مركز الدراسات
وحدة الإرهاب والصراعات المسلحة “داعش” يحاول العودة عبر خلق “قضية كبرى” للتنظيم تقى النجار
المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
نشرت مؤسسة “الفرقان” (الجناح الإعلامي التابع لتنظيم “داعش”)، في 27 يناير، مقطعًا صوتيًّا مدته 37 دقيقة منسوبًا للمتحدث باسم التنظيم “أبي حمزة القرشي”، تحت عنوان “دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها”. ويُعد هذا هو الظهور الثاني للقرشي منذ تأكيده مقتل “أبي بكر البغدادي”، وإعلان اسم قائد التنظيم الجديد “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي”. وقد حمل هذا التسجيل معالم مرحلة جديدة من إرهاب التنظيم، وتزامن مع إعلان “خطة السلام الأمريكية” لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويُثير إصدار داعش لهذا المقطع في هذا التوقيت عددًا من الملاحظات الأولية، نوردها فيما يلي:
الملاحظة الأولى: أن استراتيجية داعش لم تقتصر منذ نشأته على التوسُّع الجغرافي غير الخاضع للحدود المادية للخلافة، لكن التنظيم سعى أيضًا إلى تحقيق نوع من النفوذ بهدف تعزيز قابلية مشروع الدولة للبقاء والاستمرار. وعلى الرغم من التحديات التي تعرض لها التنظيم في الآونة الأخيرة، إلا أنه سعى إلى التأكيد على استمرار بقاء “خلافته” المزعومة على حد وصفه. ومن ثمّ، شرع المقطع في استعراض نجاحاته والتحديات التي يمر بها وكيف تغلب عليها، بدايةً من تصفية “أبي مصعب الزرقاوي”، مرورًا باستهداف “أبي حمزة المهاجر”، وصولًا إلى مقتل كلٍّ من البغدادِيَّيْن “أبي عمر” و”أبي بكر”. وأشار المقطع إلى أنه بالرغم من استهداف قادته؛ إلا أن التنظيم “قادر على الصمود”، وإعادة إنتاج نفسه، وتوجيه ضربات مؤثرة، أو كما قال: “وقد زعمتم بعدها وصرحتم مرارًا وتكرارًا قضاءكم عليها، وتتفاجئون بعد كل تصريحاتكم بامتدادها واستمرار عمليات جنودها”، مشيرًا إلى أنه ينطلق في تعامله مع خسائره من قناعةٍ مفادها “أنها معركة وليست الحرب”، ويرى تراجعه بوصفه مرحلة مؤقتة في الطريق الطويل للنصر. وأكّد “أن كلمة (باقية) ليست مجرد شعار يستفز به الموحدون أعداءهم الكافرين فحسب؛ بل هي تعبير عن منهج راسخ عند جنود الخلافة يدفعهم للحفاظ على ما تركه إخوانهم السابقون، وإكمال ما بدأوه، واستعادة ما فقدوه”.
الملاحظة الثانية: أن التنظيم يحاول التدشين لمرحلة جديدة من الإرهاب، من خلال دعوة أنصاره إلى استهداف إسرائيل، في محاولة منه لإفشال خطة السلام الأمريكية حول تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد حرض التنظيم أنصاره على استهداف مستوطنات اليهود وأسواقهم، مطالبًا إياهم “اجعلوها أرضًا لتجريب أسلحتكم وصواريخكم الكيماوية وغيرها”، ما قد يشير إلى احتمال وصول هذه الأسلحة إلى عناصر داعش، في ضوء المقابلة التي نشرها موقع “ديلي بيست” Daily Beast الأمريكي، في ١١ مارس ٢٠١٩، مع أحد المتخصصين الذي قال إنه طوّر أسلحة كيماوية لحساب داعش. وتجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها التنظيم استهداف إسرائيل، ففي نهاية عام 2015، توعد “أبو بكر البغدادي” (قائد التنظيم السابق) بتحويل فلسطين إلى “مقبرة لليهود”، في أول تهديد صريح وعلني من جانب أحد قيادات التنظيم ضد الإسرائيليين. وفي السياق ذاته، تصدرت إسرائيل خطابات تنظيم “القاعدة” على مدار سنوات، لكن التنظيم نادرًا ما قام بعمليات فعلية ضد إسرائيل.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بتأكيد المرونة الأيديولوجية للتنظيم؛ فمنذ ظهور “داعش” عمل على اتّباع استراتيجية قتال “العدو القريب”، التي تعني محاربة الأنظمة الحاكمة. غير أنه مؤخرًا بدأ في محاولة الجمع بين استراتيجية قتال “العدو القريب”، واستراتيجية قتال “العدو البعيد” التي تعني محاربة الولايات المتحدة -بالأساس- واستهداف مصالحها في مناطق مختلفة. ويمكن الاستدلال على ذلك التحول من التسجيل الصوتي لزعيم التنظيم السابق “أبي بكر البغدادي” الصادر في 16 سبتمبر 2019 تحت عنوان “وقل اعملوا”، إذ لوحظ بصورة واضحة تركيز “البغدادي” على الولايات المتحدة. وقد استمر هذا النهج بعد مقتل “البغدادي”، حيث اتضح في البيان الأخير تركيز التنظيم على استهداف إسرائيل. وهذا التحول في اتجاه التركيز على العدو البعيد، ممثلًا في الولايات المتحدة وإسرائيل، يعبّر عن درجة من المرونة الأيديولوجية للتنظيم، في محاولة من جانبه للتكيف مع التحديات التي باتت تواجهه خلال الفترة الأخيرة.
الملاحظة الرابعة: أن التنظيم بات يعاني من تحديات كبرى جراء الهزائم التي مُنِيَ بها. وثمة اتفاق بين المتابعين على أن أولويات المرحلة الراهنة تتمثل في لمّ شتات “الخلافة” المزعومة بعد أن مُنيت بخسائر ضخمة، بشرية ومالية. وبات أفضل سبيل لتحقيق ذلك هو تبنِّي “قضية كبرى” تكون القدس عنوانًا لها. ويحقق هذا العنوان للتنظيم هدفين؛ أولهما استعادته للزخم عبر إعادة التسويق لنفسه كمدافع عن قضية كبرى جديدة بعد أن فقدت قضية “الخلافة” بريقها. ثانيهما انضمام مقاتلين جدد من جماعات جهادية أخرى، وذلك بتوظيف مفاهيم جديدة قديمة تهدف إلى إضفاء الشرعية على العمل الإرهابي. ولا يختلف هذا كثيرًا عما أعلنه “الجولاني” (قائد تنظيم هيئة تحرير الشام) في ديسمبر ٢٠١٩ بأن “المرحلة المقبلة” في تاريخ هيئة تحرير الشام ستقوم على استهداف روسيا، فكلا التنظيمين يحاولان خلق عدو أكبر لاستقطاب المقاتلين والأموال.
الملاحظة الخامسة: تتعلق بالدواعش السجناء، فقد عانى التنظيم من نقص كبير في أعداد مقاتليه بعد اعتقال الآلاف منهم خلال العمليات التي استهدفت التنظيم في العراق وسوريا. إذ يوجد الآلاف من عناصر التنظيم في سجون العراق ومناطق سيطرة المقاتلين الأكراد في شمال شرق سوريا، حيث تأوي المخيمات أيضًا عشرات الآلاف من أفراد عائلات الإرهابيين، السوريين والعراقيين والأجانب. في هذا الإطار، طالب البيان الأخير لداعش عناصره القابعة في هذه السجون بالثبات، قائلًا: “أما رسالتنا إلى الأسرى والأسيرات فنقول لهم؛ اعلموا -ثبّتكم الله تعالى- أننا ما نسيناكم يومًا أو غفلنا عنكم”، وأن “إخوانكم يسعون لفكاك أسركم ولن يدخروا وسعًا”.
ويُعيدنا هذا الطرح إلى خطاب “البغدادي” الأخير، إذ طالب أنصاره بالهجوم على السجون لإطلاق سراح أتباعه وإنقاذ مقاتليه وعائلاتهم المحتجزين في السجون والمخيمات. وفي أعقاب دعوة “البغدادي”، أطلقت تركيا حملاتها العسكرية “نبع السلام” في التاسع من أكتوبر 2019، وقد وفر القصف التركي على مناطق شمال شرقي سوريا غطاء للمئات من عائلات مسلحي داعش وسجنائه للفرار من المخيمات أو السجون التي تسيطر عليها القوات الكردية.
الملاحظة السادسة: هي غموض الخليفة، ففي نهاية أكتوبر 2019 أعلن “داعش” تَوَلِّي “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي” ليخلف زعيمه السابق “أبو بكر البغدادي” بعد إعلان مقتله في ذلك الوقت في عملية عسكرية أمريكية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وعلى الرغم من التوجه الجديد للتنظيم، وإعلانه مرحلة جديدة من الإرهاب، إلا أن هناك حالة من الغموض تحيط بالمدعو “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي”، والتي يمكن تفسيرها في ضوء ثلاثة عوامل؛ أولها: أن الغموض المحيط به هو أمر طبيعي كمحاولة لحمايته من أي هجوم أو استهداف. ثانيها: التأكيد على أن “داعش” كتنظيم يتجاوز مجرد قائد التنظيم، وبعبارة أخرى فإن التنظيم قائم على فكرة وليس على أشخاص. ثالثها: أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل عن قادة “داعش” استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين “أبو حمزة المهاجر” وزيرًا للحرب في عهد “البغدادي”؛ وتم الكشف عن اسمه لاحقًا.
مجمل القول، إن هذا الخطاب يأتي في ظل مقتل “البغدادي”، والهزائم الكبرى التي مُنِيَ بها التنظيم، حيث يحاول التنظيم إعادة بناء نفسه، من خلال إضفاء الشرعية على الفعل الإرهابي، عبر توظيف قضية مهمة في العالم الإسلامي، هي قضية “القدس”. وباستعراض تاريخ “داعش” وعلاقة عملياته بإسرائيل، نجد أن مثل هذه الدعوات لا تزيد عن كونها دعاية من جانب التنظيم من أجل اجتذاب أنصار جدد، ومحاولة استعادة سمعته الجهادية التي فَقَدَها.