مقالات
حال عرب نكسة 67.. وحال عرب اليوم! – صبحي غندور*
يُرجِع بعض العرب سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، رغم مرور أكثر من نصف قرنٍ على حدوثها، بينما الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي الذي وضعه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فكان ذلك بداية لمرحلةٍ مازلنا نعاني من آثارها الخطيرة حتى اليوم!.
إن زيارة السادات لإسرائيل في العام 1977 كانت حلقةً في سلسلة مترابطة أوّلها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل كلّ نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية وتوريط أكثر من طرف عربي لسنواتٍ عديدة فيها.
إنّ الحقبة السياسية بعد حرب أكتوبر 73 (وليست النتائج السياسية لحرب العام 1967) كانت بالنسبة لنا كعرب هي الأخطر، لأنها أوجدت بذوراً لكلّ ما نعانيه الآن.
لقد كانت حرب رمضان/أكتوبر في العام 1973 درساً لأميركا وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 67، والقوة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والعلاقات الثنائية الخاصة مع بعض دول المنطقة، هي كلّها عناصر لم تكن كافية لضمان المصالح الأميركية في المنطقة، ممّا دفع بأميركا إلى إعادة حساباتها في ظلّ إدارة هنري كسينجر للسياسة الأميركية الخارجية.
فإذا بالمنطقة العربية تنتقل من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، وقرار حظر النفط تضامناً مع مصر وسوريا، ثم القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية.. إذا بها تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعال.. إلى إشعال الحروب العربية/العربية، والحرب العراقية/الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة وتعرّض بيروت عام 1982 – كأوّل عاصمة عربية- للاحتلال الإسرائيلي.
فكانت آثار تلك المرحلة ليست في تعطيل دور مصر العربي فقط، بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره.
وإذا كان أنور السادات قد دفع بمصر في أواخر السبعينات إلى سلامٍ منفرد وناقص ما كان يجب أن يفعله وأدّى بذلك إلى اختلالٍ وتدهور في الوضع العربي.. فإنّ صدام حسين أيضاً دفع بالعراق في الثمانينات ومطلع التسعينات إلى حروبٍ ما كان يجب أن تحصل، وما كان يمكن أن يقوم بها لولا الاختلال الذي حصل في الجسم العربي نتيجة سياسة أنور السادات وغياب دور مصر الفاعل.
أيضاً، لولا هذه السياسات الخاطئة في “السلم والحرب” من قبل قيادتيْ مصر والعراق آنذاك لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. وممّا أدّى لاحقاً إلى تراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جليّاً في “اتفاق أوسلو” الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأن خاص بقيادة منظمة التحرير – وليس حتى بالشعب الفلسطيني كلّه – فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعف وضع المقاومة الفلسطينية المسلّحة المشروعة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت “منظمة التحرير” مسؤولة عن تأمين أمن إسرائيل! .. إضافةً طبعاً إلى تبرير أنواع العلاقات كلّها والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة الدول الأفريقية والآسيوية.
***
وحلّت الآن على العرب ذكرى مناسبتين هامّتين في التاريخ العربي المعاصر. الأولى، هي مناسبة ذكرى تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/مايو 2000، والثانية، هي مناسبة ذكرى هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967. وتأتي هاتان المناسباتان تزامناً مع ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية من مواجهة بطولية قام بها الشعب الفلسطيني في كافة الأراضي المحتلة ضد العدو الإسرائيلي.
ورغم وجود تناقض من حيث الشكل بين الاحتفال بالنصر على إسرائيل في لبنان بالعام 2000 وبين ذكرى هزيمة العرب في حرب عام 1967، فإنّي أرى تطابقاً وتكاملاً بين المناسبتين، ليس فقط في طبيعتهما المتّصلة بالصراع العربي/الصهيوني، ولكن أيضاً في منهج التعامل مع هذا الصراع بوجهيْه السياسي والعسكري.
إنّ انتصار المقاومة اللبنانية على إسرائيل وإجبارها على الانسحاب غير المشروط في لبنان، كان تأكيداً للمقولة التي أطلقها جمال عبد الناصر بعد حرب 67 بأنّ “ما أُخِذ بالقوّة لا يُستردُّ بغير القوّة”، كما كان انسجاماً طبيعياً مع ما وضعه جمال عبد الناصر عقب حرب 67 من استراتيجيّة لإزالة آثار العدوان، تلك الاستراتيجية التي قامت على الجمع ما بين مقرّرات قمّة الخرطوم (1967) الرافضة للمفاوضات المباشرة وللصلح والاعتراف بإسرائيل، وبين حرب الاستنزاف التي قامت بها القوّات المصرية على جبهة السويس لأكثر من عامين وإلى حين وفاة ناصر تقريباً.
لقد كانت هزيمة العام 1967 سبباً مهماً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية حيث وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولويّةٍ أعطاها ناصر لإستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة؛ بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن والتصالح مع الدول العربية كلّها والسعي لتوظيف كلّ طاقات الأمّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلة.
وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث التي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر. فقد أدرك عبد الناصر ومعه كلُّ أبناء الأمّة العربية أنَّ التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت ست سنوات (1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها، ولو إلى حين!.
لكن هذه الدروس الهامّة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وهاهي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ودفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.
إنّ الغضب الشديد على الوضع العربي الراهن يعتمر الآن في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ أينما وُجِد. وهذا أمرٌ جيّدٌ ومطلوب. غضبٌ على حكومات عربية تقف عاجزةً أمام عدوٍّ إسرائيلي يمارس القهر والعدوان على الفلسطينيين، بينما ترفض هذه الحكومات حتى طرد الإسرائيليين من بلادها، فكيف بمقاتلة إسرائيل؟!
غضبٌ عربيٌّ عارم هو أيضاً على السياسة الأميركية ومهزلة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة و”غابة المجتمع الدولي”.
وبمقدار ما تألّم العرب من وجع سياسات قام بها الحكم المصري عند توقيع المعاهدة مع إسرائيل، ومن تهميشٍ ثمَّ لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الحنين إلى حقبةٍ ما زالت تذكرها أجيال عربية كثيرة، وهي حقبة جمال عبد الناصر التي تميّزت بحالة معاكسة تماماً لحال المنطقة العربية الآن!.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: Sobhi@alhewar.com