مركز الدراسات
ترامب وجنرالاته.. علاقة تزداد توتراً مع استمرار تدخله فيما لا يعنيه، فهل يدفع الثمن؟
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يخدم في الجيش ورغم كونه القائد الأعلى بحكم منصبه، فإنه لا يعرف الكثير عن هيكل القيادة في القوات المسلحة ومدى أهمية احترامه، وربما لهذا السبب يتدخل أحياناً في أمور لا تعنيه، مما يسبب توتراً متزايداً مع قادة الجيش، فما هي القصة؟
صحيفة الغارديان البريطانية أعدت تقريراً حول القصة بعنوان: «تدخلات ترامب في شؤون عسكرية لا تعنيه يُصعّد من التوتر المتزايد مع القيادة»، انطلقت فيه من زيارة ترامب الأخيرة للقوات الأمريكية في أفغانستان، أعده جوليان بورغر، محرر الشؤون العالمية في الصحيفة.
تلميحات غير مفهومة
ليلة الخميس الماضي، ظهر دونالد ترامب بحُلَّةٍ مدنية في قاعدة جوية أمريكية في أفغانستان، يوزع طعام عيد الشكر على الجنود، ويشتكي نصف مازحٍ من طول رحلته المفاجئة، ومسلّطاً الضوء على كل تلك الأموال التي قد أنفقها على الجيش.
قال ترامب خلال تقديمه طبق الطعام لأحد الجنود: «ستعود»، في تعليق فسرّه الصحفيون الذين كانوا يغطون الزيارة على أنه كان يشير به إلى جودة الطعام الذي يقدمه لهم، لا تحذيراً من مزيد من جولات الخدمة في الحرب المستمرة بالفعل من 18 سنة.
غادر ترامب أفغانستان بعد ثلاث ساعات ونصف من وصوله، وعاد إلى مقر إقامته في منتجع مارالاغو في فلوريدا، تاركاً وراءه إشارات متضاربة حول نواياه، إذ كرر وعده المعتاد بأنه سيعيد القوات إلى الوطن، لكنه شدّد أيضاً على: «نحن لا نُناور من أجل تعادلٍ ما. الولايات المتحدة تلعب دائماً على الفوز»، مضيفاً: «نحن سنبقى حتى يحلّ الوقت الذي يكون لدينا فيه إما اتفاق مرضٍ وإما نصر كامل».
تحركات وتصريحات لأهداف سياسية
يعد توزيع وجبات العشاء الساخنة على الجنود أحد المتطلبات الأساسية لكونك القائد الأعلى، رغم أن ترامب كان قد نجح في تجنّبه إلى حد كبير، إذ بعد ما يقرب من ثلاث سنوات في منصبه، كانت تلك زيارته الأولى لأفغانستان ورحلته الثانية فحسب بالقرب من أحد مناطق الحرب. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي تحلّ بعد أقل من عام، والظلال التي تلقيها مسألة التحقيق في العزل على البيت الأبيض، عمد ترامب إلى تغطية نفسه بأقصى استطاعته ببدلة العسكريين وتأثيرها.
خلال الأشهر القليلة الماضية، تبنى ترامب دوره قائداً أعلى للقوات المسلحة الأمريكية، وتولى الإعلان عن تحركات عسكرية غير معروفة قبلها داخل سوريا وخارجها، علاوة على التدخل أكثر من مرة في نظام القضاء العسكري لإعفاء جنود خدمةٍ متهمين بارتكاب جرائم حرب.
تقويض تسلسل القيادة
لكن الجيش الأمريكي –أو قيادته على الأقل- ليست سعيدة بذلك القدر بانتباه الرئيس اللافت إلى الشؤون العسكرية، وتستشهد مجموعة من التقارير بقادة سابقين وضباط كبار في الخدمة، لم تُذكر أسماؤهم، يشكون من تقويض سلسلة القيادة وتآكل نزاهة مؤسسة اعتاد معظم الأمريكيين أن يروها ركيزة الجمهورية المنضبطة، فالقوات المسلحة منضبطة وغير قابلة للفساد بالنسبة إليهم.
وذكرت شبكة CNN أن «اثنين على الأقل من كبار الضباط العسكريين» أبديا إحجاماً وتردداً في الظهور إلى جانب ترامب خلال الفعاليات الرسمية الأخيرة، خوفاً من أن يورطهما ويطلق تصريحات حزبية خلالها.
كتب ريتشارد سبنسر، وزير البحرية الذي أُقيل الأسبوع الماضي بعد صدامه مع الرئيس فيما يتعلق بقضايا جرائم الحرب، في مقالةٍ بصحيفة The Washington Post، أن الأمر كان بمثابة «تذكير بأن الرئيس لديه فهم محدود لما يعنيه أن تكون فرداً في الجيش، أو أن تتحلى بالأخلاق خلال القتال وأن تكون محكوماً بمنظومةٍ موحدَّة من القواعد والممارسات».
تغير الموقف بعد ثلاث سنوات في البيت الأبيض
يبتعد هذا المنحى كثيراً عن الأيام الأولى لرئاسة ترامب وسلوكه فيها، عندما أحاط نفسه بكبار الضباط العسكريين وأخذ يتفاخر بـ «جنرالاته». غير أن تلك الشخصيات العسكرية العظيمة أخذت تترك الإدارة واحداً تلو الآخر، تلحقها استهجانات قائدهم الأعلى بوصفهم «جنرالات فاشلين» لم يكونوا «قساة بما فيه الكفاية» و «مبالغاً فيهم». وتفيد تقارير بأن مزيداً من كبار الضباط يفكرون في الاستقالة، إذا استمر الرئيس في التدخل والإخلال بما يرون أنها قواعد وُضعت لحماية الجيش والحفاظ عليه.
من غير المرجح أن يتوقف ترامب عن سلوكه
لقد أخذ ترامب يدعم متهمين بارتكاب جرائم حرب بوصفهم «محاربين»، خذلتهم قيادتهم المولعة بالصوابية السياسية، واحتج في تغريدةٍ، قائلاً: «نحن ندرب أولادنا الجنود ليكونوا آلات قتل، ثم نحاكمهم عندما يقتلون!».
وتقول راشيل فان لاندينغهام، العقيد المتقاعد في سلاح الجو وأستاذ بكلية الحقوق في جامعة لوس أنجلوس، تعليقاً على ذلك: «هذا يمثل سوء فهم جوهري لأخلاقيات المحارب الأمريكي. المحارب الحقيقي هو الذي يمارس ضبط النفس، والمرء يحتاج إلى التحلي بالشجاعة الأخلاقية؛ لكي يتمكن من ضبط نفسه والتحكم فيها».
عفو عن مجرمي حرب
لكن تصوّر ترامب عن المحاربين هو ذلك الذي يدعو إليه الخبراء والمثقفون الذين يشاهدهم على قناة Fox News. وقد سبق أن منح عفواً في حالات مماثلة في وقت سابق من هذا العام، ومن الواضح أنه يعتقد أن هذا يرفع من شعبيته. وأورد موقع The Daily Beast أنه كان يخطط لرفع أسهم حملته الانتخابية بإشراكِه فيها الجنود الثلاثة الذين برأهم مؤخراً من تهم ارتكاب جرائم حرب.
يضم الثلاثي الملازمَ السابق بالجيش كلينت لورانس، الذي حُكم عليه بالسجن 19 عاماً بتهمة القتل بعد أن أمر رجاله بفتح النار على ثلاثة رجال أفغان غير مسلحين كانوا يستقلون دراجة نارية، وهو ما أسفر عن مقتل اثنين منهم. والرائد بالقواتِ الخاصة لسلاح المشاة الأمريكي «القلنسوات الخضراء»، ماثيو غولدستين، الذي كان يواجه تهماً بالقتل بعد أن اعترف لمحققين من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بأنه كان قد قتل معتقلاً غير مسلح، وهو صانع قنابل مشتبه به، وتخلص من الجثة بحرقها بعد ذلك، خلال فترة خدمته في أفغانستان في عام 2010. أصدر ترامب عفواً عنهما قبل أسبوعين.
كما تدخل مراراً وتكراراً في قضية إدوارد غالاغر، ضابط الصف بالقوات البحرية الأمريكية، والذي برئ من قتل معتقل غير مسلح، لكنه حكم عليه بتخفيض رتبته بعد إدانته لالتقاط صورة «احتفالية» بجانب الجثة.
لكن ترامب خرج على تويتر ليشدد على احتفاظ غالاغر برتبته وشارة «مرساة ترايدنت»، الشارة الشهيرة لوحدة النخبة، في تحدٍّ لتقييم هيئة «العمليات الخاصة» وحكمها الخاص بالقضية.
كان محامو المدعى عليهم قد وجدوا طريقة للالتفاف على نظام القضاء العسكري، من خلال تأمين تغطية متعاطفة لدفاعهم على قناة Fox، وهم يعلمون جيداً أن القناة لديها متابعة نهمة في البيت الأبيض.
وهكذا تولى الدفاع عنهم على نحوٍ خاص، بيت هيغزيث، مضيف برنامج الدردشة الصباحي Fox & Friends، وهو ضابط احتياط سابق، ولديه متابعون مخلصون في رتب مختلفة من القوات المسلحة.
واعتاد هيغزيث توجيه نقد لاذع لكبار الضباط الذين ينتقدون ترامب، وظهر غالاغر في البرنامج الذي يقدمه هيغزيث يوم الأحد الماضي، وأخلّ بالتسلسل الهرمي العسكري من خلال انتقاده رؤسائه في حين أنه لا يزال في الخدمة. واتهم سبنسر بالتدخل للتأثير على قضيته، وقائد القوات الخاصة بالبحرية بعدم الولاء لمقاومته تدخل ترامب في نظام القضاء العسكري.
الالتفاف على القضاء العسكري
تقول كاترينا موليغان، التي عملت سابقاً في مجلس الأمن القومي ووزارة العدل في إدارة أوباما وهي الآن مدير عام قسم الأمن القومي والسياسة الدولية في «مركز التقدم الأمريكي»، تعليقاً على ذلك: «هناك شريحة من العسكريين سترى أن تلك طريقته لتحدي المنظومة وبيروقراطيتها، وأنه يسعى إلى حماية الرجل».
«لكن معظم الناس في المؤسسات العسكرية وغيرها من مؤسسات الأمن القومي سيجدون ما فعله مزعجاً للغاية. إذ لا يستقيم سير الأمور في الخدمة العسكرية دون احترام فعال للطريقة التي تعمل بها منظومة العدالة العسكرية».
الرئيس الذي لم يرتدِ زياً عسكرياً أبداً
ويعد التدخل في محاكمات جرائم الحرب نقطة واحدة فقط من نقاط الاحتكاك والتوتر بين القائد الأعلى والجيش.
إذ إن ترامب، الذي لم يخدم في الجيش مطلقاً وتعذر لعدم الاشتراك في حرب فيتنام بأن لديه «نتوءات عظمية»، أخذ يدعي بأن لديه خبرة أكبر من قادته العسكريين، وبات يصدر أوامره على تويتر بعد قليل من التشاور أو دون تشاور على الإطلاق. ففي أوائل أكتوبر/تشرين الأول، على سبيل المثال، أصدر أوامره بانسحاب جميع القوات الأمريكية من سوريا، بعد أن أقنعه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتخاذ هذا الإجراء، لكنه ما لبث في غضون ما يزيد قليلاً عن أسبوعين أن أمر القوات بالعودة مرة أخرى إلى هناك، «لتأمين النفط».
كذلك قام بتحويل ما يقرب من 13 مليار دولار لتمويل مشاريع بناء عسكرية، وآلاف من القوات المساعدة، في بناء جداره الذي وعد به منذ فترة طويلة على الحدود الجنوبية. علاوة على أنه قطع فجأةً في سبتمبر/أيلول الماضي مفاوضات استمرت لعامين مع طالبان، ليعود ويعلن استئنافها مرة أخرى خلال زيارة عيد الشكر في أفغانستان. والأغرب أنه لم يكن ثمة تحول واضح في الظروف الأساسية ذات الصلة بالموضوع في كلتا الحالتين.
وفي حين أن ترامب مولع طوال الوقت بالحديث عن «جيْشي وقواتي المسلحة»، فإن دعواه تقل وجاهةً وصدقاً مع كل شهر يمر. إذ رغم أن قدامى المحاربين لا يزالون يدعمونه بنسب أكبر بكثير من نسب مؤيديه بين عامة السكان، فإنه لم يعد لديه قيادة بين أعضاء الخدمة الفعلية، والذين باتوا منقسمين في الموقف منه بالتساوي إلى حد ما، بين التأييد والاستنكار.
حالة انقسام داخل الجيش
من الصعب حساب الأضرار التي لحقت بنسيج الجيش، بسبب حالة الانقسام وعدم اليقين الذي أثارها فيه القائد الأعلى.
وتلخّص موليغان الأمر بالقول: «من خلال تدخلاته، يخلق ترامب ظروفاً تفرض على رجال ونساء ما زالوا في الخدمة العسكرية أن يختاروا طرفاً بين القيادات العليا في الجيش والرئيس. وهذا يجعلك تتساءل: أليس هناك [الجيش] شيء مقدس؟ من المحزن، أن تكون الإجابة هي لا».