ولنا رؤية
في ذكرى ثورة 17 فبراير… ليبيا كانت أفضل مع القذافي… *مصطفى قطبي
كل التحاليل التي تناولت ”الثورة الليبية” تؤكد أنّ هذه الذكرى، ترتبط بأكبر مؤامرة عدوانية تشهر على شعب ودولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إنها ذكرى ”ثورة 17 فبراير” ما يسمى حسب المصطلح الذي روج له داعموها ومروجوها وممولوها! وللأسف فقد احتاج الأمر لوقت طويل، ودماء غزيرة كي يفهم كثيرون أن ما يجري في ليبيا منذ عام 2011 هي حرب، أو بالأصح عدوان موصوف لكن بأدوات غير تقليدية بمعنى أنه عدوان بأدوات: الإرهاب المتعدد الجنسيات، والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والحصار الاقتصادي، والحرب الدبلوماسية والحرب الاستخباراتية، والمنظمات غير الحكومية، والكثير من الأدوات التي طبقت في حالة ليبيا وشكلت درساً، لا بل دروساً للعالم أجمع، وللكثير من الدول التي اجتاحتها مخططات قلب الأنظمة، وتغييرها للوصول إلى أهداف جيوسياسية ترتبط بمنظومة الهيمنة الأميركية، والإمبريالية الغربية والرجعية العربية.
الآن، ونحن ندخل العام التاسع من زمن ”الثورة المزعومة” لابد من استخلاص العبر والدروس للوصول إلى خلاصات لابد منها. ودعوني أتحدث عن بعضها لتثبيت قناعات سنوات مضت.
لقد انكشفت أهداف ”ثورة 17 فبراير” التي يجب أن نسميها عدواناً وليست حراكاً سلمياً، عدوان ممول قطرياً، قادته الولايات المتحدة وقوى الاستعمار الغربي التقليدي، بأدوات إخوانية ورجعية عربية ومحلية. وانفضاح الدور القذر لأجهزة الاستخبارات الأميركية، والغربية والإسرائيلية، والتركية في تأسيس، وتركيب، وتحريك واستخدام الجماعات الإرهابية المتأسلمة مثل داعش وجبهة النصرة، وأخواتها بمختلف تسمياتهم. أما الحرية المزعومة لدى أولئك ”الثوريين”، فقد كشف الواقع، أنها حرية بيع الأوطان لقوى الهيمنة العالمية، وتحويل ليبيا إلى ألعوبة، وإعادتها إلى نموذج دولة مهلهلة، حيث الانقلابات العسكرية، وأجهزة الاستخبارات الغربية وأموال النفط، ومصالح الشركات.
لقد تعرضت ليبيا العربية إلى مؤامرة حقيقية بهدف تقسيمها وتفتيتها والاستيلاء على ثرواتها منذ أطلقت الولايات المتحدة إشارة البدء لـ”الربيع العربي” المزعوم في مطلع 2011. ويتفق بعض المحلّلين السياسيين على أن الحراك في ليبيا لم يكن حراكاً جماهيرياً على المستوى الوطني، ولم يكن هناك دعم شعبي للإطاحة بحكومة القذافي. فقد كشف العدوان على ليبيا، أي ”الثورة المزعومة”، أن الإعلام الغربي منافق وكذاب، وأنه مجرد أداة قذرة من أدوات العدوان، وأن ما كان في ”لا وعي” كثير من النُخب والمواطنين لابد من شطبه وبخاصة أن هذه المؤسسات الإعلامية الغربية تعترف اليوم بشكل غير مباشر بسفالتها، بمعنى أنه لا حرية إعلامية في العالم كما كان يروج إنما هناك حرفية ومهنية في التذاكي، والاستغباء وتمرير الأجندات الخفية.
وللأمانة التاريخية، فليبيا بدأت الحرب عليها مبكراً جداً وقبل انطلاق هذا ”الربيع” بسنوات طويلة، فالتوجهات القومية العروبية الوحدوية لقائدها معمر القذافي لم تكن لتعجب الإمبراطورية الأمريكية الاستعمارية الفاجرة، وتمدد أدوار ليبيا في إفريقيا كان يزعج الغرب الاستعماري بشكل كبير، فكانت التهديدات والعقوبات الدولية والحصار الاقتصادي والحظر الجوي، هي سلاح أمريكا والغرب ضد ليبيا. وحين اشتعلت نيران ”الربيع” المزعوم كانت ليبيا أول من احترق، وبأيدي الجامعة العربية التي وافقت على قرار غزو ليبيا بوساطة الآلة العسكرية الجبارة لحلف ”ناتو”…
في خريف العام الماضي 2014 تكشف أن سيناريو الحرب على ليبيا قد شهد منذ بداياته في شباط- آذار 2011 عمليات إنزال جوية بريطانية كانت بنغازي مسرحاً لها بدءاً من مطلع آذار 2011 أي قبل صدور القرار 1973 الخاص بالتدخل في ليبيا الذي صدر في 17 آذار 2011، كما قامت الاستخبارات الفرنسية الخاصة هي الأخرى بإنزالاتها في غرب البلاد وقريباً من طرابلس، وعلى مدار الأشهر الستة ما بين آذار حتى أيلول 2011 بدأت تظهر بوضوح الآثار المهمة التي تحدثها العمليات الاستخباراتية وتلك التي تنفذها قوات خاصة أميركية فرنسية بريطانية على الأرض. وكان واضحاً أن عمليات الناتو تتركز في مدينتين رئيسيتين هما رأس لانوف (تقع في خليج سرت على البحر المتوسط) والنوفلية (127 كم إلى الشرق من سرت) اللتان كانتا تشكلان مركزاً أساسياً للعمليات التي يقوم بها تنظيم القاعدة.
هدفت العمليات السابقة التي قام بها الناتو إلى التغطية على النشاط الكبير لعناصر القاعدة وخصوصاً منذ آب 2011 حيث تمكن هؤلاء من السيطرة (في ظل ذلك الغطاء) على الساحة الخضراء وسط طرابلس 21 آب 2011 ثم على باب العزيزية 40كم جنوب طرابلس في 23 آب 2011 ثم على مدينة سرت (450 كم شرق طرابلس) في 15 أيلول 2011 وصولاً إلى تمكنهم من اغتيال العقيد القذافي 20/11/2011 والإعلان عن سقوط النظام نهائياً. وإذا ما أردنا أن نحسن الظن بقوات الناتو فإننا يمكن أن نقول إن القاعدة في ليبيا كانت تعمل على مرأى من عيونها وبدعم لوجستي منها، أما إذا أردنا أن نكون حياديين، فيجب علينا القول إن القاعدة كانت تعمل تحت إشراف وتخطيط الاستخبارات الفرنسية البريطانية الأميركية، حتى إن التنسيق بين هذا الثالوث الأخير وبين تنظيم القاعدة كان يتم عبر عبد الحكيم بلحاج شخصياً والذي كان مطلوباً لجميع أضلاع المثلث السابق.
والسؤال الذي نسأله بهدوء لـ”ثوار فبراير” ولأصحاب شعارات ”الثورة المزعومة”: هل أصبحت ليبيا واحة للحرية كما كان يهتف من خرج في وجه نظام الحكم السابق فيها؟ وهل أصبحت ليبيا دولة ديمقراطية تنتخب قياداتها وفق آراء الشعب وقناعاته؟ أم إنها أصبحت مرتعاً للجماعات الأخوانية والمرتزقة، التي لم تنحصر شرورها في الأرض الليبية، بل استطالت وتوسعت لتشمل أرجاء مختلفة من دول العالم وفق رغبات وأوامر مشغليها ومموليها ومسوقيها. هل أصبحت ليبيا أكثر ازدهاراً وتطوراً أم أن ما حصل ويحصل فيها دمّر البشر والحجر وعاد بها عشرات السنين إلى الوراء؟
لسنا في حاجة الآن لتأكيد أن كل عوامل الثورة المزعومة لم يكن لها أي مسوغ في المجتمع الليبي، الذي كان متوسط دخل الفرد فيه من أعلى متوسطات الدخول في المنطقة العربية، وكان يتميز بوفرة سبل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، بل والرفاهية للأغلبية العظمى من المواطنين حتى في ظل الحصار الاقتصادي الرهيب والطويل، وكانت ليبيا دائماً حاضنة فعلية لكل العرب. لقد حكم القذافي ليبيا لأربعين عاماً، وقادها نحو تقدّم كبير في المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو تقدم لاقى تقدير وإعجاب العديد من الدول العربية والإفريقية آنذاك، وكان القذافي يمثّل شخصية بارزة في النضال ضد الإمبريالية، بخاصة ضد الولايات المتحدة وسياساتها التي تنفذها في الشرق الأوسط، لذلك أمست حياته ومماته حدثين محوريين لفهم ما تمر به ليبيا حالياً.
منذ أن تولّى القذافي السلطة، كان النفط المورد الأساسي للبلاد، ويمثّل انتصار ثورة عام 1969 نقلة نوعية دفعت الحكومة الجديدة إلى استخدام إيراداتها النفطية لتعزيز إجراءات إعادة التوزيع بين السكان، ما ولّد نموذجاً جديداً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. وكان من بين التدابير الاقتصادية التي قادت سياسات القذافي تأميم العديد من شركات النفط الغربي، مثل شركة بريتش بتروليوم، وإنشاء المؤسسة الوطنية للنفط. وتمّ إطلاق برامج اجتماعية طموحة في مجال التعليم والصحة والسكن والأشغال العامة والدعم الحكومي للكهرباء والمواد الغذائية، فأدّت هذه السياسات إلى تحسّن كبير في الظروف المعيشية، فتحوّلت ليبيا من كونها إحدى أفقر البلدان في إفريقيا عام 1969 إلى دولة رائدة في مؤشر التنمية البشرية في القارة الإفريقية عام 2011. وعلى المستوى الوطني، استطاع القذافي التعامل مع معضلتين أساسيتين من سمات المجتمع الليبي، وهما صعوبة السيطرة على القبائل من جهة، وتفتت المجتمع إلى مجموعات قبلية وإقليمية متنوعة، ومتعارضة أحياناً، إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو 140 قبيلة في الأراضي الليبية، ولكل منها ولاءاتها المختلفة.
أما على المستوى الدولي، فينبغي تسليط الضوء على الوحدة العربية والمواجهة المفتوحة أمام الولايات المتحدة بسبب المعارضة التي مارسها القذافي على تأثير هذه الدولة الإمبريالية، فشكّل علاقات أوثق مع الدول العربية لتنفيذ سياسات مشتركة تناهض سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وعمل الزعيم الليبي على تعزيز العلاقات مع الدول العربية كسورية ومصر والمغرب وتونس… وغيرها، كما ارتبط القذافي ببلدان أمريكا اللاتينية أمثال فنزويلا وكوبا، ما أدى به إلى تنمية شبكة واسعة من الاتصالات والنفوذ غير المريح في نظر أوروبا والولايات المتحدة.
كانت الجماهيرية الليبية في عهد القذافي مستقرة اقتصادياً واجتماعياً، أما الآن في جمهورية ليبيا ”الثورة”، بات الليبيون يعيشون في بلد دمرته الفوضى ويملأ الإحباط صدورهم المثخنة أصلاً بجراح الحرب البشعة.
والسؤال: ماذا استفاد الشعب الليبي بعد إسقاط النظام السابق، بعدما جاء بنظام ‘ثورة فبراير” المحمول على أجنحة طائرات حلف ”ناتو” ليقدم الثروات الليبية على طبق من فضة إلى دول الأطلسي، وليفتح الأبواب على مصراعيها أمام مشروعات الغرب في النهب والسلب وفرض السيطرة والهيمنة على ليبيا وشمال إفريقيا من دون أي تردد لأنه موجود بفضلها، ولأجل خدمتها… والمؤكد عندنا أنّ الشعب الليبي هو الخاسر الأوحد من عملية الاستبدال والتغيير المقلوبة التي جاءت على عكس إرادته وتطلعاته في التحرر والسيادة والقرار المستقل في التصرف بثرواته ومقاومة التبعية والإلحاق بأجندة الغرب الاستعمارية..
فهل يقبل الشعب الليبي أن يصادر مستقبله بهذا التغيير المزوّر الذي انكشفت أوراقه؟! أم إن تصحيح المسار لابد آت، مهما كان حجم التدخّل الأجنبي..؟!!
لابد أن نعترف وبجرأة أمام التاريخ، أنّ العدوان باسم ”ثورة” مزعومة لم يكن إلا وسيلة لإنتاج نظام سياسي موال لأميركا ومنبطح أمام الغرب وتركيا وقطر، وفاقد لعناصر السيادة والاستقلال، وأيضاً لابد أن نعترف، أنه اليوم في ليبيا ثمة حنين إلى الجماهيرية الليبية. فقد اكتشف الليبيون أنّ المشكلة لم تكن في نظام القذافي، وإنما فيهم. معمر رحل وهو يدافع عن حق ليبيا في نفطها وسمائها وبحرها وبقي صادقاً في انتمائه لوطنه حتى اللحظة الأخيرة، ولأنه مثّل الرفض لكل تدخل خارجي في بلده صفق هؤلاء الاستعماريون لمقتله واعتبروه عيداً لهم… ويبقى أن يتمعن العقلاء في الوقائع ونتائجها من بدايتها وحتى اليوم.
خلاصة الكلام: لا يسعني إلا أن أقول إنني أشعر بالعار والخجل من بعض الليببين الذين انخرطوا بالتآمر على بلدهم وشعبهم، ودعوا لاحتلال بلادهم من أجل شعارات كاذبة ومنافقة، ولكنني في الوقت نفسه أشعر بالفخار والعزة والكبرياء أمام أغلبية أبناء الشعب الليبي، وبخاصة الذين ضحوا واستشهدوا أو جرحوا أو تحملوا وصبروا وعانوا… وما زال لدي الإيمان والتفاؤل والتطلع لمستقبل أفضل لبناء ليبيا جديدة… وهذا يتوقف على نضال الشعب الليبي ضد كل أشكال التدخل الخارجي العدواني من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة مثلما يتوقف على أهمية اختيار الشعب الليبي وقواه الوطنية والقومية لحلفائه الحقيقيين من أجل استقلال ليبيا وسيادتها ودورها القومي، وليس من تسخرهم واشنطن لحماية مصالحها.
باحث وكاتب صحافي من المغرب.