أخبار من أمريكا
لماذا قرّر الكونغرس الأميركي استجواب أمازون وفيسبوك وغوغل وأبل؟
لا بد أن الاستنتاج الرئيسي الذي خرجنا به من جلسة الاستماع في الكونغرس، والتي كانت معدة لاستجواب مارك زوكربيرغ في إبريل/نيسان من العام 2018، كان أن هؤلاء الذين قرّروا استجواب زوكربيرغ بدوا كأنهم يجهلون الكثير عن طبيعة عمل فيسبوك، والتواصل عبر الإنترنت في العموم، في الواقع فإن ذلك أظهر الأمر وكأنه أشبه ما يكون بصراع أجيال، هؤلاء القادمون من عالم أشرطة الفيديو والرسائل الورقية، ضد أجيال الشباب في العالم المعاصر، مستخدمي فيسبوك وتويتر وسناب شات.
لكن هذا، في الحقيقة، كان صورة خاطئة عن الأمر، لقد حمل رجال الكونغرس الأميركي أسئلة مهمة جدا عن طبيعة الخصوصية في العالم الرقمي، وكيفية التجارة بها، وكيفية استخدام البيانات كسلاح في العموم، لكنهم فقط لم يعرفوا كيف يمكن أن تُصاغ تلك الأسئلة بلغة رقمية. هذا أمر يهمك بقدر اهتمامك نفسه بالحصول على لقمة عيشك، سواء إذا كنت بالفعل مسؤولا عن الإنفاق على نفسك أو عائلتك، أو مستقبلا إذا كنت طالبا الآن، لأن كلا الأمرين -لو تأملت قليلا- واحد.
هذه المرة كانت مختلفة، جاء رجال الكونغرس وهم مستعدّون للمعركة الجديدة، كانوا مُحمّلين بأطنان من البيانات التي نتجت عن عام كامل من البحث والتقصي ومئات الساعات من المقابلات مع أكثر من مليون وثيقة، نتحدث هنا عن جلسة استماع الكونغرس الأخيرة لرؤساء أربعة من أهم شركات العالم الرقمي المعاصر، أمازون (جيف بيزوس) وغوغل (ساندر باتشاي) وفيسبوك (مارك زوكربيرغ) وأبل (تيم كوك)، والتي عُقدت في التاسع والعشرين من يوليو/تموز الماضي على مدى نحو ست ساعات كاملة.
هذه المرة ركّزت جلسة الاستماع على الزيادات في ثروات هؤلاء الأربعة خلال أزمة كورونا المستجد، على سبيل المثال كانت ثروة جيف بيزوس، مؤسس أمازون، قد زادت خلال الشهور الماضية بمقدار 64 مليار دولار تقريبا، أما ثروة زوكربيرغ فقد ارتفعت بمقدار 9 مليارات دولار تقريبا، وكان قد صدر تقرير مثير للجدل من مؤسسة الدراسات السياسية أشار إلى أن ثروة مليارديرات الولايات المتحدة الأميركية قد زادت، في المجمل، قرابة 300 مليار دولار، في حين يهدد الفقر عشرات الملايين خلال الأزمة نفسها.
وعلى الرغم من اختلاف الشركات الأربعة في طبيعة ما تُقدِّمه من خدمات، فإنها تمتلك صفات مشتركة معا، فالاتهامات التي تواجه هذه الشركات الأربعة تتعلّق بقدرتها على ممارسة ضغوط قوية على منافسيهم للتخلي عن شركاتهم قسرا، من جانب آخر فإن قدرة هذه الشركات على جمع قدر هائل من البيانات عن التجار الصغار في منصاتهم تسمح بمنافسة غير عادلة مع هؤلاء التجار.
لفهم تلك الفكرة دعنا نبدأ من شركة أمازون، حيث كان تحقيق قد صدر من “ذا وول ستريت جورنال” إبريل/نيسان الماضي قد أشار إلى أن بعض مديري البيع في الشركة يستخدمون بيانات العملاء، من التجار الصغار وليس من المواطنين، لدعم المنتجات التي تنتجها أمازون وتنافسهم بها، لفهم تلك الفكرة دعنا نفترض أن هناك -في بلدة ما- تاجرا كبيرا وآخر صغيرا، يتنافسان معا في بيع المستلزمات المنزلية، لكن التاجر الكبير يمتلك طريقة ما يعرف من خلالها كل المعلومات عن التاجر الصغير، ما الذي يبيعه، وطبيعة الجمهور الذي يشتري، ومحل سكنه أو عمله، وحجم مبيعاته السنوية، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على التنافس بينهما؟
أمازون تمتلك القدرة على فعل ذلك، فهي ليست مجرد وسيط بين مئات الآلاف من البائعين وملايين الزبائن، بل هي أيضا بائع مثل هؤلاء البائعين، إذا قام أحد مديري البيع برصد التفات الزبائن إلى منتج ما تُقدِّمه إحدى الشركات الصغيرة، فإنه يتمكن بسهولة من تقديم منتجات شبيهة في السوق نفسه، ومع الوقت يفقد التجار أسرارهم التسويقية وتسيطر أمازون على كل شيء فتصبح -حرفيا- هي السوق، وليس الوسيط فقط.
بشكل رئيسي، ركزت هجمات رجال الكونغرس على تلك النقطة، والتي بدأ بيزوس مترددا في الرد عليها، وتعمق بعد السائلين في الحفر خلف الأمر بعد استدعاء شهادات من بائعين قالوا إن أمازون تتعمد منعهم من بيع فئات كاملة من الكتب لأنها تسيطر على تلك الفئات كتاجر، من جهة أخرى فإن أمازون -الشركة التي تسيطر على ثلاثة أرباع سوق التجارة الإلكترونية- لا تترك للبائعين فرصة سوى البيع من خلالها، بالتالي فإنك -كبائع صغير- ستقع حتما في “كمّاشة” أمازون بشكل أو بآخر.
شركة غوغل، على الجانب الآخر لم تسلم من الاتهام نفسه، إذا أردت أن تبحث عن شيء ما على الإنترنت يجب أن تعلم أن غوغل تدير ثلاث عمليات هنا وليس عملية واحدة، فهي تدير السوق الخاص بالبحث عبر الإنترنت، كذلك فإن نتائج البحث المقدمة إليك تكون مختلطة بالإعلانات الدعائية، على سبيل المثال إذا قررت البحث عن “خدمة عملاء شركة زانوسي”، وهي مشكلة في مصر لأن هناك الكثير من الشركات التي تدّعي أنها “زانوسي الأصلية”، فإن غوغل سيُقدِّم لك أقرب الإجابات ليس فقط بناء على الأصالة ولكن الإعلانات، ولذلك قد يكون اتصالك الأول مع شركة غير أصلية.
أما على الجانب الثالث فإن غوغل، مثل أمازون، تدخل منافسا للشركات الصغيرة في بعض النطاقات، الأمر الذي يعطيها القدرة على السيطرة على هذا السوق لأنها -ببساطة- محرك البحث الذي يذهب إليه 90% من الجمهور، أثار السائلون في جلسة الاستماع تلك النقطة أكثر من مرة: ما الذي يمنع غوغل من الحد من وصول موقع ما إلى الجمهور؟ هل تستخدم غوغل بياناتها الهائلة لتحديد تهديدات المنافسين ثم تعمل على إقصائهم؟
وكانت غوغل بالفعل قد واجهت، قبل عدة أعوام، اتهامات بأنها تُوجِّه جمهور البحث لخدماتها، وتسبّبت، في أثناء ذلك، بأضرار جسيمة لمنصات مثل “ييلب” (Yelp) و”مايكروسوفت” (Microsoft) ومحرك البحث الخاص بها “بينج” (Bing)، ومواقع السفر مثل “تريب أدفايزور” (TripAdvisor) و”إكسبيديا” (Expedia)، بل وتطوّر الأمر إلى اتهامات للشركة أنها تنسخ، دون حق قانوني، محتوى من “يلب” و”تريب أدفايزور” و”أمازون” لتحسين خدماتها، حضرت هذه الاتهامات بوضوح في جلسة الكونغرس، بل واتُّهِمت الشركة مباشرة بأنها هدّدت “ييلب” بطريقة: إما أن تتركنا ننسخ محتواك أو نزيلك من قائمة البحث، أو ربما نضعك في غياهب الصفحة الثالثة أو الرابعة للبحث، تلك التي لا يراها سوى الكائنات الفضائية!
أبل أيضا واجهت اتهامات شبيهة، فرغم أنها لا تمتلك قيمة سوقية هائلة مثل سابقتيها فإن استقصاء الكونغرس كان مرتبطا -على الوتيرة نفسها- بمدى قوة الشركة، وإمكانية أن تستخدم تلك القوة لفرض السيطرة على مطوري التطبيقات الذين يعرضون تطبيقاتهم في سوق أبل، خاصة أنها تُجبرهم على استقبال اشتراكات تطبيقاتهم من خلال سوق أبل ولا يمكن لهم استقبال نقودهم عبر أية وسيلة أخرى، الأمر الذي يعطي أبل القوة لفرض أي نسبة قد تحتاج إليها من هذا البائع، وإلا قد تطرده خارجها.
في الواقع فإن أبل، على مدى السنوات العشر الماضية، كانت تواجه قضايا مقدمة من زبائنها يتهمونها بالاحتكار لأنه لا يمكن لك، عبر أي وسيلة، أن تُحمِّل تطبيقات إلى هاتفك إلا عبر سوق أبل الذي يطالب المطورين بنسبة من الأرباح، تُضاف هذه النسبة إلى سعر التطبيق فتجعله أغلى مما يناسبه من قيمة.
من جانب آخر فإن أبل تقع في المشكلة نفسها، حيث تطور تطبيقات خاصة بها تنافس تطبيقات صغار المطورين، وبالتالي يمكن لها بسهولة أن تمنعهم من الظهور أمام الجمهور، أو على الأقل يمكن أن تعمل على تخفيض معدلات ظهورهم، بل ويمكن لها -مثل غوغل- أن تنسخ أفكارا ناجحة من مطورين صغار وتُقدِّمها في تطبيقات خاصة بها، اعتمادا على قدر كبير من البيانات تجمعه حول هؤلاء المطورين الصغار، ما يضعها أيضا في موقف شبيه بأمازون.
وعلى الخط نفسه، واجهت شركة فيسبوك اتهامات بالاحتكار لأنها، مثل المجموعة السابقة، تضغط على منافسيها لأجل أن يتنازلوا عن شركاتهم ويقومون ببيعها إلى فيسبوك، أحد أشهر الأمثلة هنا هو مشكلة فيسبوك وإنستغرام (مشكلة سناب شات كذلك)، حيث فعّلت فيسبوك خاصية “كاميرا فيسبوك” للضغط على إنستغرام للقبول بالصفقة، والفكرة ببساطة تكون في تهديد غير مباشر، إذا كنت شركة صغيرة تُقدِّم خدمة ما وتبدو واعدة، فإن حيلة شركة كبيرة لشرائك تبدأ بتقديم خدمة شبيهة لكي تعرف أنه لو رفضت الصفقة فسوف تزيحك الشركة الكبيرة على أي حال وتُروِّج للخدمات الخاصة بها. من جديد، لا يترك ذلك اختيارا لصغار التجار أو المطورين أو رواد الأعمال.
من جانب آخر، فإن الاتهامات التي تربط بين بيانات فيسبوك وفضيحة كامبريدج أناليتكا أطلّت برأسها بالطبع في هذا الاستجواب، حيث كانت بيانات المستخدمين في فيسبوك قد استُخدمت من قِبل كامبريدج أناليتكا لعمل تحليل شخصيات هائل استُخدم بدوره لاستكشاف الشخصيات التي تحمل ميلا يمينيا قوميا أو عنصريا ثم أُثيرت الحسابات التي تمتلك تلك الصفات الشخصية، عبر حسابات مزيفة مسيئة، للمزيد من السلوكيات العنصرية واليمينية، الأمر الذي دفع بنجاح دونالد ترامب في الانتخابات لأن إحدى أهم أدواته كانت تلك التوجهات.
لكن رغم تطرق الاستجواب لمناطق أخرى تتعلق بروسيا والصين وترامب، يظل الهدف الرئيس له هو التساؤل عن مصالح ملايين من التجار والمطورين ورواد الأعمال الصغار الواقعين تحت سيطرة هذه الشركات العملاقة، ليست الفكرة فقط فيما تفعله هذه الشركات حاليا، وهو أمر ما زال محل جدل من وجهة نظر سياسية وقضائية، بل عن قدراتهم، حيث لا يوجد شيء يمنعهم من ممارسة السلطة على الآخرين في هذا السوق، يلخص ديفيد سيسيلين، رئيس اللجنة الفرعية لمكافحة الاحتكار التابعة للجنة القضائية بمجلس النواب الأميركي، هذه الفكرة في مفتتح كلمته حينما قال: “باختصار، لديهم الكثير من القوة، هذه القوة تقوّض المنافسين الجدد، وتمنع الإبداع والابتكار”.
الملاحظ في ردود هذا الرباعي من أباطرة أسواق العمل الإلكتروني في العالم كله هو نقطتين، الأولى هي أنه لا يمكن لك أن تستخلص من ردودهم معلومات محددة، وذلك بالطبع متوقّع، فقد تجهز كلٌّ منهم بعدد هائل من النصائح القانونية السابقة حول ما يمكن أن يُحسب ضدهم من كلمات يقولونها في هذه الجلسة، وبالتالي فإن نمط الحديث سيكون دائما عاما ويقبل التأويل بأكثر من طريقة، وإذا ضُيِّق الخناق فسيُجيب بأنه “لا يعرف” أو أنه “سيعود إليك بعد التأكد حول هذا الأمر”. أما النقطة الثانية فهي إصرار كلٍّ منهم على الإشارة المستمرة إلى طبيعة السوق التنافسية للغاية، الأمر الذي يُعَدُّ حقيقيا بالفعل، لكنه أيضا يمكن أن يُبرِّر كل الأفعال الاحتكارية تجاه المنافسين الصغار.
في كل الأحوال، فإن ما حدث ليس أول خطوة ولا هو آخر خطوة في عملية تتبع كبيرة حقا حول هذه الشركات، نحن أمام واحد من أكبر التحقيقات في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية والعالم كله، والتي بالطبع ستؤثر في كل دول العالم وصولا إلى عتبة منزلك، ذلك لأنك -بشكل أو بآخر- مرتبط في لقمة عيشك بواحدة من تلك الشركات، أو واحد من هؤلاء المليارديرات.
من جهة أخرى فإن الأمر يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، فنحن نعرف أن الدولة كانت دائما وكيل المعلومات الرئيسي، هي الجامع والمتحكم والمنتج الرئيسي لها عبر شبكاتها الخاصة الداخلية والخارجية، وبسبب ذلك فإنها كانت دائما الكيان الوحيد القادر على اتخاذ القرارات التي تصحبها تغيرات سياسية واجتماعية، أما الآن فهناك وكلاء آخرون للمعلومات غير الدولة، ونتحدث عن تلك الشركات التي تجمع بيانات هائلة عن الناس.
بالتالي، يمكن لهذه الكيانات الضخمة أن تتدخل أيضا في عملية صناعة القرار السياسي والاجتماعي بشكل ربما أكثر قوة من الدولة ذاتها، وبذلك تتأثر مركزية الدولة، لك أن تعرف أنه من بين أكبر 100 اقتصاد في العالم توجد فقط 49 دولة، البقية شركات!
________________________________________________