مقالات
في الذكرى ألـ 65 لاندلاع ثورة التحرير: تحية الإجلال والإعزاز والإكبار لشهداء الثورة الجزائرية – مصطفى قطبي
اليوم، وذكرى الأول من نوفمبر التي هي لحظة انطلاق الثورة ليست بعيدة، فإن الكتابة عنها تظل ساخنة، صادقة، وبنفس ملحمي يمكن للكاتب أن يسترجع تلك الأحداث الكبرى التي استمرت سنيناً، واتخذت أشكالا مختلفة إلى أن تم إنجاز الاستقلال. اليوم تتمتع الجزائر بتلك الاستقلالية لكنها لم تدر ظهرها إلى ماضيها الذي كان… لا تنسى شهداءها… فقد شكل انتصار الجزائر بوصلة للأجيال التي ترفض أن يكون الدولار دليلها، والذل المصبوغ بالنفط وسيلة عيشها، فقد أبدع الشعب العربي الجزائري أسطورته الفريدة في تحشيد الجماهير، وزجها في معركة التحرير في مواجهة الاستعمار الفرنسي الغاشم، والذي كان قد انتصر في حربين عالميتين، متقناً قهر الشعوب واستعبادها وإزهاق أرواح شيبها وشبابها وتدمير حضارتها وتراثها، وتدنيس كراماتها، فأهين في الجزائر، وكنس من أرض البطولات في جزائر الرجال بعدما كان يعتبرها (فرنسا ما وراء البحار) على حد زعمه طوال عمره الاستعماري!
وقد تجلت عظمة الثورة الجزائرية في أنها دخلت الوجدان والوعي العربي والعالمي، فاستحقت جدارة التعاطف والتضامن والإسناد بمقدار ما قدمت من جهاد نادر، وعناد صلب، ودماء فضحت الوجه الأبشع للاستعمار الفرنسي ليظهر على حقيقته من التوحش والغطرسة والولوغ في دم الشعوب. وقد استقطبت الثورة وبخاصة في عقدها الأخير آمال وأحلام كل أباة الضيم، والطامحين للتحرير والكرامة. ولعل أنبل آيات الثورة الجزائرية التي نحتفل بذكراها هذه الأيام، أنها تحولت إلى رمز كفاح وقضية تحرير وطني عالمي بفضل شلالات الدماء التي قدمتها فأصبحت قدوة للشعوب المضطهدة والمغلوبة في القارات الثلاث (أسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية)، والمحفز الأقوى على الثورة في وجه الغزاة والطغاة، لتحقيق النصر وتحرير الأرض والإنسان وسيادة الكلمة والقرار الوطني والقومي للشعوب المغلوبة. فكيف نقرأ هذه المناسبة الوطنية الخالدة؟
لقد عاشت الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي وضعاً صعباً، بسبب سنوات طويلة من سياسات الفرنسة المصحوبة بحملات قمع قاسية أخذت أحياناً شكل حملات الأرض المحروقة التي قادها جنرالات فرنسيون أرادوا خنق إرادة الحرية لشعب الجزائر، وفي واقع الأمر تعايشت على أرض الجزائر مجموعتان سكانيتان متمايزتان يحكمهما حاكم عام يعينه مجلس الوزراء الفرنسي، فتمتع المستوطنون بكل الحقوق السياسية وبالعديد من الامتيازات الاقتصادية والثقافية، في حين عاش الجزائريون (أو مسلمو الجزائر وفق التسمية الفرنسية) ظروفاً صعبة.
ولم يكن الاحتلال الفرنسي للجزائر مجرد إخضاع عسكري ونفوذ سياسي، بل كان ذا أبعاد حضارية وثقافية واسعة، أرادت فرنسا من خلالها طمس الشخصية العربية والإسلامية للجزائر، وجعلها تابعاً ذيلياً يدور في الفلك الفرنسي بلا إرادة ولا انتماء خاص. وإننا نخطئ كثيراً حينما ندرس حروب الفرنجة التي تسميها أوروبا (الحروب الصليبية) في إطار المشرق العربي فحسب، متجاهلين أو متناسين الهجمة الأوروبية في المغرب العربي بدءاً من الحرب الإسبانية ـ العربية التي كانت الوجه الآخر لحروب المشرق الصليبية، ومروراً بكل أشكال الصراع المرير بين أوروبا في شمال المتوسط، والعرب جنوب المتوسط وشرقه. وحينما سقط المعقل العربي الأخير في الأندلس عام 898 هـ ـ 1492م وخرج المسلمون من غرناطة ومن الأندلس، امتدت الملاحقة الأوروبية متمثلة باسبانيا والبرتغال تجتاح الشواطئ المغربية والجزائرية على الأطلسي والمتوسط، وتتجاوزها إلى البحر الأحمر والخليج والمحيط الهندي في موجة عرفت باسم الاستعمار الأوروبي وكشوفه الجغرافية، ثم دخلت بريطانيا وفرنسا حلبة السباق الاستعماري بشكل طغى على الدور الأسباني والبرتغالي، وتوزعتا مناطق النفوذ في الأقطار العربية والإسلامية وبقية آسيا وأفريقيا وأمريكا .
لقد أدرك المستعمرون أن بقاءهم واستمرارهم لا تكفيه القوة العسكرية، وإنما كان لابدّ له من غزو ثقافي وفكري يزلزل الأسس الفكرية التي تقوم عليها شخصية الشعب بشكل يتيح للقوة المستعمرة إذابة تلك الشخصية أو تشويهها.
يقول الكاتب البريطاني ايفنز وهو أستاذ التاريخ في جامعة بورتس سماوس ومتخصص في التاريخ الفرنسي في مؤلفه ”الجزائر حرب فرنسا غير المعلنة” الذي صدر مع نهاية العام 2011 عن منشورات جامعة اكسفورد البريطانية: ان حرب الجزائر تركت جراحاً عميقة في المجتمع الجزائري وآثار ذات دلالة على المجتمع الفرنسي، وقد أدت تلك الحرب إلى عودة مليون ونيف من المستوطنين الفرنسيين إلى بلدهم فرنسا، وهؤلاء هم من تبنى مبادئ اليمين المتطرف الذي يتزعمه اليوم جان ماري لوبين وتستشهد ابنته) (رئيسة هذا الحزب) بطروحات أولئك المستوطنين الفرنسيين الذين كانوا مصاصي دماء الشعب الجزائري وناهبي ثروات أرضه، ويعتمد ايفنز على الأرشيف لتوثيق ما جاء في كتابه هذا.
ففي تلك الحرب غير المعلنة يضيف ايفنز أعمال العنف والتظاهرات التي هزت الشارع الجزائري نهاية الحرب العالمية الثانية بخاصة أحداث أيار 1945 في شرق الجزائر والتي شكلت فاصلا هاماً في تاريخ تلك الحرب حيث اندلعت مواجهات مسلحة ارتكب فيها الفرنسيون مجازر وحشية فظيعة من تقطيع أوصال و نثر أشلاء، وكانت عصابات المستوطنين الفرنسيين تهاجم منازل الجزائريين تحت جنح الظلام تساعدها في ذلك مرتزقة تم استئجارها لحساب القوات الفرنسية المستعمرة ولم تكن الجزائر بالنسبة لهؤلاء مستعمرة فقط بل كانوا يرونها جزءا لا يتجزأ من الأرض الفرنسية حيث وحدوا البنى الإدارية منذ العام 1880 ولم يكن مطروحاً أبدا انسلاخ الجزائر عن فرنسا، كما أن الشرائع كانت قائمة بين الجزائر وفرنسا بسن قوانين قمعية بامتياز ولم تكن تطبق الا على سكان الجزائر.
ويتابع المؤرخ ايفنز في كتابه: وفي الجزائر التي اعتبرها الفرنسيون أرضاً فرنسية، فقد رسخوا طابع التمييز العنصري حتى على صعيد التوزيع السكاني، فالأوروبيون بجهة واليهود بجهة أخرى والجزائريون لهم جهتهم، وكانت تلك الفئات تسكن في أماكن متباينة منفصلة عن بعضها البعض ولم تكن تختلط إلا نادراً. ويستطرد الكاتب قائلاً: وكان الموعد الطارئ على تلك المرحلة هو عام 1999 حين جاءت الجمعية الوطنية الفرنسية بأن معركة الاستقلال كانت حرباً بكل معنى الكلمة. ولابد من القول إن امتداد الثقافة الفرنسية من باريس إلى المستعمرات الفرنسية في أفريقيا الوسطى والغربية عبر فوق جسر يدعى الجزائر. ويتابع ايفنز في تفاصيل معركة الجزائر عام 1957 وتعذيب المثقفين والنخب الجزائرية على أيدي القوات المستعمرة: لقد كتب أحد الجنود الفرنسيين رسالة يقول فيها: إذا أقيمت محكمة جديدة ل نورمبرغ يوماً ما، فمن المؤكد أننا سنقدم إلى تلك المحكمة كفرنسيين مذنبين.
وعود على بدء. فحينما مر قرن على احتلال فرنسا للجزائر قام الفرنسيون بإحياء احتفالات هائلة بهذه المناسبة، حاولوا من خلالها التأكيد على أن فرنسا دخلت الجزائر لتبقى فيها… وأن قروناً سوف تلي هذا القرن من الاحتلال، وكانت فرنسا خلال ذلك القرن قد سحقت عدة ثورات قام بها أبناء الجزائر الأبطال ابتداءً بالأمير عبد القادر، ومن بعده أولاد سيدي الشيخ، ثم ثورة المقراني. ومارست فرنسا كل أشكال القمع الفكري وألغت كثيراً من المساجد والمكتبات والمدارس العربية، وكمّت الأفواه وخنقت الحرف العربي، واصطفت للتعليم الفرنسي فئة لا تتجاوز اثنين بالمائة من مجموع السكان لتستخدمهم في الدوائر والوظائف العامة. وحسبت فرنسا أن الإنسان الجزائري ألقى سلاحه ونسي شخصيته، ولم تكن تدري أن النار تحت الرماد، وأن الشخصية العربية الإسلامية أقوى من قرن الاحتلال بكل جبروته وطغيانه.
كانت احتفالات الفرنسيين يوم الخامس من يوليو (تموز) عام 1930 م ولكن فرحتهم لم يقدر لها أن تستمر، فقبل مرور عام على بداية الاحتفالات جاء التحدي من مدينة ”قسنطينة” في الشرق الجزائري، على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس وزملائه الأبرار الذين أعلنوا قيام ”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” يوم الخامس من مايو (أيار) عام 1931 م ـ أي بعد عشرة أشهر من احتفالات فرنسا ـ وأعلنت الجمعية كفاحها السلمي من أجل تحرير الجزائر تحت شعار: (الإسلام ديننا ـ والعربية لغتنا ـ والجزائر وطننا).
لقد ظلت الأمور تتفاقم، لكن الشعب الجزائري ظل على وعيه بأهمية تحرير بلاده واستقلاله التام عن فرنسا… فكان أن أسس فرحات عباس حركة البيان والحرية التي تقول بقيام جمهورية جزائرية مستقلة ذاتياً ومتحدة مع فرنسا، فوقع بينه وبين مصالي الحاج خلاف كبير والذي نصح فرحات بقوله ”إن فرنسا لن تعطيك شيئاً وهي لن ترضخ إلا للقوة، ولن تعطي إلا ما نستطيع انتزاعه منها… ولم يمضِ وقت طويل حتى استغلت فرنسا قيام بعض التظاهرات في الثامن من مايو 1945 في عدد من المدن الجزائرية وإحراقها للعلم الفرنسي، فقامت بارتكاب أكبر مذبحة في التاريخ سقط فيها في يوم واحد 45 ألف شهيد، فاعتبر ذلك تحولا مهما في كفاح الجزائريين من أجل الحرية والاستقلال، إذ أدركوا أن لا سبيل لتحقيق أهدافهم سوى العمل المسلح والثورة الشاملة، فانصرف الجهد إلى جمع السلاح وإعداد الخلايا السرية الثورية بتوجيه وتمويل ودعم عربي حتى يحين الوقت لتفجير الصراع المسلح.
أما وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه وبات الجزائريون مستعدين بكافة أشكال الاستعداد، فقد تم وضع اللمسات الأخيرة للتحضير للثورة في الـ23 من مارس 1954 بميلاد اللجنة الثورية للوحدة والعمل وإصدارها مجلة ”الوطني” ثم تقرر تفجير الثورة التحريرية في الـ23 من أكتوبر 1954، لكن في الأول من نوفمبر تقرر اندلاع الثورة بنداء الأول من نوفمبر 1954 حيث دعا النداء إلى استقلال الجزائر واسترجاع السيادة الوطنية وإنشاء دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار من المبادئ الإسلامية، وتم إنشاء جبهة التحرير الوطني الجزائري بعد تم حل جميع الأحزاب والفصائل السياسية ضمن تلك الجبهة، فكان جيش التحرير الوطني هو جناحها العسكري (تماماً كما فعلت حركة ”فتح” لاحقاً. وبعد سنين حيث عمدت بعد انطلاقتها إلى تسمية قوات العاصفة فصيلها العسكري)… وكانت تهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات الأساسية والسياسية المكونة للحركة الوطنية… وكان تحديد تاريخ انطلاق الثورة هو في ليلة يوم أحد كتاريخ للانطلاق المسلح يخضع لمعطيات تكتيكية عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط الجيش الفرنسي في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد مسيحي…
أما النداء الذي أطلقته الثورة فكان على الشكل الآتي: أيها الشعب الجزائري… أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية… أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا، نعني الشعب بصفة عامة، والمناضلون بصفة خاصة، نعلمكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا إلى العمل، بل نوضح لكم مشروعنا والهدف من عملنا ومقومات وجهة نظرنا الأساسية التي دفعتنا إلى الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي، ورغبتنا أيضا هو أن نجنبكم الالتباس الذي يمكن أن توقعكم فيه الامبريالية وعملاؤها الإداريون وبعض محترفي السياسة الانتهازية. ثم عرض البيان أسباب الانطلاقة والتحرك الثوري الذي عرف به وهي: ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية. ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
نشير هنا الى أنه وبعد اندلاع العمليات العسكرية ضد المصالح الفرنسية في الجزائر وبعد فترة من التخبط في تحديد أسلوب مواجهة ما، اعتبر مشروع حرب عصابات لجأت السلطات الفرنسية إلى نشر قرابة أربعمائة ألف جندي لمواجهة ثورة الشعب الجزائري، وتشير الإحصائيات الفرنسية إلى أن الصراع المسلح أدى إلى مقتل حوالي أربعمائة ألف جزائري (في حين تقول الإحصائيات الجزائرية إلى أن العدد تجاوز المليون شهيد)، ومقتل ثمانية وعشرين ألفاً وخمسمائة عسكري فرنسي وقرابة ستة آلاف مدني أوروبي يضاف إليهم قرابة التسعين ألف (حركي)، وهم من المقاتلين الجزائريين الذين اصطفوا إلى جانب قوات الاحتلال.
ساهمت الحرب في الجزائر في تعقيد الوضع الاقتصادي في فرنسا، وأدت الأخبار التي نشرت عن الفظائع التي ترتكبها القوات الفرنسية إلى إيجاد تيار شعبي في فرنسا يرفض الحرب، ويدين الممارسات الوحشية في الجزائر، وتفاقم الوضع السياسي في فرنسا وأدى انشقاق حصل في الحزب الاشتراكي إلى زعزعة الاستقرار السياسي، وانتهى الأمر باستدعاء الجنرال ديغول لتولي زمام السلطة. رأى أنصار التمسك بالجزائر الفرنسية في الجنرال العائد رجل الساعة الذي سيتمكن من حل المسألة الجزائرية وفق ما يشتهون، وردت جبهة التحرير الوطني على استلام الجنرال السلطة بإعلان تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس، وبإعلان رفضها لأي دعوة للمفاوضات إلا لمناقشة إجراءات منح الجزائر الاستقلال التام كرد على اقتراح الجنرال بعقد ”سلام الشجعان”. تبنى الجنرال ديغول نهجاً براغماتياً في التعامل مع القضية الجزائرية، ونراه يعلن في عام 1959 إقراره بحق الجزائر في تقرير مصيرها، وتوالت تصريحاته المتعلقة بمفهوم تقرير المصير، وانتقل بعد ذلك للقبول بالجمهورية الجزائرية، وتقدم خطوة إضافية عام 1960 عندما أقر بمفهوم الجزائر الجزائرية، وانتهى به الأمر في عام 1961 إلى إعلان قبوله بدولة جزائرية مستقلة. وبهدف الوصول إلى حل بدأت سلسلة من المفاوضات المتعثرة مع جبهة التحرير الوطني انتهت بعقد اتفاقيان إيفيان التي قادت إلى استقلال الجزائر، تتويجاً لتضحيات الجزائريين على امتداد سنوات الاحتلال التي زادت عن 130 عاماً.
واليوم… ونحن نسترجع ذكرى هذا الإنجاز الكبير الذي مثل خطوة حاسمة على طريق تحقيق استقلال الجزائر نتوقف باحترام إحياءً لذكرى أجيال متتابعة من الجزائريين امتلكت من الإرادة والتصميم ما يكفي لتحقيق الانتصار الكبير للشعب الجزائري الشقيق، الذي قدم مثالاً ونموذجاً لكفاح الشعوب من أجل حريتها.
دراسة.الباحث والكاتب الصحفي مصطفى قطبي المغرب