تتكشف يوماً إثر آخر حقائق مرعبة عما حصل ويحصل من تدمير، وتخريب ممنهج، ومدروسٍ للدولة الليبية، من خلال ما سُمي زوراً، وبهتاناً ”الربيع العربي”. البحث يطول، والأسئلة تحتاج إلى كتب، ودراسات، وأبحاث معمقة، ومتأنية حول أسباب جنوح البعض ممن كان يعيش بين الليبيين إلى هذا النمط من الوحشية، والإجرام، والعقل الجاهلي – المتخلف! فقد ضاقت مساحات فعلهم الإرهابي حتى كادت أن تتطابق مع مساحات وجودهم في الأصل، كونهم غزاة، وكونهم قتلة، وكونهم أدوات لتنفيذ حكم الإعدام بالإنسان والقيم والحضارة وتضامن البشرية في مستويات عملها وأملها، ونسمي هذا الانكفاء في الإرهاب انكشافاً من جانب واستحقاقاً عادلاً من جانب آخر، كان الهيجان قد أخذهم إلى مجاهل ومناحي فكرية وميدانية فأتقنوا فن الموت واستدرجوا إلى قطعانهم أصحاب الضمائر الجافة من داخل الوطن الليبي.
هل كان أي منّا يعتقد أن مسلحين – إرهابيين ليبيين من شدة حقدهم سوف يهددون حياة ملايين البشر ممن يُفترض أنهم يتقاسمون معهم الوطن الواحد، والآمال المشتركة، ويدعون لسنوات أنهم فرسان حرية، وكرامة، وديمقراطية، ويتطلعون لحياة كريمة…! هل هؤلاء بشر، وينتمون إلى صنف البشر، ويتمتعون بصفات الإنسان ـ أشك بذلك – لأنه مهما بلغ الإنسان السوي من حقد تفكيره – لا يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء!
وواضح تماماً أن قتل الإنسان الليبي هو في عمق أهداف المجاميع الإرهابية الليبية، وقتل الإنسان الليبي ليس مجرد تصفية جسدية بشعة كما تمارس الجماعات الإرهابية فحسب، بل هي محاولات محمومة لاجتثاث قيم الإنسان ولمحو ذاكرته التاريخية والوطنية ولاستثماره عبر الرعب كحالة دائمة الحضور ليس في الراهن فقط وإنما على امتداد المستقبل.
وهنا يدخل العامل الأيديولوجي المنحرف في بناء هذا المسار وفي أساليب التعامل معه باعتباره عدواناً وعدواً في سياق واحد، وبالمحصلة فإن قتل الإنسان الليبي وتدمير تاريخه وذاكرته هو المعيار الذي يستدل من خلاله الإرهاب الأخواني، على مدى توغلهم في الحياة الوطنية في ليبيا، وواضحة تلك الخصائص في الإرهاب التكفيري والتي تحولت إلى معتقد ومنهج حقد على الأوطان، ومادام الإنسان هو في العمق فكان لابد من التفرغ لقتل الأرض ليس بمن عليها فحسب ولكن بما فيها من كنوز وثروات وأوابد وبقايا حضارات، وبما عليها من عوامل الإنتاج وبناء العالم المتمدن والقادر على إطلاق هويته الفكرية والثقافية والنفسية.
والمسألة لم تكن عفوية من المبتدأ إلى الخبر، ومن اللحظة التي ولدوا فيها إلى اللحظة الراهنة التي يحفرون قبورهم بأيديهم فيها، وبموجبات العلم فإنه لدينا قاعدتان حاكمتان في تفسير وقائع التاريخ وأحوال الأمم، ولاسيما حينما تمرّ الأمم بالمنعطفات الخطيرة والزمن الصعب كما هو الحال الراهن، أما القاعدة الأولى، فإنها تقول لاشيء يصدر من فراغ، ولاشيء يصب في الفراغ، ويستوي في حيثيات هذه القاعدة المستوى المادي في الحياة والمستوى الإنساني كما هو حاصل الآن
إنّ إرهاب المجاميع الأخوانية وأخواتها، هي ظاهرة ولم تعد حدثاً عابراً أو فعلاً ناشزاً في لحظة هاربة من قواعد الحياة البشرية، إن إرهابها مصدر ورعايات وتنظيم وتدريب، وهناك قوى أنتجت هذا الإرهاب من وراء محيطات وخارج سياق التاريخ، حتى ولو كان هذا التاريخ ممزقاً ومشوهاً، مثلما تعرض له تاريخنا العربي، إن هذه المجاميع الإرهابية، منهج وتفكير وممارسات ويولد وينمو في حاضنات الشر والحقد واستنهاض نسق الغرائز من أوكاره في الذات البشرية.
والآن فيما يلي بعض جوانب سلوكيات المجاميع الإرهابية:
ـ العمل على إشاعة وتعميم ”ثقافة الكراهية”، حيث تحولت بعض الفئات والقوى والعناصر الاجتماعية ومؤسسات الدولة إلى ”أهداف” سهلة ومشروعة للتشهير والتدمير والقتل والتهجير.
ـ الإصرار على الانتقام من الغير أو ”الآخر” جرياً على عادة بائدة هي /الأخذ بالثأر/ تذرعاً بالقصاص.
ـ التلذد في الخصومة مع عدم التورع عن استخدام جميع الوسائل الممكنة على قاعدة ”الغاية تبرر الوسيلة”.
ـ التطرف في فرض الآراء وإبداء المشاعر والتعبير عن الرغبات بعيداً عن المنطق والعقل.
ـ نمو نزعة إفناء الغير، ثم ”التشفي” أو ”الشماتة” والشعور بالفرح حين وقوع الضرر مثل قتل العسكريين أو المدنيين الأبرياء، أو تدمير وتعطيل مؤسسات واقتصاد الدولة، بل الدفاع عمن يقوم بالتفجيرات الإرهابية وإطلاق القذائف الصاروخية على الأحياء المدنية.
ـ انتشار ظاهرة ”التفكير الرغبوي” أي التفكير بالرغبات الشخصية، ومن ثم تحويل ”الأوهام” الذهنية إلى يقينيات لا يقبلها العقل، وهو ما يمكن أن يسمى ”تجسيد الوهم”.
ـ السعي لاستدعاء أعداء الوطن للمساعدة على تدمير الدولة واحتلالها. فالاتفاقية الأمنية التي أبرمت بين أردوغان وبين حكومة السراج، هذه الاتفاقية تعبّر عن تجنيد الإرهابيين من تنظيم ”القاعدة” وبقايا ”داعش” والحركات التكفيرية التي جلبها أردوغان من سورية، هي نفسها سوف تقف إلى جانب قواته في ليبيا ضمن القوات التركية التي تضمنتها الاتفاقية كما ورد في النص (إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا جزء من الاتفاقية الأمنية بين الطرفين).
ومن هنا جاءت خصائص التلازم والفعل الواحد ما بين المجاميع الإرهابية وطبيعة ومقومات الهوية والتنظيم العالمي للأخوان المسلمين، ولا فصل بين تيار وآخر، ولكن الذي حدث هو أن قوى الشر في التاريخ، وفي العالم المعاصر انسكبت وتجسدت في النسق العدواني الراهن، مع الأخذ بعين الاعتبار خبرة التجارب الاستعمارية السابقة والمؤهلات التي استحدثها تطور العصر بكل ما فيها من سمات وعلم وتكنولوجيا… و هذا ما يفسر لنا حقائق ثلاث هي التي تحيط الآن بالميدان والسياسة معاً، وهي التي تفسر لنا منطلقات التحولات الكبرى التي تجري في ليبيا، وهي تواجه بلا هوادة مجاميع الإرهاب من فصائله إلى أسلحته إلى انتماءاته للغرب وتركيا…
أما الحقيقة الأولى فهي أن كل ما بني على الباطل هو باطل، وهذا يؤكد بأنه لا أساس ولا موضوعية ولا احتمالات إيجابية في المشروع الإرهابي الاستعماري الأخواني، إن هذه الكتلة من الشذوذ البشري فعلته على ذاتها منسجمة في انتهاج التدمير وسفك الدم ونهب الثروات والتلطي خلف أردية الإسلام السامي الذي اختطفوه ودجنوه واشتقوا منه بالحقد أحكاماً وأوهاماً بما يخدم مصالحهم ومشاريعهم.
والحقيقة الثانية، هي أن هذا المدى السياسي الإنساني الذي تتصارع فيه قوى العالم عبر لقاءات ثنائية أو جماعية أو من خلال المؤتمرات والبيانات الصادرة عنها، إنما تتصارع على الوهم فيما تطرح والعبث فيما تستهلك من كلام وعناوين وبلاغات كاذبة. وهذا الصراع هو مع طرف ولد كاملاً مسلحاً بأظافر وأنياب وقدر قوى الحقيقة والعدل جاء قاسياً إلى درجة التعامل مع هذه القوى المغلقة على ذاتها والمنتهية فيها صلاحيات التفاعل مع البشر ومع ظروف الحياة عند كل البشر.
وتبقى الحقيقة الثالثة، وهي التي تؤكد بأن الذات المتبلور في الشعب الليبي الحر والشريف، وإن كانت ذات كلفة عالية في مستوى التضحيات البشرية وإنتاج الشهادة والشهداء وتثبيت موازيين الصراع في الميدان، هذا التوجه هو الذي عبر عن قابليات وخبرات كانت ثاوية في الشعب الليبي، وكانت قد تعرضت للتجاهل بقصد أو بغير قصد حتى مجيء زمن المجاميع الإرهابية الأغبر، عندها تمردت هذه القابليات التاريخية وتطورت ونمت وأورقت وأزهرت من كل مسافات الحياة وهذا هو (فضل) هذه المجاميع الإرهابية الوحيد في هذا الصراع.
وكثيراً ما يتساءل المواطن العادي: لماذا تستهدف المجاميع الإرهابية، وحتى جماعتهم الأم: الإخوان، الجيش الوطني الليبي في ليبيا التي ينشطون فيها ويعيثون فيها فساداً…؟ ذلك ببساطة لأن المبادئ الأساسية للإخوان وكل الجماعات الخارجة من عباءتها تعني تراتبية، ولاء وطاعة عمياء للأمير والمرشد وشيخ الجماعة. وهذا لا يستقيم مع طبيعة الجيش الوطني الحديث، الذي يلتزم نظام طاعة ضمن استراتيجية للوطن والدولة. فجماعات الدين السياسي ـ أي دين يدخل في السياسة ـ لا تعترف بدول وأوطان بل هي أممية بطبيعتها نطاقها العالم كله وهدفها تدمير ما يعوق أفكارها.
وأخيراً وليس آخر، نتساءل وبكل هدوء: ماذا بقي لمجاميع ”الإخوان المسلمين…” من مشروع يقدمونه للشعب الليبي الآن بعد أن تخلوا عن مقدسات ومقدرات الشعب اللييي…؟ هل هو إدخال نظام أردوغان التركي واستباحة الوطن الليبي، وتنصيب نظام سياسي على غرار تركيا أردوغان، ”التقي الورع” الذي لشدة تقواه لا يقوى أمام الله أن يقول لأميركا و”اسرائيل” سوى ”حاضر يا سيدي”. إذا كان الأمر كذلك فبئس ”الديمقراطية” التي يتسترون بها! إنها أهون من أن تستر عوراتهم التي ما أخفوا منها طرفاً حتى انكشفت منها أطراف!
خلاصة الكلام:
اللهمَّ دمّر الظالمين، وارحم المُستضعفين، وأعد الأمن والأمان إلى ليبيا، يا أرحم الراحمين.
باحث وكاتب صحافي من المغرب.