تحليلات سياسية

السعودية.. العودة للتوازن؟

بعد مقتل خاشقجي ورحيل ترامب

تسعى السعودية لاستعادة دورها المتوازن والتأثير في الإقليم بعد محاولات الإمارات “الطائشة”

لم يقوَ محمد بن سلمان هذه المرة على منع أبناء عمومته من الدخول على والده الذي كان غاضباً ويحاول احتواء غضب الرئيس التركي على خلفية مقتل جمال خاشقجي، فقد أدرك من غضب والده وتوافد أبناء عمومته الأقوياء أن فترة هيمنته على مقاليد الأمور في المملكة قد تنتهي قريباً، وقد يستعين الملك برجال الحرس القديم لترتيب الأمور لاحتواء تبعات الجريمة/ الكارثة، إدراكاً منه لخطورتها على مستقبل المملكة بشكل عام والأسرة بشكل خاص.

فقد أدرك الملك ورجاله أن أقوى رسالة لحادث خاشقجي أنه لا يوجد حدود لقسوة محمد بن سلمان، وليس كما قال البعض إنه “ما من أحد بمنأى عن يد السعودية القاسية”.

كانت بداية عهد الملك سلمان قد شهدت العديد من التغييرات السريعة والمفاجئة التي أسست لعهد جديد في المملكة على كافة المستويات الداخلية والخارجية، ثم جاء حادث جمال خاشقجي وقلب الأمور رأساً على عقب، ولم يعد حال المملكة كما كان قبله، وفي الحقيقة ليس هذا الموقف فقط، فكثير من الملفات تراجعت الرياض فيها عما كانت عليه في السابق من توازن وممارسة السياسة بهدوء وعدم إغضاب الحلفاء بهذا الشكل.

مكانة الرياض إقليمياً أيضاً لم تعد كما كانت عليه مع بدء عهد الملك سلمان، فباتت السعودية متورطة في “دم” اليمنيين، فيما جنت الإمارات وحدها الثمار في “البلد السعيد” سابقاً حتى الآن، وصارت هي المهيمنة على قرار المملكة في بعض الملفات، وهذا بلا شك أزعج كثيرين في أروقة الحكم بالرياض.

إسلامياً لم تعد السعودية “كعبة” الضعفاء من طنجة إلى جاكرتا كما كانت من قبل، بل بالعكس، أصبحت تغض الطرف عن مسلمي الروهينغا في ميانمار، وتدعم الصين ضد مسلمي الإيغور مقابل الإبقاء على المصالح الاقتصادية مع “التنين الصيني”، المتعطش للهيمنة على العالم، وتقف بجوار رئيس الوزراء الهندي “الهندوسي” ناريندرا مودي ضد “الشقيقة” باكستان، في قضية كشمير وغيرها من الملفات الهامة.

لكن كانت قضية اغتيال خاشقجي بمثابة الصدمة التي أفاقت الجميع، بمن فيهم رجال الملك الناصحون، وباتوا يفكرون في الطريقة التي بها يوقفون الأمير الطامح محمد بن سلمان و”مغامراته” والعودة إلى “الرشد السياسي” كما كان عليه أسلافه.

في هذا التقرير سنحاول رصد الملفات التي بدأت السعودية تعيد فيها الحسابات عبر الفترات الزمنية منذ وصول الملك سلمان وبزوغ نجم نجله، إلى اتفاق العُلا الذي بدا وكأنه العودة إلى “الرشد” السياسي.

مرحلة تمكين محمد بن سلمان

مثّل مجيء الملك سلمان بن عبدالعزيز ملكاً على السعودية بزوغاً لنجم ابنه محمد، الذي شغل في بداية عهد أبيه منصب وزير الدفاع، بالإضافة إلى عدة مناصب أخرى، وبشكل عاجل وبعد أقل من شهرين من وصوله لمنصبه (25/3/2015) شن حرباً عسكرية ضد الحوثيين في اليمن تحت مسمى “عاصفة الحزم”، وكان المسؤول عن التنسيق مع الدول الأخرى بشأن هذه الحرب، فقد زار البحرين ومصر، وعقد اجتماعات مع مسؤولين من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

اعتبر محمد بن سلمان أن الحرب على اليمن فرصة لإثبات كفاءته، كما اعتقد أيضاً أن المسألة لن تتجاوز أسابيع قليلة أو بضعة أشهر على الأكثر، ثم يصبح كل شيء على ما يرام، واتخذ قرار الحرب منفرداً بدعم والده الملك سلمان، وعمل على إشاعة حالة من التفاؤل في وسائل إعلامه بشأن نجاح الحرب ضد الحوثيين، كما ساهمت الإجراءات التي اتخذها الملك سلمان، في 29 أبريل/نيسان 2015، في منح ابنه دعماً كبيراً، خصوصاً بعد إعفاء ولي العهد الأمير مقرن من منصبه، واستبداله بوزير الداخلية ووليّ وليّ العهد الأمير محمد بن نايف، وتصعيد الابن ليصبح نائباً لولي العهد متقلداً منصب ولي ولي العهد، ولم تتوقف حركة تصعيده عند هذا الحد، فقد تقلّد بعد ثلاثة أيام فقط من ذلك الترفيع منصب رئاسة المجلس الأعلى الجديد لشركة أرامكو السعودية.

قد تكون إجراءات تصعيد محمد بن سلمان مفاجأة بالنسبة للمراقبين من خارج المملكة، ولكن من يعرف علاقة الملك سلمان بابنه (السادس في ترتيب أبنائه) يدرك أن ذلك يعد امتداداً لما يفعله منذ سنوات، فقد كان الابن حاضراً إلى جانب والده خلال إمارته للرياض، وكان أيضاً ملاصقاً له حينما كان والده وزيراً للدفاع بين عامي 2011 و2015، وكانت مسألة تدخله في أمور الوزارة لا تخفى على أحد.

مع مجيء عام 2016 واستمرار نزيف الخسائر في حرب اليمن، بحث محمد بن سلمان عن طريق للخروج من هذا الموقف، خصوصاً أن الأنظار من داخل الأسرة الحاكمة باتت مسلطة عليه، ولذلك لجأ إلى تكوين تحالفات عسكرية سواء إسلامية أو عربية، ففي منتصف فبراير/شباط من ذلك العام، أعلن تأسيس التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، ورغم مسارعة الدول العربية والإسلامية الأعضاء في الحلف للإعلان عن الترحيب بالانضمام فإن الغموض لفّ تأسيس التحالف، وسرعان مع تم اكتشاف فشله، خصوصاً أن ذلك تزامن مع مساعٍ مشابهة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في تشكيل «القوة العربية المشتركة» التي لم تجد ترحيباً سعودياً، فجاء الرد المصري سريعاً بإعادة التذكير بالقوة العربية المشتركة، وقد انعكس ذلك لاحقاً على العلاقات بين البلدين. 

 أدرك الأمير الشاب أن الدول العربية والإسلامية لا يمكن الاعتماد عليها، ومن ثم غيّر وجهته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ووجد ضالته في الرئيس الجديد الذي يجيد الصفقات الاقتصادية ولا يكترث بما كان يشغل اهتمام سلفه في علاقته مع السعودية، خصوصاً ملف الديمقراطية والحريات، وعرف نفسه باعتباره صاحب ما سمّاه «رؤية السعودية 2030»، وسعى لترويجها خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، في يونيو/حزيران من نفس العام.

فأحكم محمد بن سلمان قبضته على كل شيء

تبنى محمد بن سلمان خطاباً وإجراءات وإصلاحات جذبت قطاعات واسعة من الشباب السعودي، بالإضافة للخطاب الحماسي ضد إيران، واتهامها بالوقوف خلف الحوثيين في اليمن، كما لم تقتصر زيارته الخارجية على الولايات المتحدة، بل شملت روسيا وعدداً من الدول الآسيوية والعربية. 

استمر صعود الأمير الشاب وترسخت أكثر علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصاً جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي، الذي نجح في الضغط على ترامب لجعل السعودية أول زيارة يقوم بها للخارج كرئيس، وكان عام 2017 عاماً درامياً في حياة محمد بن سلمان، إذ استطاع خلاله ترسيخ مكانته في المجتمع الدولي والإقليمي، وبصورة أكبر في المجتمع السعودي من خلال منصب والده، إذ إنه دائماً ما يكون المستفيد الأكبر من المراسيم الملكية التي باتت تصدر بطريقة سريعة ومتتابعة لإدخال تعديلات على الحكومة والمناصب الكبرى، حتى إنه استطاع أن يعين أخاه الشقيق سفيراً لبلاده في واشنطن، وقد ساعده ذلك في ترسيخ علاقاته، وضمن لنفسه مكانة متقدمة على خصمه محمد بن نايف في التواصل مع المؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية.

وقد وضح هذا التطور في علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عاجل في تغريدات الرئيس الأمريكي المؤيدة لمساره في قطع العلاقات مع قطر، حيث خلقت تغريدات ترامب التي صدرت بعد يوم واحد من المقاطعة حالة غير مسبوقة من الدعم للسعودية والإمارات في إجراءاتهما ضد قطر، وتصور البعض أن ذلك بمثابة “ضوء أخضر” لهما بفعل ما يريدانه بها.

بعد أقل من شهرين على صدور المراسم الملكية، صدرت من جديد في 17 يونيو/حزيران 2017، زاد تهميش ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، وتأكيد الصعود السياسي لمحمد بن سلمان، وكان أبرزها إعادة هيكلة نظام الملاحقات القضائية في المملكة بما أفقد محمد بن نايف سلطات الإشراف على التحقيقات الجنائية، وأصبح المدعي العام المعين حديثاً مسؤولاً أمام الملك مباشرة، وإن شئنا الدقة أمام محمد بن سلمان، وفي غضون أيام قليلة على ذلك التهميش تم لمحمد بن سلمان ما أراد، فقد أصدر الملك سلمان في 21 يونيو/حزيران 2017، أمراً ملكياً بتعيينه وإعفاء الأمير محمد بن نايف من كافة المناصب التي يتولاها، وانتقلت جميعها لمحمد بن سلمان، بالإضافة لما كان يحوزه سابقاً.

بعد هذه التغييرات الداخلية في السعودية تواترت التوقعات بشأن موعد إعلان محمد بن سلمان ملكاً بالاسم أيضاً، بعدما بات ملكاً في الواقع، وتم تداول العديد من السيناريوهات ما بين تنازل الملك لابنه، أو تنازله لأسباب صحية، وصولاً إلى القول إن الملك سلمان يعاني من سكرات الموت، وإن إعلان ولي العهد ملكاً لن يتجاوز الأيام، وعلى أي حال فقد بات محمد بن سلمان يتعامل على أنه الملك المتوج على المملكة ولمدة 50 عاماً لاحقة، وبات أكثر حرصاً على صورته في الخارج، وبعيداً عن الانفتاح الثقافي الكبير الذي باتت تعيشه المملكة من خلاله الحفلات الغنائية والمهرجانات الفنية، فقد استفاد كثيراً، خصوصاً في الغرب، من قرار السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة.

عند وصوله إلى هذه المرحلة أدرك أنه بات الآن يملك من القوة ما تجعله يتخلص من خصومه المحتملين دفعة واحدة ومن ثم في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أجرى عمليات اعتقال غير مسبوقة لـ11 أميراً وعشرات من الوزراء السابقين وأرباب الأعمال بتهم الفساد، وتصدّر القائمة رجل الأعمال الدولي الملياردير الأمير الوليد بن طلال، إلا أن الأكثر أهمية منه كان اعتقال الأمير متعب بن عبد الله، نجل الملك الراحل ورئيس “الحرس الوطني” السعودي، وقد تنوعت التفسيرات لهذه الاعتقالات ما بين تهم الفساد، وإساءة استغلال السلطة، إلا أن معظم المحللين اعتبروا الأمر موجهاً لتأكيد مركزه في الانفراد بقيادة المملكة، ولاقت اعتقالات الأمراء أيضاً تأييد الرئيس الأمريكي الذي غرّد على تويتر قائلاً: “لدي ثقة كبيرة بالملك سلمان وولي عهد المملكة العربية السعودية. فهما يعرفان تماماً ما يفعلانه”.

الدعم الإماراتي الكبير

لمحمد بن سلمان

في رحلة الصعود هذه لا يمكن نسيان الدور الذي لعبه الشيخ محمد بن زايد، في إطار علاقة الصداقة المتنامية بينهما والتي تطورت منذ أن تمت مبايعة والد الأمير محمد بن سلمان ملكاً للسعودية في يناير/كانون الثاني 2015، وعلى الرغم من أن العلاقات السعودية الإماراتية ليست دائماً في أفضل أحوالها فإن محمد بن زايد استطاع تطويع المنافسة التاريخية بين البلدين من خلال تبني محمد بن سلمان، وسخر له إمكانات الإمارات السياسية في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها السياسية والاستراتيجية ودعمه في مواجهة محمد بن نايف.

كانت القوة التي بات يحوزها محمد بن سلمان بعد أن دانت له الأوضاع بشكل كامل في الداخل والخارج قد أشكلت عليه الأمور، وبات يتصرف بصورة لا يمكن تصورها إلا باعتباره إمبراطوراً في الأزمان الغابرة، حتى إن رد فعله على كندا كان مذهلاً، فعلى خلفية تغريدات لوزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند، منتقدةً اعتقال ناشطَتيْن سعودَيتيْن في ميدان حقوق الإنسان، استدعت الرياض سفيرها من أوتاوا، وأوقفت كافة رحلات الطيران المباشرة إلى كندا، وسحبت المنح الدراسية من آلاف الشبّان السعوديين الذين يدرسون هناك، وأوعزت إلى المواطنين السعوديين الذين جاؤوا إلى كندا لتلقّي الرعاية الطبية بالمغادرة، ووضعت حظراً على كافة الصفقات التجارية الجديدة.

إلا أن ذروة شعوره بالقوة والنفوذ المطلقين تجسّدت في حادث مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، فطريقة قتله لا يمكن تصورها، وقد أثارت فزع العالم واندهاشه رغم أن رد فعله مع الأمير محمد بن نايف، ومع كندا، ومع رجال الدين والعلماء الذين يعارضون أفكاره أو حتى يصمتون فقط (تعرضهم للاعتقال وتهديدهم بالإعدام)، كان بمثابة تمهيد عن هذا الرجل، وكيف يتصرف مع أعدائه ومعارضيه.

وقد مثل هذا الحادث بداية رؤية العالم لحقيقة محمد بن سلمان، وبات الخوف من وصوله للحكم ليس شأناً من شؤون الأسرة المالكة في السعودية فقط، ولكنه شأن عالمي، حتى إن كثيراً من الكُتاب الغربيين الذين كانوا منشغلين بالترويج له ولأفكاره والمطالبة بمساندته توقفوا، بل وطالبوا الولايات المتحدة الأمريكية بمحاسبته.

اغتيال خاشقجي..

الصدمة التي أفاقت الجميع

عقب اغتيال خاشقجي وضح أن هناك مَن يريد استعادة سياسة المملكة الهادئة المتزنة التي تتعامل بسرية وتأنٍّ ولا تهتم بالرد الإعلامي أو الشو مهما حدث، وقد أدركت هذه الأصوات أكثر من غيرها أن هذه الحادثة لم تكن خطأ تنفيذياً من المسؤولين عنها بقدر ما كانت رسالة للداخل والخارج وتعبيراً عن نظرتهم لأنفسهم وإحساسهم بمصادر القوة التي باتوا يمتلكونها وأنهم يستطيعون تنفيذ أي شيء يريدونه، وكانت اعتقالات فندق الريتز كارلتون حاضرة في الأذهان، فقد أدركت هذه الأصوات أن الأمير الشاب ومعاونيه يسيرون بالسعودية إلى الهاوية، وكان لهم موقف، واستطاعوا أن يهمسوا في أذن الملك سلمان، الذي أجرى تعديلات على الحكومة عقب شهرين من هذه الحادثة، كانت ذات دلالة على بداية العودة من جديد لسياسة السعودية التقليدية.

كان من أبرز دلالات هذه التغيرات تراجع عدد من المستشارين والوزراء التابعين لمحمد بن سلمان، وتمكين أعضاء الحرس القديم، ومن بينهم تعيين وزير المالية السابق لمدة 20 عاماً، الذي تم إيقافه بفندق الريتز كارلتون، الدكتور إبراهيم العساف، بمنصب وزير الخارجية، وكان بمثابة مرحلة انتقالية، فبعد عام من هذا التعديل الحكومي وصل إلى المنصب أمير سعودي شاب، لكنه ينتمي سياسياً إلى الحرس القديم، وهو الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالعزيز، الذي يحاول استعادة نهج الأمير سعود الفيصل في إدارة وزارة الخارجية، كما أن خطابه في العديد من القضايا، خصوصاً القضية الفلسطينية، يعد مختلفاً عن خطاب الجبير المعبِّر عن الأمير محمد بن سلمان.

إضافة إلى وزارة الخارجية استطاع الحرس القديم استعادة وزارة الحرس الوطني التي كان بن سلمان قد استولى عليها بعد عزل الأمير متعب بن عبدالله، حيث تم تعيين الأمير عبدالله بن بندر بن عبدالعزيز، وهو أيضاً من أبناء الحرس القديم، إذ عمل نائباً للأمير خالد الفيصل في إمارة مكة المكرمة، ويصنَّف أمير مكة المكرمة بأنه من أبرز رجال الحرس القديم، وأنه الذراع اليمنى للملك سلمان بن عبدالعزيز، وكان له دور مشهود في إيقاف محاولات القوى الدولية والإقليمية لمعاقبة السعودية التي يقودها محمد بن سلمان، عقب حادث جمال خاشقجي، وكانت زيارته لتركيا لافتة في ذلك التوقيت.

كما أثرت قضية جمال خاشقجي على العلاقات السعودية التركية، وتضررت هذه العلاقات على مدى العامين الماضيين، إلا أنه مؤخراً هناك محاولات لتقارب سعودي تركي قد يصل إلى إعلان المصالحة بينهما، وهناك العديد من المؤشرات على ذلك، منها الاتصال الهاتفي الذي أجراه الملك السعودي بالرئيس التركي في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لدعوته إلى المشاركة في قمة العشرين، وقد لاقت المشاركة التركية احتفاءً سعودياً حتى من جانب ولي العهد نفسه.

هل بدأت العودة إلى الرشد السياسي؟

محاولات جادة للخروج من المأزق اليمني

تمارس السعودية ضغوطاً مكثفة على جميع الأطراف المتداخلة في الأزمة اليمنية؛ لتنفيذ “اتفاق الرياض” الموقَّع في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بين الطرفين المتنازعين، والذي قضى بالفصل بين قوات الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بانفصال جنوب البلد عن شماله، وكذلك انسحاب قوات المجلس من مدينة عدن كبرى مدن الجنوب، وقد بدأت -مؤخراًـ في 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، بمحافظة أبين جنوب اليمن أولى مراحل انسحاب القوات الحكومية تنفيذاً للشق العسكري من الاتفاق، وتعوّل السعودية كثيراً على هذا الاتفاق للخروج من الأزمة اليمنية، وقد كان هذا الملف من أبرز الملفات التي شهدت بروز الخلافات بين السعودية والإمارات. 

 إعادة ترسيم العلاقات السياسية مع الإمارات 

لا يخفى فتور العلاقات السعودية الإماراتية على أحد، وهناك العديد من المظاهر الدالة على ذلك، إضافة إلى الملف اليمني، والمصالحة القطرية، وكذلك مساعي السعودية لاجتذاب الشركات متعددة الجنسيات لنقل مقارها الإقليمية من الإمارات إلى السعودية بتقديم حوافز قد لا تستطيع هذه الشركات مقاومتها، ومن الممكن التدليل على تردي العلاقات بين البلدين بأبعد من ذلك، فالخلاف حول المصالحة القطرية كان بارزاً، فالتصريحات الإماراتية بشأنها كانت تؤكد أن الرفض الإماراتي للمصالحة استمر حتى قبيل التوقيع، كما يعتبر ملف العلاقات مع تركيا من مظاهر هذا التوتر، فقد حرصت الإمارات على تقديم تلميحات إلى المصالحة معها في أعقاب التلميحات السعودية عن احتمالية مصالحتها مع تركيا أيضاً. في الوقت نفسه تحاول الإمارات أن تقدم حوافر إضافية بأنها قد تأتي بمصر للمصالحة مع تركيا.

ملف التطبيع 

على الرغم من أن تفسيرات كثيرة ترى أنَّ تراجع السعودية عن التطبيع حالياً مع إسرائيل مسألة ادخار للنقاط في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ربما يكون موقف الحرس القديم الآن لا يريد أن يطبِّع مع إسرائيل في عهد الملك سلمان، ففيما يبدو أنه لا يريد أن يربط تاريخه بهذه المسألة تحديداً، أو على أقل تقدير يجب ألا يكون التطبيع مجاناً مثل العديد من التجارب القريبة، خصوصاً الخليجية، وقد كشفت مصادر صحفية عن معارضة الملك سلمان لتوجهات ولي عهده بشأن التطبيع مع إسرائيل، عقب اتفاق الإمارات والبحرين، وقد تأكَّد موقف الملك سلمان من خلال تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، التي قال فيها مؤكداً: “نحن ملتزمون بمبادرة السلام العربية، وهي أفضل طريق للمضي قدماً والوصول إلى تسوية للصراع وتطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل الدول، كما أكد أكثر من مرة أن تسوية هذا النزاع بشكل عادل ومُنصف تكون بمنح الفلسطينيين دولة ذات سيادة وكرامة، وفقاً للمبادرة العربية للسلام لعام 2002”. 

كما كتب الأمير تركي الفيصل، وهو مقرب من الملك سلمان، مقالاً في صحيفة “الشرق الأوسط”، تحدث فيه عن مفاجأة الإمارات لهم بالتطبيع مع إسرائيل، كما أكد أن ثمن التطبيع يجب أن يكون غالياً، وأضاف: “لقد وضعت المملكة ثمنَ إتمام السلام بين إسرائيل والعرب”، وأعاد سرد الشروط التي يتبناها وزير الخارجية السعودي. ولاحقاً استكمل الأمير تركي الفيصل توجيه انتقاداته لإسرائيل خلال مشاركته في حوار المنامة الذي عُقد مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث وصف إسرائيل بأنها قوة “استعمارية غربية”، وعلى الرغم من أن الأمير تركي لا يشغل الآن منصباً رسمياً، فإنه لا يمكنه أن يقول مثل هذه التصريحات من دون الحصول على إذن رسمي.

مرحلة جديدة: إعادة تقديم ذاته والبداية من جديد

يحاول محمد بن سلمان تكرار تجربته في الصعود مجدداً وإعادة تقديم نفسه باعتباره يمكن الاعتماد عليه مهتماً بالبعد الاقتصادي والدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة في المنطقة والعالم. 

ظهرت نتائج عودة السياسة السعودية لما قبل محمد بن سلمان مع وصول بايدن لرئاسة أميركا واستحواذ السعودية على مساحة كبيرة من اهتمامه سواء في الحملة الانتخابية أو تصريحاته عقب الفوز، فقد وعد بادين بإعادة تقييم علاقة بلاده بالسعودية بشكل عام وتحدث عن بعض النقاط بتفصيل أكثر من بينها محاسبة المسؤولين عن مقتل السعودي جمال خاشقجي. 

المصالحة مع قطر 

أنهت قمة العُلا التي عقدت بالمملكة في الخامس من كانون الثاني/ يناير 2021 حصار قطر وبحسب وزير الخارجية السعودي فإن مخرجات القمة أكدت طياً كاملاً لنقاط الخلاف مع قطر، ويعتبر الخطاب السعودي هو أوضح خطابات الدول المشاركة معها في الحصار سابقاً (الإمارات، مصر، البحرين) وأكثرها مباشرة، بالإضافة إلى أن هذه المصالحة تم التوصل إليها بعد عدة جولات من المباحثات غير المنفية والكثير من المباحثات السرية بمشاركة الكويت، وتدخل من الولايات المتحدة الأمريكية. 

وعلى الرغم من تزامن هذه المصالحة مع فوز بايدن واعتبار الكثير من المحللين أن هذا الفوز هو السبب، فإنه لا يمكن التسليم بهذه الفرضية بصورة كاملة فقد كان من المحتمل أن ينجح ترامب، ومن ناحية أخرى الدول الثلاث الأخرى لا تأخذ المصالحة بنفس درجة الاهتمام والجدية السعودية، مع عدم التقليل من مركزية العامل الأمريكي في قضايا الشرق الأوسط بشكل عام وهذه القضية بشكل خاص سواء مع الإدارة السابقة، أو اللاحقة. 

ملف حقوق الإنسان

اتخذت السعودية عدة خطوات مهمة في هذا الملف تستهدف بالأساس تغيير هذه القناعات الغربية والأوروبية حول ملف حقوق الإنسان في السعودية، إذ أصدرت المحاكم السعودية مؤخراً أحكاماً مخففة عن بعض النشطاء، ومنهم لجين الهذلول التي من المتوقع الإفراج عنها خلال الشهر المقبل، كما أظهرت وثائق محكمة استئناف سعودية أن المحكمة خففت حكماً بالسجن ست سنوات على الطبيب الأمريكي من أصل سعودي وليد فتيحي إلى نصف المدة تقريباً وأوقفت تنفيذ بقيتها، ما يعني أن الطبيب لن يقضي مزيداً من الوقت في السجن. 

ملف الطاقة

يحاول الحرس القديم استعادة سياسة السعودية في ملف البترول بعد التدهور الذي شهده هذا القطاع في ظل سياسة محمد بن سلمان، ولعل إعلان السعودية في ديسمبر/كانون الأول 2020، تخفيض إنتاجها اليومي من النفط بمقدار مليون برميل بغرض الحفاظ على معدلات أسعار النفط الحالية، في ظل تراجع الطلب بفعل استمرار تداعيات جائحة كورونا، خطوة في طريق استعادة الإدارة المتوازنة لهذا الملف، حتى ولو كان ذلك يخدم بعض الأطراف الأخرى مثل إيران، وهي أيضاً من الملفات التي يبدو أن السعودية تراجعها أيضاً، ويدلل البعض على ذلك بموقف السعودية من وفاة العالم النووي الإيراني. 

ولكن محمد بن سلمان متمسك بهذا الملف وسبق له أن تعامل معه بتهاون شديد، وتوظيفه في أهدافه السياسية بدون النظر للعواقب ما أثر على أسعار النفط، وكانت أبرز دلالة على استهانة محمد بن سلمان بمقدرات السعودية المالية هو دخوله في حرب تخفيض أسعار البترول وزيادة الإنتاج مع روسيا على خلفية مشادة بينه وبين الرئيس الروسي بوتين في مارس/آذار 2020، وبشكل عام قد يكون ذلك محاولة منه للتغطية على قضية خاشقجي، إلا أن إدارته لهذا الملف أيضاً كشفت عن مزيد من السمات الشخصية الخطيرة لهذا الرجل.

خاتمة

يستهدف الحرس القديم السعودي الحفاظ على السعودية في المقام الأول وحفظ كيان الأسرة الحاكمة التي تعرضت لهزات جديدة منذ تولي الأمير محمد بن سلمان مقاليد الأمور بصورة فعلية مع تولي والده سدة الحكم في السعودية، وبات المناخ الدولي والإقليمي مواتياً لأن يتم استعادة السعودية بسياستها الهادئة، والتخلص من سيطرة الإمارات، خصوصاً الشيخ محمد بن زايد الذي يتبنى صعود الأمير محمد بن سلمان لسدة الحكم في السعودية. 

من ناحية أخرى فإن التناقض الذي عليه محمد بن سلمان ليس غريباً على الأسرة، فقد كان أحد أعمامه الراحلين يلقب بـ”النهاب الوهاب”، ومن ثم فليس غريباً أن يجمع محمد بن سلمان في شخصيته بين المصلح والمستبد في آن واحد، فهو لا يرى نفسه إلا ملكاً، وفي هذا الإطار لن يتردد في القيام بكل ما يلزم للوصول إلى هذا الهدف، كما أن القصص النادرة المروية عنه قبل بزوغ نجمه وتصرفه لاحقاً مع من بقي من أصحابها تبين إلى أي حد تسيطر عليه طباعه البدوية في عدم نسيان الإساءة، بالإضافة إلى القسوة الشديدة التي يتسم بها، فالأمير الشاب تلقى اللوم من الملك عبداالله ومن الأمير نايف ولاحقاً عاقب أبناءهم بقدر ما أمكن له من العقاب، كما أن واحداً من تفسيرات أزمته مع بوتين وحرب أسعار النفط بينهما بسبب بما تعرض له والده من إحراج خلال زيارته لروسيا، كما أن رد فعله غير المعقول ضد كندا لشعوره بأن كندا مسّت هيبته، وأبرز مثال على مدى قسوته هو إشرافه شخصياً على مقتل جمال خاشقجي. 

من ناحية ثالثة ما يجري في السعودية بمثابة سياسة عضّ الأصابع بين مراكز القوى السياسية من داخل الأسرة الحاكمة، ورغم قسوة ودلالة حادث جمال خاشقجي فإن محمد بن سلمان ما زال قوياً، ولعل اعتقال الأمراء الأقوياء في الأسرة في مارس/آذار 2020، وهم الأمير أحمد بن عبدالعزيز ونجله والأمير محمد بن نايف، يؤكد أن محمد بن سلمان ما زال يدخر للعالم مفاجأت لا يمكن استيعابها في حينها.

رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق