مركز الدراسات
مستقبل ساحة “الجهاد العالمي”… سيناريوهات أربعة – تقى النجار
شهدت ساحة الجهاد العالمي عددًا من التطورات المرتبطة بمستقبل التنظيمات الإرهابية ولا سيما تنظيمي “القاعدة” وداعش”. كان من بين أبرز هذه التطورات التحديات الهيكلية التي يمر بها هذان التنظيمان، سواء على مستوى القيادة، أو على مستوى النفوذ. وبالتالي قد تشهد ساحة الجهاد العالمي عددًا من السيناريوهات الحاكمة لمستقبل تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
تطورات مهمة
هناك عدد من التطورات التي شهدتها ساحة الجهاد العالمي، يتعلق بعضها بتنظيم “داعش”، ويقصر بعضها على تنظيم “القاعدة”، وينصرف بعضها إلى كلا التنظيمين، وهو ما نوضحه في النقاط التالية:
1- مناطق نفوذ داعشية جديدة: سعى تنظيم “داعش” إلى إيجاد مناطق نفوذ جديدة بعد تراجعه في سوريا والعراق، بهدف تجاوز هزائمه، واستعادة نشاطه، لذلك كان الانتقال الاستراتيجي للتنظيم إلى منطقتي آسيا وغرب إفريقيا (منطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص)، لما يتوافر في تلك المناطق من عوامل محفزة للإرهاب والتطرف؛ حيث الصراعات الطائفية، والانقسامات العرقية، والتباينات الدينية.
وتعد منطقة غرب إفريقيا نموذجًا مثاليًا لإعادة تموضع داعش، وذلك بسبب ضعف قبضة الدولة، بالإضافة إلى التضاريس الجغرافية الوعرة، وانتشار النزاعات القبيلة، وتغلغل جرائم الاتجار بالبشر. في هذا الساق، دشن التنظيم ثلاث ولايات جديدة، هي: “ولاية وسط أفريقيا”، و”ولاية الهند”، و”ولاية باكستان”. وفى هذا السياق أيضا تجدر الإشارة إلى أن تمدد تنظيم “داعش” في آسيا وأفريقيا هو تمدد في مناطق نفوذ تاريخية وتقليدية لتنظيم “القاعدة” ما يطرح عديد من السيناريوهات والاحتمالات، كما سيتم تناوله بعد.
2- تقويض نفوذ القاعدة في سوريا: يواجه تنظيم “القاعدة” في سوريا حالة من التشتت وتشظى الكيانات التابعة له هناك والمتمثلة بالأساس في تنظيمي “هيئة تحرير الشام”، و”حراس الدين”؛ إذ شنت وزارة الدفاع الأمريكية في الثاني من سبتمبر 2019 هجومًا صاروخيًا استهدف اجتماعًا عقده زعماء “حراس الدين”، و”أنصار التوحيد” داخل مخيّم تدريب قرب مدينة إدلب، ما أسفر عن تصفية ما يزيد عن أربعين مقاتلاً منهم. ويعد تنظيم “حراس الدين” هو الفصيل الجهادي الأهم في الشمال الغربي، ويدين بالولاء لتنظيم “القاعدة”. وقد تشكل في فبراير 2018، بعدما انشق عن “هيئة تحرير الشام”.
وفى السياق ذاته، تواترت الأنباء في نهاية سبتمبر الماضي عن قرب “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، من حلّ نفسها وحلّ حكومة الإنقاذ والمجالس المحلية التابعة لها، وذلك بضغوطٍ تركيةٍ بناء على اتفاقاتٍ مع روسيا بهدف تثبيت وقف إطلاق النار. وأكدت مصادر مختلفة أن المفاوضات التي تجري بين “هيئة تحرير الشام” و”فصائل الجبهة الوطنية للتحرير” تهدف إلى حل الأولى، وتسليم الإدارات لحكومة جديدة تُشَكل من فصائل الأخيرة.
وتعد “هيئة تحرير الشام” هي النسخة الثالثة من تنظيم “القاعدة” في سوريا، وبالرغم من انفصال الأولى عن الأخيرة، نتيجة لتحفظ تنظيم “القاعدة” على علاقة “هيئة تحرير الشام” بتركيا، إلا أن بعض المراقبين يروا أن هذا الانفصال لا يعدو كونه أكثر من انفصالٍ شكلي، وأن العلاقة لا تزال قائمة بين التنظيمين. وتلقى تلك المستجدات بظلالها على نفوذ تنظيم “القاعدة” في سوريا الذي يسعى ليقدم نفسه بديلًا أكثر اعتدالًا من تنظيم “داعش”.
3- التحديات الهيكلية: يمر كل من تنظيمي “داعش” و”القاعدة” بتحدياتٍ هيكليةٍ كبرى؛ فبجانب الهزيمة العسكرية التي تعرض لها تنظيم “داعش”، يشهد التنظيم حالةً من الخلافات الحادة بين أروقته، ناهيك عن فقدانه عديد من قيادات الصف الأول والثاني، بالتزامن مع تدهور الحالة الصحية لزعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” ومعاناته من مشاكل صحية كبيرة طبقًا لاعترافات “رباح علي إبراهيم علي البدري” (ابن عم “البغدادي) أمام القضاء العراقي. وهو ما دفع “البغدادي” إلى ترشيح “عبد الله قرداش” لزعامة تنظيم “داعش”، والذي ويوصف بأنه من أشرس وأقسى قادة التنظيم.
وفى هذا السياق، أفادت الأنباء بمقتل “حمزة بن لادن” الذي كان يُنظر إليه باعتباره النجم الذي سيلهم الجيل المقبل من الجهاديين، وذلك بالتزامن مع تصاعد الحديث حول تدهور الحالة الصحية لزعيم القاعدة الحالي “أيمن الظواهري”، إذ أشار تقرير أممي إلى أن “الظواهري في حالةٍ صحيةٍ سيئة”. وقد برزت أسماء مرشحه لتولي زعامة تنظيم “القاعدة”، على رأسها “أبو محمد المصري”، وهو الرجل الثاني في تنظيم القاعدة. كذلك “سيف العدل”، وهو من أبرز قيادات تنظيم “القاعدة”. ما يلقى بظلاله على حجم التحديات الهيكلية التي يمر بها التنظيمان.
4- تداعيات المفاوضات الأمريكية مع “طالبان” على “القاعدة” و”داعش“: بالرغم من تعثر مفاوضات السلام بين الولايات المتحدة و”طالبان” مؤخرًا، نتيجة لإعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في الثامن من سبتمبر2019 إلغاء مفاوضات السلام مع “طالبان” وذلك بعد تبني الحركة هجوما في كابول، غير أنه في حالة استئناف المفوضات مرة أخرى وتوقيع اتفاق سلام مع “حركة طالبان”، خاصة أن الإدارة الأمريكية قد اقتربت من التوصل لاتفاق مع الحركة، فإن ذلك قد يؤدي إلى انشقاق بعض عناصر الحركة وانضمامها إما إلى “القاعدة” أو تنظيم “داعش”، لاسيما وأن أطروحات الأخير تدعم فكرة الخلافة الأممية.
5- مستجدات الساحة السورية: تتمثل أول تلك المستجدات في إطلاق تركيا حملاتها العسكرية المسماة بعملية “نبع السلام” في شمال شرق سوريا في التاسع من أكتوبر الجاري، وما ترتب على تلك الحملة من توفير غطاء لمئات من عائلات مسلحي “داعش” وسجنائه للفرار من المخيمات التي تسيطر عليها القوات الكردية. ويتصل ثانيها بإعادة انتشار القوات الأمريكية من أجل تجميع صفوفها على الحدود العراقية السورية، إذ أن انسحاب الولايات المتحدة من شرق سوريا سيزعزع استقرار المنطقة بأسرها بما في ذلك مناطق سيطرة الأكراد في العراق. ومن ثمّ، تتيح تلك المتغيرات الفرصة لإعادة تموضع داعش مرة أخرى في مناطق نفوذه التقليدية، لاسيما أن التنظيم أمضى الأشهر الأخيرة في إعادة تجميع صفوفه في ملاذات ريفية، وشن هجمات وحرب عصابات على دوريات قوات سورية الديمقراطية، وجمَّع قواته لشن هجمات لاحقة على مدن وبلدات مهمة.
سيناريوهات محتملة
تطرح التطورات السابقة تساؤلاتٍ مُهمةٍ حول السيناريوهات الحاكمة لمستقبل ساحة الجهاد العالمي، والتي يمكن تحديدها في السيناريوهات الأربعة التالية:
1- التحالف التكتيكي
يُشير هذا السيناريو إلى إمكانية إيجاد نوع من التحالف التكتيكي المؤقت بين تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، وذلك في ظل الضغط العسكري الذي يتعرضا له بفضل الجهود الدولية والإقليمية لمواجهتهما، بالتزامن من فقدان تنظيم “داعش” عددٍ كبيرٍ من قدراته البشرية واللوجستية، ما يعني حاجته إلى تعويض تلك الخسائر عبر التنسيق والتعاون مع مجموعات مرتبطة بتنظيم “القاعدة”، الذي اتبع سياسة “الصبر الاستراتيجي”، وتجنب الدخول في معاركٍ متعددة، وفتح جبهات قتالً مختلفةً. ناهيك عن إمكانية نجاح المفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة” طالبان”، وما تمثله من دافعٍ محفرٍ لتحالف بين “القاعدة” و”داعش”، لاسيما في ظل إمكانية تبرأ حركة “طالبان” من دعم تنظيم “القاعدة”.
ومن ثمّ، قد يلجأ التنظيمان إلى تجاوز الخلافات الإيديولوجية، سعيًا لتوحيد جبهة الجهاد العالمي، لاسيما أن تنظيم “القاعدة” لم يعد يُعوّل بنسبةٍ كبيرةٍ على استراتيجية “العدو البعيد”. وقد برز ذلك في تعليمات الظواهري “لمحمد الجولاني” (زعيم جبهة النصرة) بعدم استخدام سوريا كمنصة لمهاجمة الغرب. أضف إلى ذلك، فإنه مع تولي “أبو محمد المصري” النائب الحالي للظواهري قيادة تنظيم القاعدة، من المرجح أن يتقارب تنظيم “القاعدة” ايدولوجيا مع “داعش”، وذلك في ظل تمسك “أبو محمد المصري” بأن قتال “العدو القريب” أولى من قتال “العدو البعيد”، وذلك هو إحدى المنطلقات الفكرية لتنظيم “داعش”. ويستشهد هذا السيناريو بالتحالف الذي تم بين “تنظيم الدولة في الصحراء” وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة للقاعدة والذي أعلن عنه في يناير 2018. ناهيك عن تواتر تقارير استخباراتية تُفيد بوجود حالاتٍ كثيرة لانضمام عناصر من كلٍ منهما للآخر، ما يُنذر بتزايد العمليات الإرهابية مستقبلًا، نتيجة لوجود بوادر تُشير إلى توحيد قدرات التنظيمين سواء البشرية أو المادية أو اللوجستية.
2- تقاسم النفوذ
يتصل هذا السيناريو بالسيناريو السابق. ففي ضوء التحديات التي يتعرض لها التنظيمان، سواء على مستوى التصّدعات الداخلية أو تقويض النفوذ على الأرض، بدأ تنظيم “داعش” في الانتقال الاستراتيجي إلى أفريقيا وآسيا بحثًا عن ساحاتٍ جديدةٍ للتمدد والبقاء، غير أن أفريقيا وآسيا هي مناطق قاعدية الإرث، سواء على المستوى المحلي أو المستوى التاريخي، فقد نجح تنظيم “القاعدة” في التجذر في المجتمعات المحلية في منطقة غرب أفريقيا على وجه العموم، ومنطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، ناهيك عن النفوذ التاريخي لتنظيم “القاعدة” في آسيا.
وعلى صعيد آخر، يشهد تنظيم “القاعدة” في سوريا تقويض لنفوذه، إذ كان يُعد نفسه للاستحواذ على إرث “داعش” في سوريا. وعليه، قد يعمل “القاعدة” على تعزيز وتركيز نشاطه في آسيا وأفريقيا بحثًا هو الآخر عن مساحات جديدة. وانطلاقًا من أن التنظيمات الإرهابية تتميز بقدرتها على التعلم التنظيمي والاستفادة من الدروس والخبرات التي تعرضت لها، فقد يلجأ التنظيمان إلى التعايش المشترك عبر تقاسم النفوذ الجغرافي، والمنافسة بلا اقتتال، وهذا هو الأخطر، لأنه سيمنح لهما مساحات للتمدد دون خسائر.
3- نسخة جديدة من “داعش”
يُشير هذا السيناريو إلى احتمال أن تشهد الساحة الجهادية نسخة جديدة من تنظيم “داعش” تحت قيادة “عبد الله قرداش” (خليفة البغدادي) لقيادة تنظيم “داعش”، لاسيما مع تواتر الأنباء حول سوء الحالة الصحية للأخير. ومن شأن هذا الكيان أن يتشكل من أطفال “الدواعش” بالإضافة إلى أبناء المعتقلين وقتلى التنظيم، وهؤلاء عمل التنظيم على تدريبهم وتأهيلهم تمهيدًا لزجهم بالمعارك مجددًا، فهم الضمان الاستراتيجي والعملياتى لبقائه. ناهيك عن تزايد احتمال انتقال عددٍ من عناصر تنظيم “القاعدة” إلى تنظيم “داعش”، مع وفاه” حمزة بن لادن” الذي كان يُمثل الزعامة الكاريزمية، بالتزامن مع مرض “الظواهري” الذي يُمثل الزعامة التاريخية للتنظيم، وبالتزامن أيضا مع احتمال خروج عديدٍ من عناصر حركة “طالبان” المعارضة للمفاوضات القائمة مع الولايات المتحدة وانضمامها إلى تنظيم “داعش”، الذي يقدم نفسه ككيانٍ نضالي.
ومن ثمّ، يتم تدشين كيانٍ جديدٍ يحمل اسم جديد ويحمل صفات هجينة، ويضم كلًا من حماسة أطفال “الدواعش”، وخبرة عناصر “القاعدة”، ومهارة عناصر “طالبان”، بالإضافة إلى الفارين الدواعش من السجون والمخيمات. ويستشهد هذا الطرح بمسار انطلاق تنظيم “داعش”، إذ تحول التنظيم من فرع للقاعدة تحت مسمى” تنظيم القاعدة في العراق”، واتخذ اسمًا جديدًا وهو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وعمد إلى اتباع سياسة أشد فتاكًا من “القاعدة” سعيًا للسيطرة على ساحة الجهاد العالمي وهو ما تحقق له بالفعل وإن كان لفترة ليست بالطويلة.
4- التنافس الجهادي
يُشير هذا السيناريو إلى احتمال تصاعد التنافس الجهادي بين تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، في ضوء الخسائر التي تعرض لها التنظيمين، فإنهما سيسعيان إلى التنافس الجهادي في مناطق النفوذ المشترك رغبةً منهما في تعزيز صورتهما الجهادية، وسعًيا إلى تأكيد نفوذهما، واجتذاب المقاتلين. ويستشهد هذا الطرح بالصراع الذي شهدته الساحة السورية بين “داعش” و”جبهة النصرة” (فرع تنظيم القاعدة في سوريا) من ناحية، و”داعش” و”القاعدة في اليمن من ناحية أخري، حيث كان الصراع على النفوذ. كذلك التنافس في تونس بين “كتيبة عقبة بن نافع” التابعة لتنظيم “القاعدة”، و”جند الخلافة” المنطوية تحت راية “داعش”، إذ كان ذلك التنافس على تجنيد واستقطاب المقاتلين. كذلك التنافس بين “داعش” و”القاعدة” في الصومال، حيث كان التنافس على مصادر التمويل. ومن ثمّ، قد يلجأ التنظيمان إلى شن هجماتٍ مدويةٍ بغرض استقطاب المتطرفين حول العالم، وتأكيد سيطرتهما على ساحة الجهاد العالمي في سياق التنافس الجهادي بينهما.
مجمل القول، في ضوء التطورات سالفة الذكر، تبقي كل السيناريوهات السابقة مطروحة ومحتملة الحدوث، غير أن ما يرجح سيناريو عن الآخر هو قوة أو ضعف الدولة؛ ففي حالة ضعف قبضة الدولة، تلجأ التنظيمات إلى التنافس والصراع، سعيًا للسيطرة على مساحات جغرافية، أما في حالة قوة الدولة وقدرتها على فرض إرادتها، فإن التنظيمات قد تلجأ إلى التحالف والتعايش المشترك بغرض مواجهة الضغوط العسكرية التي تتعرض لها.
نقلا عن: المركز القومي للفكر والدراسات الاستراتيجية