المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
لم يكن خروج الرئيس الأميركي الخامس والأربعين من الرئاسة الأميركية خروجاً سهلاً، بل اكتنفه ما يليق به من ضجيج قضائي حول صحة حساب الأصوات الصحيحة في الولايات الأميركية التي ازدحمت كلها بأعلى مرات التصويت ربما في التاريخ الأميركي كله.
كان فتح الأبواب للتصويت العام بوسائل متنوعة، أهمها البريد سبباً مباشراً في سبق 102 مليون من المصوتين إلى العملية الانتخابية، والتي عندما حدثت كان عليها التعامل مع جميع أنواع التصويت، إضافة إلى القلق والانزعاج على صدور النتيجة، والإلحاح المتوقع من وسائل الإعلام العالمية كلها على معرفة النتيجة والحسابات المستندة إليها مزعجاً وزاعقاً. ولأول مرة منذ طرقت الأراضي الأميركية لأول مرة عام 1977 لم أستمع إلى ضرورة فضيلة «الصبر» كما استمعت إليها خلال يوم التصويت على الرئاسة الأميركية وما أعقبه من أيام وأحداث. أياً ما كانت أو سوف تكون من نتائج لتلك الأيام المثيرة، فإن إقامة دونالد ترمب في البيت الأبيض خلال السنوات الأربع لن تمر مرور سحابات الصيف التي لا يلاحظها أحد وسط زرقة السماء ساعة صيف. الناحية الظاهرة للرجل هي شخصيته غير العادية التي جاءت من عالم رجال الأعمال والمليارديرات إلى دنيا السياسة باقتحام صارخ لا يدخل في حساباته أصول الكلام وآدابه، ولا يهتم كثيراً بصيغ مكتوبة منمقة، وإنما يهرب منها إلى تلقائية لافتة للسمع والبصر.
كان ترمب شخصاً ورئيساً كما سوف يظهر في كتب التاريخ لا يهتم كثيراً إلا بتلك الإرادة التلقائية داخله التي تريد البقاء على الساحة الإعلامية طوال الوقت بالعداء المستمر لأجهزة إعلامية، والجاهزية الدائمة للجلوس معها خصوماً أكثر من الأصدقاء. وأثناء تحضير كتاب بوب وودورد الأخير «الغضب» الذي قام على تسع ساعات من المقابلات المتفرق على 17 لقاءً تليفونياً ومباشراً، فإن الجملة المتكررة كانت دائماً ترجمتها المهذبة هي أنني أعلم أنك لن تكتب عني أمراً طيباً، ولكنني سوف أقص عليك على أي حال. كان ترمب مثل الفراشة التي تقترب من الكاتب الماهر وهي تعلم أنها معرضة للحريق.
ولكن ترمب لم يكن فقط الشخصية التي كان عليها، أو الشخصية التي قبلتها جماهير كثيرة رغم كلماتها الحادة، وأفعالها التي لا يقبلها الفضلاء، وطرقه التي ليست دائماً مستقيمة؛ وإنما كان قائداً لحركة كبيرة لتغيير ما هو سائد وما سارت فيه أميركا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم السابق على دخوله إلى البيت الأبيض. الفلسفة الديالكتيكية أو الجدلية تقول بأن تقابل الأضداد هو سبيل التطور، حيث يخرج منها المركب الذي يأخذ البشر إلى مراحل أخرى من التطور. «الترمبية» هي تلك الأفعال التي قام بها دونالد ترمب خارجة من رحم المشروع الأميركي الليبرالي من أجل تطور الولايات المتحدة والعالم من ورائها، لكي تقف في وجهه بغية الذهاب إلى طريق أخرى ومرحلة أخرى من التاريخ. هي مجمع الأقوال والأفعال التي قام بها ترمب لكي يضع مرآة هائلة أمام العالم الليبرالي الأميركي لكي يرى فيها حقائق غير سارة وصادمة، ويطرح أسئلة صعبة وجارحة. غض النظر ضروري عن الألفاظ وحدّتها التي بدأت مع نزوله في مبنى «ترمب» على هذا السلم الكهربائي المثير مع زوجته الحسناء لكي يرشح نفسه للرئاسة الأميركية في عام 2015، ولم تكن ألفاظه التي وصف بها الأميركيين من أصول لاتينية مجرد ألفاظ جاذبة لحالة من الهلع الإعلامي الذي وضعه في دائرة الضوء على مدار الساعة، وإنما كانت طرحاً لسؤال جوهري: هل الأمة التي قامت على الهجرة إلى العالم الجديد سوف تستمر في استقبال المهاجرين إلى الأبد؟ أم أنه آن لها النضج الذي يجعلها مثل غيرها من العالم المتقدم التي تضع حسابات لمن يهاجر إليها. ما بقي من قضية الهجرة من أحاديث عن الحائط والحالمين وغيرهم كان محض تفاصيل، ولم يكن السؤال فقط يعبّر عن سياسات معارضة لما هو سائد، وإنما طرح لقضية في صميم الوجود الأميركي ومستقبله الذي كان لا بد من تغيير مساره الجاري إلى مسار آخر تصبح فيه أميركا «عظيمة» مرة أخرى.
لم يكن سؤال الهجرة هو السؤال الوحيد الذي يطرح أقداراً مضادة لما سار عليه الحلم الأميركي الليبرالي، ولكن كانت هناك أسئلة أخرى مضادة للمسائل الأميركية كافة التي يقع في مقدمتها ما هو مثالي وليبرالي وببساطة «الصحيح السياسي أو POLITICAL CORRECTNESS. كانت الأسئلة المضادة متعلقة بالتدخل العسكري الأميركي في الخارج بقدر ما هي موجهة إلى الرعاية الصحية في الداخل؛ والمشاركة في أعمال المنظمات الدولية متعددة الأطراف بقدر ما هي موجهة إلى مسألة القانون والنظام في أميركا. لم يكن ذلك بالضرورة استدعاء لأزمنة قديمة صعبة ومظلمة بقدر ما كان استجابة لواقع اقتصادي واجتماعي وضع مساحات واسعة من المجتمع الأميركي في موضع الغربة والاستغراب والكتمان في آرائه وتفضيلاته، لتجنب الاتهام بالرجعية والعجز عن التعاطف مع الآخرين وخلل وظائف التسامح. «الترمبية» كانت في جوهرها استجابة لمشاعر ومطالب قاعدة اجتماعية ظلت مخلصة ووفية في المهرجانات السياسية وأمام صناديق الاقتراع حتى اللحظة الأخيرة.
المدهش أن ظهور دونالد ترمب على ساحة الولايات المتحدة سرعان ما أظهر تياراً عالمياً له قوة اندفاع هائلة. الاتحاد الأوروبي الذي كان جزءاً رئيسياً من ظاهرة «العولمة» ومثالاً تاريخياً على الهندسة الإنسانية للنظام الدولي بحيث تنتهي فيه الحرب والمنازعات والحروب؛ بات عليه أن يواجه الخروج البريطاني – بريكست – عبر عملية سياسية لا تقل إثارة عما فعله ترمب على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي. أصبحت شخصيات مثل بوريس جونسون في بريطانيا، ومودي في الهند، وبوليسنارو في البرازيل عنواناً عالمياً على توجهات سياسية مناقضة لما يسير عليه العالم، وكانت «الترمبية» حاملة البيرق في المقدمة. هل كانت أزمة «كورونا» هي التي وضعت النهاية لهذه الظاهرة حينما وضعتها أمام اختبار هائل لا قبل لها به وهي في أول الطريق الذي تساقط فيه بالمرض الزعيم السياسي الواحد بعد الآخر للدلالة على فساد القضية؟ الجدل التاريخي لا يعمل بهذه الطريقة؛ لأن عملية التناقض والتركيب بين المتناقضين تظل عملية أزلية لها تفاصيلها وعوارضها وأجزاؤها الزمنية والمادية. والحقيقة أننا لا نتخلص مما سبق بمجرد وصول ما لحق، وإنما نصبح أمام تركيبات جديدة لعل مكانها هذه المرة أيضاً الولايات المتحدة ذاتها. «الترمبية» لن تكون غائبة أبداً عن الرئيس الأميركي مهما كان اسمه أو حزبه السياسي. المحطات الرئيسية في التاريخ الأميركي سواء بعد ثورة الاستقلال، أو الحرب الأهلية، أو الحروب العالمية الساخنة والباردة، أو في أعقاب قانون الحقوق المدنية في الستينات من القرن الماضي كلها كانت تفاعلات بين الماضي والحاضر والقادم الذي تبشر به تكنولوجيات لم يعرفها بشر من قبل. لم تكن مداعبة ترمب لـ«تويتر» محض صدفة، بل كانت ترجمة لعملية جدلية تاريخية أعلنت فيها «الترمبية» عن نفسها.