مركز الدراسات
“ترامب” يثير مجددا الصراع بين القوة والأخلاق في الثقافة الأمريكية أ. سعيد عكاشة
ربما يكون الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الوحيد على مدار التاريخ الأمريكي الذي لعب السياسة بمنطقٍ مناقضٍ لطبيعتها، ذلك أنها فن الممكن، بينما يؤمن “ترامب” بإمكانية تحقيق “المستحيل”. وعلى حين تقوم السياسة على المؤسسات والبيروقراطيات في الحكومة وأحزاب المعارضة، يكره “ترامب” كلُّا منهما، ويبحث بدلًا من ذلك عمن يساعدونه كأشخاص منفردين لصناعة وتنفيذ قراراته. وبينما يحكم السياسة مبدأ “خُذ وطالب” الذي يعني التدرج في تحقيق الأهداف، يؤمن “ترامب” بإمكانية تحقيق أهدافه بالضربة القاضية. وفي مقابل ولع السياسيين التقليديين بالتفاوض كآلية ممتعة ذاتيًّا وفاعلة عمليًّا لتحقيق الأهداف؛ يفضّل “ترامب” آلية الصفقات، وليس الاتفاقات والمعاهدات التي تمر عبر عالم معقد من التفاصيل والمناورات.
لقد فاز “ترامب” في السباق الانتخابي الذي أوصله للبيت الأبيض عام 2016، على الرغم من كل التوقعات التي كانت تخيب واحدة وراء الأخرى، بدءًا من تشكيك السياسيين والإعلاميين في إمكانية فوزه بترشيح الحزب الجمهوري، ومرورًا بالاعتقاد بأن فضائحه الأخلاقية وأفكاره العنصرية التي لا يخجل من المجاهرة بها سوف تحرمه من تأييد أغلب الأمريكيين، وانتهاء بنبوءات مراكز الاستطلاع التي ظلت حتى اليوم الأخير قبل الاقتراع العام تُظهر تفوقًا ساحقًا لمنافسته “هيلاري كلينتون”.
فوز “ترامب” في النهاية برهن على أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تمر بمرحلة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، فإما أن يكون فوز “ترامب” في الانتخابات مجرد حدث عارض يزول بخروج الرجل من منصبه، وإما أن يكون هناك تغيير عميق بدأت بوادره مع “ترامب” وسيظل يحكم الولايات المتحدة لسنوات قادمة، جوهره هو تحطيم المؤسسات والبحث عن جوهر مسيحي شعبوي يلعب دور المُخَلِّص عوضًا عن هذه الكيانات الفاسدة والعاجزة عن مواجهة التحديات المعقدة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا التي يمر بها العالم والولايات المتحدة على حدٍّ سواء.
منذ دخوله البيت الأبيض وحتى قبل عام واحد من الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر 2020، خاض “ترامب” معارك عنيفة في كل الاتجاهات: مع الإعلام، والمؤسسة القضائية، ومع خصومه في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وأشعل حروبًا تجارية مع منافسي الولايات المتحدة وحلفائها على حدٍّ سواء. ضرب بنصائح مستشاريه وأركان إدارته عرض الحائط، وأطاح برجال اختارهم بنفسه في مواقع الخارجية والاستخبارات والدفاع بعد فترة قصيرة من تعيينهم لأنهم لم يتفقوا معه في كثيرٍ من قراراته التي هددت استراتيجيات أمريكية: دبلوماسية وأمنية وعسكرية مستقرة منذ سنوات طويلة. لم يترك فرصةً لإعلان احتقاره لسياسات أسلافه في البيت الأبيض ولمبادئ القانون الدولي، إلا واستغلها إيمانًا منه بأن هذا الميراث كله هو ما أنتجته المؤسسات الأمريكية والدولية الفاسدة وغير الكفؤة، وجرب منهجه في حل المشكلات بمحاولة عقد صفقات بعيدة عن الأطر التقليدية بكثافة في معالجة أزمات الشرق الأوسط وقضاياه المستعصية، وعلى الأخص في قراراته التي تناولت الصراع العربي-الإسرائيلي ومشروع إيران النووي (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري، الاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، سحب توقيع واشنطن على الاتفاق النووي مع إيران الذي تم التوصل إليه عام 2015). وتطول القائمة أكثر عندما يتم الحديث عن سياسات البيئة، وسياسات الدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان، ومعالجة قضية الإرهاب، وانتشار التسلح النووي، والسيطرة على الصراعات المنتشرة في القارتين الإفريقية والآسيوية على وجه الخصوص. وأخيرًا وليس آخرًا، يواجه “ترامب” محاولة خصومه الديمقراطيين في الولايات المتحدة الذين يحشدون قوتهم لخوض آخر معاركهم اليائسة معه، وهي معركة عزله من منصبه التي بدأها مجلس النواب الأمريكي في أكتوبر الماضي والتي يمكن أن تطول حتى قرب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
قبل أن نستعرض مآل قضية عزل “ترامب” التي ستكون عاملًا حاسمًا في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة، فلنبحث عما نجح “ترامب” في تحقيقه وما عجز عنه خلال السنوات الثلاث التي قضاها في منصبه، وإجراء حساب تقريبي لقوته وهو على وشك الترشح لولاية ثانية.
نجاحات “ترامب” كانت متعددة، وبرهن أسلوبه في الضغط على الشركاء والمنافسين على نجاحه في عدة ملفات، فقد وجّه انتقادات للحلفاء في الناتو منذ دخوله البيت الأبيض، واتهمهم بعدم تحمل نصيبهم في عبء نفقات الدفاع. وفي قمة الناتو العام الماضي أثار “ترامب” احتمال انسحاب واشنطن من الحلف في حالة عدم زيادة الدول الأعضاء الأخرى معدلات إنفاقها العسكري. وأسفرت ضغوطه عن نتائج سريعة وعاجلة، حيث زادت الدول المتحالفة بنود ميزانيات الدفاع، وتسير الآن ألمانيا -وهي إحدى الدول الرئيسية التي تركزت عليها انتقادات “ترامب”- على طريق إنفاق 1.42 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لديها على الدفاع خلال العام المقبل، وبذلك تقترب من الهدف المحدد للناتو برفع هذه النسبة إلى 2 في المائة.
في ملف الحرب التجارية مع الصين، توصلت إدارة “ترامب” لاتفاق جزئي مع الصين في 12 أكتوبر الماضي لإنهاء الحرب التجارية بينهما. ويعد “ترامب” بإنهاء الاتفاق الشامل في مطلع العام القادم، على حين يواصل ضغطه على الصين بإصدار قرارات عقابية ضدها بسبب ملف حقوق الإنسان ووضع مقاطعة هونج كونج، دون خشية من تأثير ذلك على فرص عقد هذا الاتفاق الشامل.
ورغم كل الانتقادات التي وُجّهت لـ”ترامب” بسبب سحبه توقيع الولايات المتحدة على الاتفاق النووي مع إيران، وتوقيع عقوبات قاسية على طهران؛ إلا أن “ترامب” أصر على معالجة المواجهة مع إيران عبر الضغوط الاقتصادية، مراهنًا على سقوط نظام الملالي تحت ضغط الأزمة التي ستصنعها العقوبات، أو انصياع طهران للمطالب الأمريكية المتمثلة في الكف عن توسيع نفوذها في مناطق جوارها وتهديد حلفاء واشنطن العرب، والدخول في مفاوضات جديدة حول مشروعها النووي وبرنامجها الخاص بالتجارب الصاروخية. ومع تأخر إيران في الاستجابة للمطالب الأمريكية، وتزايد تأثير العقوبات، انفجرت الأوضاع فيها في شهر نوفمبر الماضي منذرة بتدهور خطير في قدرة نظام الملالي على الاستمرار في سياساته الخارجية والداخلية القائمة حاليًّا، وهو ما يُعد نجاحًا كبيرًا لـ”ترامب” وأسلوبه في معالجة مشكلات السياسة الخارجية الأمريكية، يبدو أنه مرشح للتوسع، حيث صرح “ترامب” أثناء زيارة مفاجئة للقوات الأمريكية في أفغانستان في عيد الشكر بأن حركة طالبان ستعود لطاولة التفاوض مجددًا للبحث مع واشنطن عن حل نهائي للأزمة الأفغانية تضمن عدم تحولها إلى مأوى للإرهابيين بعد رحيل القوات الأمريكية وقوات الناتو عنها.
أما كشف الإخفاقات في ملف السياسة الخارجية لـ”ترامب” فليس بالقليل أيضًا، لكنّ أهم مظاهرها تجسد في ملفين محددين، حيث فشل “ترامب” في طرح خطته لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي (صفقة القرن) بسبب تعثر محاولات تشكيل حكومة إسرائيلية منذ أكثر من ثمانية أشهر، وبسبب عدم حماس أغلب الدول العربية الحليفة لواشنطن لهذه الصفقة. كذلك لم يتمكن “ترامب” من إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن سياستها التي تهدد حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، خاصة كوريا الجنوبية واليابان، بسبب تجاربها الصاروخية والنووية.
على صعيد السياسة الداخلية، كانت نجاحات “ترامب” في الملف الاقتصادي لا يمكن التقليل منها من خلال المؤشرات التي تبين كيف زادت العديد من الوظائف، مما جعل معدل البطالة عند مستوى 3.7% كأقل مستوى له منذ سبعينيات القرن الماضي. كما بلغ الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 20 تريليون دولار يمثل 25% من الاقتصاد العالمي. كما اتخذ “ترامب” سياسة فعالة من أجل تحفيز الإنتاج الأمريكي لتغطية الاحتياج الداخلي بعد أن تعرضت السوق المحلية لمنافسة شرسة من المنتجات المستوردة، خاصة من الصين التي عانت الولايات المتحدة من حرب تجارية معها منذ منتصف التسعينيات. لكن هذه النجاحات قابلها إخفاق في معالجة مشكلات العجز في الميزانية وفي تخفيض مستوى الدين العام، وفي التوصل لحلول حقيقية لمشكلة الهجرة غير الشرعية، ومعالجة الخلل في منظومات التأمين الصحي بمستوياته المتعددة.
ولكن على الرغم من أن الحساب الختامي لسياسة “ترامب” الداخلية والخارجية بعد ثلاث سنوات يبدو في صالحه إلى حدٍّ ما، إلا أن مصيره لن يتحدد بهذا الحساب بقدر ما سيتحدد بالمسار الذي ستتخذه محاولات خصومه الديمقراطيين لعزله. ولا تبدو فرص عزل “ترامب” كبيرة حتى الآن بسبب صعوبة توفر 67 صوتًا في مجلس الشيوخ تؤمن الحد الأدنى المطلوب لتحقيق هذا الإجراء، فالحزب الجمهوري لا يريد أن يقدم البيت الأبيض في الانتخابات القادمة للديمقراطيين على طبق من ذهب، حيث ستشكل موافقة الجمهوريين في مجلس الشيوخ على عزل “ترامب” اعترافًا بأنهم كانوا مخطئين منذ البداية عندما وقفوا خلفه في الانتخابات الماضية في وقت سيصعب عليهم توفير بديل مناسب لمنافسة المرشح الديمقراطي مستقبلًا. وحتى لو كان نائبه “مايك بينس” هو هذا البديل الجيد، فإن حملته ستتأثر سلبًا كونه كان مشاركًا لـ”ترامب” في قراراته وسلوكياته المثيرة للجدل. أما إذا غامر الديمقراطيون بإنهاء التحقيقات التي يُجرونها في لجان مجلس النواب وخارجه عن مخالفة “ترامب” في الملف الأوكراني بشكل متعجل، والذهاب إلى التصويت في مجلس الشيوخ قبل حلول الانتخابات بفترة طويلة، فقد لا يضمنون موافقة مجلس الشيوخ على عزل “ترامب”، مما يقوي موقف “ترامب” في أنظار الرأي العام الذي يؤمن بعضه بأن الديمقراطيين لم يكونوا يهدفون من وراء محاولة عزل “ترامب” إلى تحقيق مصلحة وطنية، بل مجرد مصلحة حزبية أنانية وغير شرعية.
قد يكون الأكثر فائدة للديمقراطيين -إذن- أن يتعمدوا إطالة التحقيقات إذا ما شعروا بأنه لا أمل في توفير أدلة قوية لإدانة “ترامب”، وألا يذهبوا لمجلس الشيوخ لمحاكمته ويتركوه ليخوض الانتخابات وهو تحت شبهات قوية بسوء استغلال منصبه مما يؤثر على فرصه في الفوز بولاية ثانية. ولكن هل يملك الديمقراطيون مرشحًا قويًّا لمنافسة “ترامب”؟ وهل سيتأثر الناخب الأمريكي بالشبهات التي تحوم حول “ترامب” في الملف الأوكراني؟
من خلال المنافسات الجارية حاليًّا بين عشرين مرشحًا محتملًا من جانب الديمقراطيين للانتخابات المقبلة، يظل “جو بايدن- الابن” هو الأقوى وإن كانت تنافسه أيضًا شخصيات تحظى بقبول مبدئي من جمهور الحزب الديمقراطي مثل: بيرني ساندرز، وإليزابيث وارن، ومايكل بلومبرغ، ووبيت باتتيج. وأيًّا كان من سيفوز من هذه الشخصيات بترشيح الحزب أو شخصيات أخرى غيرها، فسيتعين على الفائز إقناع الناخب الأمريكي بتفضيله على “ترامب” بتقديم برنامج يعالج المشكلات التي لم ينجح “ترامب” في حلها أثناء ولايته الأولى، وهو أمر صعب في ظل إدراك الناخب الأمريكي بأن المشكلة لا تكمن في تقديم برامج أفضل من المتنافسين، ولكن في الانقسام الحاد داخل الكونجرس الذي يعوق الرئيس عادة عن تنفيذ برنامجه ووعوده، وهي مشكلة غير قابلة للحل في المدى القريب. ولأن الديمقراطيين على يقين بأن التشكيك في إنجازات “ترامب” في الملف الاقتصادي تبدو صعبة، وأن الناخب الأمريكي يؤيد “ترامب” في سياسته لتقليل التدخل العسكري الخارجي والضغط على الحلفاء لتحمل نصيب أكبر من نفقات القواعد العسكرية الأمريكية في أراضيهم، فقد يركزون في محاولتهم لهزيمة “ترامب” على الجانب الضعيف لديه وهو ملفه الأخلاقي؛ فالثقافة الأمريكية تنطوي على تمسك بفكرتين أساسيتين ومتلازمتين هما: فكرة مطلق القوة، ومطلق الأخلاق، وأنه لا يمكن الحفاظ على القيم السامية إلا بحيازة قوة متفوقة ورادعة للخصوم، كما أنه لا ينبغي استخدام هذه القوة إلا لتحقيق هذه القيم ونشرها والدفاع عنها، أو كما يشرح Clyde Prestowitz في كتابه Rouge Nation بقوله: “نحن أمة تعتقد أنها المدينة التي فوق التل التي تصفها التوراة”، أي أمة تؤمن بأن كل حروبها ومعاركها هي من أجل الانتصار لقيم الحرية والخير.
يمكن للديمقراطيين أن يبرهنوا من خلال جوهر الثقافة الأمريكية هذه أن “ترامب” الذي يتباهى بإهانته للنساء والأعراق غير البيضاء، ومحاولته طرد اللاجئين الهاربين من الفقر وجحيم الحروب الأهلية، والذي تخلّى عن حلفائه الأكراد وتركهم يُذبحون على يد الأتراك؛ يمكنهم أن يبرهنوا على أن شخصية “ترامب” لا يمكن لها أن تكون عنوانًا لبلادهم، ولكن الأخلاق بدون قوة قد تسمح بالإضرار بالمصالح الأمريكية، وهو ما رصدته “هيلاري كلينتون” في كتابها Hard Choice عندما اعترفت بـ”أن الصينيين منذ عام 2009 ظنوا أن الوقت قد حان لاتّباع نهج أكثر حزمًا في مواجهة الملفات الخلافية مع واشنطن، وشجعتهم أزمة عام 2008 المالية التي أضعفت الولايات المتحدة، وحربا العراق وأفغانستان اللتان استنزفتا الموارد الأمريكية، واستقطبتا الاهتمام، وتعزيز التيار القومي الصيني. وعليه بدأت الصين باتخاذ خطوات جريئة في آسيا لتختبر إلى أي حد يمكنها أن تصل”. هذا اعتراف مفيد لـ”ترامب” -وفي غير صالح الديمقراطيين- الذي يراهن على القوة أكثر من رهانه على الأخلاق لتحقيق المصالح الأمريكية، لتبقى الفرص في النهاية متساوية بين “ترامب” وخصومه، إلى أن يظهر مرشح آخر يمكنه أن يُقنع الأمريكيين بقدرته على إحداث التوازن بين القوة والأخلاق في سياساته حيال الداخل والخارج.