتها كانت تستلزم، ظهور هؤلاء على ذات الصورة التي ظهروا عليها دون زيادة أو نقصان.
في مناقشة جرت ما بيني وبين دكتور صبحي عسيلة، أحد المتخصصين في دراسات الرأي العام حول موضوع آخر، ربما تبدو له علاقة بما نتناوله بصورة أو بأخرى، رغم أن النقاش كان يجري عن الفيلم السينمائي “الممر”، وحينها أشار لي دكتور صبحي أنه قام بكتابة ونشر مقال حديثا بجريدة الأهرام، عنوانه “الممر.. من وإلى”. ما وجدتني أقف عنده في حديثه الطويل عن الأمر، عندما شرح لي تحليله للعنوان وأنه وجده ذو معنى رمزي يشير إلى حقيقة، أن الجيش المصري فعلا يلعب دور مركب في تاريخ وحياة الدولة المصرية، كونه صانع دائم لـ”الممر” الحتمي الذي تحتاجه الدولة المصرية في لحظاتها الفارقة. وتكرار انجازه لتلك الصناعة في ثورة 23 يوليو كمثال، وثورة 25 يناير، و30 يونيو، والعديد من النماذج المشابهة كونها لحظات ما بين مشهدين مختلفين كليا، دفع الجيش المصري بمكوناته الفريدة من جنود وضباط وقيادات رفيعة، لأن يكونوا أنفسهم وقبلهم كيان مؤسستهم العملاقة، هم الممر الآمن من وإلى، كما جاء بعنوان المقال الفريد المشار إليه.
الهجمة شرسة، ومنظمة ولا عشوائية فيها ولا خبل، حتى وإن حاولت أن تظهر على هذه الصورة، لتضمن أن تمر. مثل “البلياتشو” الذي يغرق وجهه بالأصباغ والمساحيق، قبيل صعوده لأداء دوره على خشبة المسرح الفسيح، ورغم الضحكات التي قد ترج الصالة على شقلبة أو حركة بهلوانية عابثة، إلا إن الأمر مرتب بدقة وراء كواليس تلك الخشبة، وعادة يجري اعداد بروفات طويلة وصياغة رسائل موجهه للجمهور، يسهل تفهمها حتى وإن كانت وسط الضحكات الصاخبة. وعلى هذا النسق جرى اعداد محمد علي والذين معه، بغرض احداث ارباك شديد وهزة ثقة قد تمكن أعداء هذا الوطن، من الدخول بفقرات الأسود والأفيال، وإلقاء الخناجر على معصوبي الأعين. فالسيرك أخطر وأبرع ما فيه امكانية مزج الجد بالهزل، في براعة قادرة طوال الوقت على تثبيت أعين وذهنية المشاهدين، وتدق فيه القلوب فزعا وإثارة وهي ترقب الراقصين على الحبال، والسابحين في الهواء بحثا عن أيادي تتلقفهم قبل السقوط على خشبة المسرح.
*نقلا عن صحيفة “الدستور” نشر بتاريخ 19 سبتمبر 2019.