مركز الدراسات
ماذا ربح العالم من الحرب الروسية على أوكرانيا؟ … كلنا خاسرون … !
حرب عبثية لم يكن لها أن تندلع من الأساس. تصفها روسيا بأنها “عملية عسكرية خاصة”، ويصفها الغرب بأنها “غزو ليس له ما يبرره”. فماذا ربح العالم من حرب أوكرانيا بعد أشهر من اندلاعها؟
قالوا إنها حرب مقدسة لحماية الديمقراطية واحترام القانون، فهل هذه حقيقة الحرب في أوكرانيا؟ وهل هناك منتصرون في تلك الحرب؟ روسيا تحقق انتصارات على الأرض في الشرق، لكنها تدفع ثمناً باهظاً من الدم والمال وأشياء أخرى. أمريكا عادت للسيطرة على أوروبا، لكنها خسرت الكثير، وفي طريقها لخسارة أهم ما تملك.
وبين رغبة الولايات المتحدة في استعادة هيمنتها والهروب من مشاكلها الداخلية من جهة، ورغبة روسيا في تأمين حدودها وعمقها الاستراتيجي والتمرد على الهيمنة الأمريكية من جهة أخرى، وجد العالم نفسه رهينة لحرب لا تبدو لها نهاية وشيكة، كما لم تكن هناك مبررات فعلية لاندلاعها من الأساس، والنتيجة تضخم وأزمة غذاء وتفاقم كارثة المناخ وما خفي أعظم.
الحرب، التي اندلعت يوم 24 فبراير/شباط 2022 بعد نحو 3 أشهر من الترقب والتجهيز والاستعداد وإثارة “الفزع” ودق طبول الحرب، هي في الأساس انفجار لأزمة جيوسياسية بين الولايات المتحدة، التي رأت حسابات إدارتها برئاسة جو بايدن أن الوقت مناسب لتفجيرها، وبين روسيا، برئاسة فلاديمير بوتين، التي قررت أن الحلول الدبلوماسية قد انتهى أوانها وحان وقت الحرب.
أما أوكرانيا، بزعامة فولوديمير زيلينسكي، فقد دفعت ولا تزال تدفع ثمناً باهظاً من دماء جيشها وشعبها واقتصادها المدمر، ويحتاج لأكثر من قرن لإعادة الإعمار (بحسب تقدير المستشار الألماني أولاف شولتس)، وأصبحت ربع مساحتها تقريباً تحت السيطرة الروسية بشكل كامل، فماذا حققت كييف؟
في هذا التقرير نسلط الضوء على أهم الخسائر التي مُني بها العالم بسبب اندلاع هذه الحرب.
أمريكا..
طرف رئيسي
في اندلاع الحرب؟
الدور الأمريكي في حرب أوكرانيا هو الدور الرئيسي والأهم والمحرك الأول منذ اندلاع الأزمة قبل عقود، فأوكرانيا كانت واحدة من الدول المؤسسة للاتحاد السوفييتي، مع روسيا وروسيا البيضاء، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي وحصول أوكرانيا على الاستقلال، كان هناك اتفاق أو وعد قدمته واشنطن لموسكو يتعلق بحلف الناتو، مفاده أن الحلف العسكري الغربي لن يتوسع “بوصة واحدة” ناحية الشرق.
توسع الناتو شرقاً بمرور الوقت، وضم جمهوريات من أوروبا الشرقية كانت يوماً أعضاء في حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي، لكن روسيا في تلك الفترة كانت تعاني من انهيار شبه تام، وبالتالي لم تكن لديها القدرة على الاعتراض المؤثر على ذلك الزحف الغربي نحو حدودها. أوكرانيا تحديداً تعتبر جغرافياً وتاريخياً منقسمة إلى جزئين، غربي مركزه كييف العاصمة، وهو الجزء الأكثر قرباً وميلاً إلى أوروبا الغربية، وجزء شرقي أكثر قرباً وميلاً إلى روسيا.
ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، شهدت أوكرانيا صراعاً بين روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، تجسد في صورة حرب خاطفة عام 2014 سيطرت خلالها روسيا على شبه جزيرة القرم، وسيطر انفصاليون أوكرانيون على منطقتي لوغانسيك ودونيتسك في دونباس. فرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا وطردها من مجموعة الثمانية لتصبح مجموعة السبع، وتوسطت ألمانيا وفرنسا ليتم التوصل إلى اتفاقيات مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، التي أدت إلى وقف إطلاق النار في دونباس. بموجب تلك الاتفاقيات، كان الانفصاليون، المدعومون من روسيا والموالون لها، يسيطرون على ثلث مساحة إقليم دونباس، بينما يسيطر الجيش الأوكراني، المدعوم من الغرب، على ثلثي الإقليم.
ظلت الأمور على حالها في أوكرانيا منذ عام 2014 وحتى عام 2021 مع تولي بايدن المسؤولية في البيت الأبيض وإعلانه عن “عودة أمريكا لقيادة العالم”. انسحبت أمريكا من أفغانستان في أغسطس/آب 2021 في مشهد نال كثيراً من الهيبة الأمريكية حول العالم وتسبب في زعزعة ثقة الحلفاء في واشنطن، وهي الثقة التي كانت في أدنى درجاتها أصلاً بسبب سنوات رئاسة دونالد ترامب واتباعه سياسة انعزالية نالت كثيراً من مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى تهيمن على المسرح السياسي الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما نتج عنها من رفض ترامب الاعتراف بنتائجها والتشكيك في نزاهتها، وهي المشاهد التي توَّجها اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، لتشوه صورة القوة العظمى بصورة غير مسبوقة، ويبدأ الحديث عن أفول عصر الهيمنة الأمريكية، خصوصاً أن الانقسام الداخلي في البلاد أوشك على الوصول إلى شفا الحرب الأهلية.
لا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق إلى الحرب الأوكرانية دون هذه النظرة السريعة على الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة لعدد من الأسباب، أولها أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يريد الضمانات القانونية الملزمة بشأن عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو من إدارة بايدن تحديداً، على أساس أن القرار في الناتو قرار أمريكي، من وجهة النظر الروسية.
لكن بدلاً من سعي بايدن إلى تفادي تحول الأزمة الجيوسياسية في أوكرانيا إلى حرب، وصفها الرئيس الأمريكي بأنها الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، تجاهل ساكن البيت الأبيض مشاكل بلاده الداخلية من انقسام خطير بين الجمهوريين والديمقراطيين، ونسب تضخم لم تشهدها البلاد منذ 4 عقود على الأقل، وغيرها من الأزمات الخانقة التي تتطلب تعاوناً دولياً وتهدئة للصراعات، وحول كل تركيزه إلى الأزمة الأوكرانية، التي أصبحت الشغل الشاغل لإدارة بايدن.
وأصبحت المؤتمرات الصحفية اليومية للبيت الأبيض منصبة بشكل رئيسي على أزمة أوكرانيا وتسريب المعلومات الاستخباراتية بشأن الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، لدرجة أن الرئيس الأوكراني نفسه ضاق ذرعاً بحديث الحرب وانفعل قائلاً: إن “أوكرانيا ليست تايتانيك!”، بعد قرار إدارة بايدن سحب الدبلوماسيين الأمريكيين من كييف، في إشارة إلى أن الحرب باتت وشيكة!
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن بايدن حقق ما كان يسعى إليه، ودفع بوتين إلى “غزو” أوكرانيا، فهل استفادت أمريكا من الحرب؟
ماذا ربحت أمريكا
من حرب أوكرانيا؟
أعادت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من جنودها إلى أوروبا، وأصبحت واشنطن المتحكم الأول في القرارات الأمنية والعسكرية في القارة العجوز، وتلاشت الدعوات لتشكيل جناح عسكري للاتحاد الأوروبي. هذه حقيقة ثابتة الآن ويمكن أن يراها المسؤولون في إدارة بايدن انتصاراً جيوسياسياً لهم. عادت صناعة السلاح الأمريكية للعمل بطاقتها القصوى، وحققت تلك المبيعات أرباحاً ضخمة خلال النصف الأول من العام الجاري، وهذه أيضاً حقيقة أخرى يمكن أن توضع في خانة المكاسب الأمريكية.
لهذه الأسباب سعت الولايات المتحدة إلى إحباط الجهود الدبلوماسية بقيادة فرنسا وألمانيا لإيجاد مخرج لإنهاء الحرب، وهدف واشنطن هو إطالة أمد الحرب قدر المستطاع بغرض استنزاف روسيا وإضعافها للأبد، بحسب تحليل نشره موقعThe Levant News للكاتب جوان دابو.
لكن على الجانب الآخر، هناك خسائر ضخمة اقتصادية وسياسية من الصعب تجاهلها بالنسبة للأمريكيين عموماً ولإدارة بايدن بصفة خاصة، وهذا هو السبب الرئيسي على الأرجح وراء التغيير في الموقف الأمريكي خلال الأسابيع القليلة الماضية، خصوصاً في ظلالانتصارات العسكرية الروسية في إقليم دونباس واقتراب الأمور من نهايتها بسيطرة موسكو على الإقليم بصورة كاملة.
إذ على الرغم من المساعدات العسكرية الضخمة التي يقدمها الغرب لأوكرانيا، فإن روسيا تمكنت من تحقيق انتصارات صريحة، واقتربت بشدة من تحقيق أهداف الرئيس فلاديمير بوتين، والمؤشرات على سيناريو اقتراب الاعتراف الغربي بالهزيمة ليست صادرة عن موسكو، بل تأتي من واشنطن، حيث يشكك مسؤولو إدارة جو بايدن “سراً” في قدرة كييف على استعادة السيطرة على أراضيها التي سيطرت عليها موسكو خلال الشهور الأربعة الماضية من الحرب، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ولأن الاقتصاد هو الأساس والمحرك الأول للقرارات السياسية، كان التضخموارتفاع أسعار مشتقات النفط والغاز ومعها ارتفاع أسعار جميع السلع بصورة غير مسبوقة تهدد بدورة ممتدة من الركود التضخمي هو أبرز خسائر الولايات المتحدة جراء الحرب في أوكرانيا.
ونتيجة لذلك، قرر مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي (البنك المركزي) الأمريكي، الأربعاء 15 يونيو/حزيران، رفعسعر الفائدة الرئيسي بمقدار 75 نقطة أساس لوقف القفزة الكبيرة في التضخم، وهذه الزيادة في الفائدة هي الأكبر التي يقررها البنك المركزي الأمريكي منذ عام 1994. وكانت تلك المرة الثالثة التي يرفع فيها المركزي الأمريكي سعر الفائدة، بعد مارس/آذار ومايو/أيار الماضيين، عندما رفعها بنسبة 50 نقطة أساس، وتترجم تلك النقاط كنسبة مئوية إلى 1% مقابل كل 100 نقطة أساس، وهو ما يعني أن البنك المركزي الأمريكي رفع سعر الفائدة بنسبة 0.75%، وهو أعلى معدل لرفع سعر الفائدة منذ عام 1981.
وبحسب جيروم باول رئيس البنك المركزي الأمريكي، ستكون هناك زيادات أخرى في سعر الفائدة تستمر حتى نهاية العام المقبل، ما يعني أن الأزمة الاقتصادية ممتدة ولا توجد لها حلول على المدى المنظور. وعلى الرغم من سعي إدارة بايدن إلى استخدام ما تبقى لديها من نفوذ لدى كبار منتجي النفط، وخصوصاً السعودية والإمارات، لزيادة الإنتاج وتعويض النقص بسبب حظر النفط الروسي، إلا أن تلك الجهود لم تحقق الهدف، وظلت أسعار النفط في متوسط 120 دولاراً للبرميل، مع توقعات بأن ذلك المتوسط للأسعار سيستمر لسنوات، على أقل تقدير.
وقبل حتى أن تقع الواقعة وتنطلق الدبابات الروسية عبر الحدود الأوكرانية، كانارتفاع أسعار النفط يشكل تهديداً مباشراً لإدارة بايدن هذا العام تحديداً قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتي يسعى فيها المشرعون من حزب بايدن الديمقراطي للدفاع عن أغلبيتهم البسيطة في مجلسي الشيوخ والنواب. وحتى تكون الصورة كاملة، من المهم أن نذكر أن أسعار الطاقة، النفط والغاز الطبيعي، ترتبط ارتباطاً عضوياً ومباشراً بالتضخم، فكلما ارتفعت تلك الأسعار ترتفع معها أسعار جميع السلع وبالتالي يزداد التضخم. وشهدت أسعار النفط خلال العام الماضي 2021، ارتفاعاً بنسبة تخطت 20% بالفعل.
هذا من ناحية الاقتصاد، أما من الناحية الجيوسياسية، فالولايات المتحدة لا تعتبر روسيا منافسها الأول على المسرح الدولي، بل تمثل الصين الهم الأول لواشنطن في هذا المجال. ويسعى بايدن إلى تحشيد المعسكر الغربي والدولي ضد بكين، لكن المهمة، التي كانت صعبة بالأساس، باتت أكثر صعوبة بفعل تداعيات الحرب في أوكرانيا. فمن ناحية، تسببت العقوبات الغربية على روسيا في تنبيه الصين إلى كيفية الاستعداد أكثر لمثل تلك العقوبات التي قد تتعرض لها، ومن ناحية أخرى وجدت واشنطن مقاومة عنيفة من جانب دول كانت تعتبر حليفة للولايات المتحدة، مثل الهند، التي ضاعفت وارداتها من النفط الروسي، والبرازيل التي رفضت الالتزام بتلك العقوبات.
ومن ناحية أخرى، فإن حجم الاقتصاد الصيني، الذي أوشك على إزاحة نظيره الأمريكي من الصدارة العالمية إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل، يجعل من مهمة “احتواء” الصين وإقناع أغلب دول العالم بتخفيض أو وقف التعامل معها مهمة مستحيلة بالكلية، بحسب الخبراء. وفي هذا السياق، قامت إدارة بايدن مؤخراً برفع أو تخفيض بعض من الرسوم على البضائع الصينية التي كانت إدارة دونالد ترامب قد فرضتها على بكين، والهدف بالطبع محاولة التخفيف من وطأة التضخم وارتفاع الأسعار بالنسبة للمواطنين الأمريكيين، إذ لا يبدو أن هناك مفراً من استيراد البضائع الصينية من جهة وتوريد البضائع الأمريكية للسوق الصيني الضخم من جهة أخرى.
روسيا..
خسائر بشرية ومادية أيضاً
روسيا طرف أصيل في الحرب، وإذا ما كانت الخاسر الأكبر أو على الأقل ثاني الخاسرين بعد أوكرانيا فإن ذلك يعتبر أمراً منطقياً، لكن المؤشرات الاقتصادية لا تؤكد هذا المنطق، بل ربما تناقضه. لكن في نهاية المطاف روسيا خسرت الكثير بسبب الحرب في أوكرانيا.
فقدت روسيا عشرات الآلاف من قواتها بين قتيل وجريح وأسير، على الرغم من أن الوصول إلى الأعداد بدقة قد لا يكون أمراً سهلاً، في ظل التعتيم الإعلامي الغربي على موسكو من جهة، ومبالغة كل طرف في تقديره لخسائر الطرف الآخر، كجزء من الحرب النفسية، من جهة أخرى.
كما خسرت روسيا أيضاً كثيراً من المعدات العسكرية، كالدبابات والطائرات والمدرعات، وحتى السفن الحربية، وكان أبرزها الطراد موسكفا، وهو السفينة الحربية الأضخم في الأسطول الروسي في البحر الأسود. واضطرت موسكو إلى الدفع بمخزونها من الدبابات T-62، وهي دبابة يبلغ عمرها أكثر من 60 عاماً وترجع إلى الحقبة السوفييتية، في محاولة للتقليل من خسائرها من الدبابات الأحدث في ترسانتها.
وتعتبر الصواريخ والقذائف المضادة للدبابات والدروع من أكثر أنواع الأسلحة التي يرسلها الغرب لأوكرانيا، سواء صواريخ غافلين أو ستينغر وغيرها من تلك الأسلحة الخفيفة القادرة على إيقاع أضرار هائلة بسلاح المدرعات الروسي، وهو يمثل حجر الزاوية في الجيش الروسي.
من الناحية الاقتصادية، أدت العقوبات الغربية الكاسحة إلى فقدان روسيا إمكانية الوصول إلى أكثر من نصف احتياطاتها من العملات الأجنبية بسبب تجميدها، كما تم حرمان البنوك الروسية من العمل عبر نظام سويفت المالي العالمي، إضافة إلى تجميد أصول كثير من رجال الأعمال الروس، أو من يصفهم بالأوليغاركيين المقربين من بوتين. كما انسحبت أغلب الشركات العالمية، وخصوصاً الغربية، من روسيا، خوفاً من تلك العقوبات.
ومع بداية الحرب في أوكرانيا تعرضت العملة الروسية (الروبل) لانخفاض حاد مقابل الدولار، لتصبح في حدود 150 روبلاً لكل دولار بعد أن كانت في حدود 72 فقط قبل الحرب. لكن سرعان ما استعاد الروبل عافيته وصعد إلى مستويات قياسية لم يحققها منذ أكثر من 7 سنوات، ليصبح متداولاً عند حدود 52 روبلاً للدولار، وذلك بعد الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي الروسي، سواء من حيث إجبار مستوردي النفط والغاز من الدول “غير الصديقة”، أي دول الاتحاد الأوروبي، وهي السوق الرئيسية للطاقة الروسية، بالدفع بالعملة المحلية الروسية، أو من خلال منع الشركات الأجنبية من عمل أي تحويل للأموال من داخل روسيا بالعملات الأجنبية.
نجحت تلك الإجراءات بالفعل في الحفاظ على قيمة العملة المحلية، إضافة بالطبع إلى إجراءات أخرى كانت روسيا قد شرعت في تنفيذها منذ فرض العقوبات عليها عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم، لكن تظل مدى قدرة الاقتصاد الروسي على التماسك مرهونة بالعديد من العوامل، ولا شك أن طول أمد الحرب لا يصب في صالح موسكو واقتصادها بشكل عام.
وعلى الجانب الآخر، خسرت روسيا كثيراً من حصتها في تجارة السلاح الدولية، ليس فقط بسبب العقوبات ولكن أيضاً بسبب حاجة الجيش الروسي نفسه لتعويض ما فقده من عتاد عسكري على الأراضي الأوكرانية، ولا شك أن تأثر صناعة السلاح الروسية سيستمر لسنوات طويلة حتى بعد أن تنتهي الحرب.
أوكرانيا..
هل هي أكبر الخاسرين؟
الإجابة الأقرب للدقة هي نعم بطبيعة الحال، فخسائر كييف البشرية قدرها وزير الدفاع الأوكراني مؤخرا بأنها نحو 1000 عسكري يومياً، وإن كانت هذه التقديرات من طرف واحد ومن الصعب الحكم على مدى دقتها، خصوصاً أنها تأتي في سياق الضغط على الغرب لتقديم مزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية للبلاد.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى انتخابه عام 2019 ممثلاً محترفاً، تحول إلى رمز لما يصفه بكفاح أوكرانيا من أجل “الديمقراطية وضد الديكتاتورية”، لكن الثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه الأوكرانيون يرسم صورة قاتمة في نهاية المطاف بطبيعة الحال.
الجنرالمارك ميلي، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، قال مؤخراً إن أوكرانيا تفقد يومياً نحو 400 من قواتها بين قتيل وجريح، وهو رقم أقل كثيراً مما ذكره وزير الدفاع الأوكراني، لكن تظل الخسارة فادحة على أية حال. أما فيما يتعلق بالمدنيين، فقد نزح أكثر من نصف عدد سكان أوكرانيا، البالغ قبل الحرب 44 مليون نسمة، تحول منهم نحو 7 ملايين إلى لاجئين والبقية نازحون داخلياً.
من ناحية الأرض، فقدت أوكرانيا حتى الآن سيطرتها على معظم أقاليمها الشرقية والجنوبية، وتتحدث السيناريوهات الغربية الآن عما يوصف بأنه “سلام سيئ” ستضطر كييف للقبول به في نهاية المطاف. والمقصود هنا هو تخلي أوكرانيا عن إقليم دونباس ليصبح مصيره مصير القرم نفسه، ومعه أيضاً مدن خيرسون وميكولايف وربما ماريوبول أيضاً وباقي مدن الشرق والجنوب.
أما من ناحية الخسائر الاقتصادية لأوكرانيا، فقد ذكر تقرير للبنك الدولي، صادر في أبريل/نيسان الماضي، أن الاقتصاد الأوكراني قد ينكمش بنسبة 45% بنهاية العام الجاري فقط. وتعتمد أوكرانيا بالأساس على صادراتها من القمح والحبوب الأخرى، بالإضافة إلى المعادن والمنتجات الأخرى، وقد توقفت تلك الصادرات بصورة شبه كاملة منذ بداية الحرب في ظل سيطرة روسيا على السواحل والطرق والأجواء الأوكرانية.
هذه صورة عامة عن خسائر أوكرانيا من الحرب، لكنها لا تعكس الصورة الكاملة بتفاصيلها المفزعة، فالمدن الأوكرانية الكبرى تعرضت وتتعرض لدمار هائل، وكذلك البنية التحتية والمزارع باتت حقولاً للألغام والقذائف غير المتفجرة، والمصانع تعرضت لدمار شبه كامل، وستحتاج إعادة الإعمار أموالاً طائلة وسنوات ممتدة، وكل هذا مرتبط بالأوضاع عندما تضع الحرب أوزارها، فهل ستظل واشنطن وحلفاؤها يولون أوكرانيا بعد الحرب الأهمية نفسها التي تتمتع بها الآن؟
ماذا عن المستفيدين
من حرب أوكرانيا؟
إذا كانت الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا، الأطراف المباشرة في الحرب، تعرضت وتتعرض لتلك الخسائر، فماذا عن بقية العالم إذاً؟ لا شك أن هناك دولاً استفادت من الارتفاعات القياسية في أسعار النفط والغاز، وعلى رأسها دول الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات وقطر والكويت وغيرها. لكن الصورة ليست وردية تماماً حتى بالنسبة لتلك الدول نفسها.
فأسعار الحبوب والسلع الغذائية وباقي السلع بشكل عام ارتفعت بصورة قياسية، كما انخفض المعروض من تلك السلع وبخاصة الحبوب والزيوت، التي تصدر منها روسيا وأوكرانيا نحو ثلث صادرات العالم أجمع، وهو ما يمثل أزمة للدول الخليجية، التي تستورد أغلب احتياجات مواطنيها من تلك السلع.
كما أنه من الناحية السياسية تواجه دول الخليج، شأنها شأن أغلب دول العالم، مأزقاً يتمثل في سعي الإدارة الأمريكية إلى استقطاب تلك الدول في صفها في مواجهة روسيا والصين، علماً بأن تلك الدول تتمتع بعلاقات تجارية واقتصادية وسياسية أيضاً مع موسكو وبكين لن يكون سهلاً التخلص منها والانضمام للمعسكر الغربي. وفي السياق ذاته، تسببت الحرب الأوكرانية في مشهد ضبابي بامتياز وحالة من السيولة حول العالم عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً أربكت المشهد المرتبك بالأساس.
لكن لا شك أن تحويل الاهتمام الأمريكي بشكل شبه كامل إلى الأزمة الأوكرانية قد تسبب في “تجميد” المفاوضات النووية مع إيران، وهو ما يمثل خطراً بالنسبة للوضع الإقليمي في المنطقة، خصوصاً أن إسرائيل تسعى منفردة إلى التصعيد مع إيران لمنعها من الحصول على سلاح نووي، بحسب رواية تل أبيب رغم نفي طهران، وهذا الوضع في مجمله يمثل تهديداً لدول الخليج بسبب أذرع إيران في بعض دول المنطقة كلبنان واليمن والعراق وسوريا، وما تمثله تلك الأذرع من تهديد أمني مباشر على بعض تلك الدول كالسعودية والإمارات. كلمة السر هنا هي أنه لا يبدو أن هناك طرفاً في الشرق الأوسط يستفيد بشكل كامل من الحرب الأوكرانية، ولا حتى كبار منتجي النفط والغاز.
ماذا ربح العالم
من الحرب في أوكرانيا؟
يقولكينيث روغوف، الخبير الاقتصادي الأمريكي، في دراسة له بشأن تداعيات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي، إن العالم بحاجة إلى معجزة حقيقية لتفادي “حالة كساد اقتصادي بنهاية العام الجاري (2022)، في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية حالياً. لكن حالياً توجد مؤشرات قوية ومتزايدة على أن حالة من الكساد ستصيب أوروبا والولايات المتحدة والصين بصورة متزامنة، وهو ما يعني عاصفة متكاملة الأركان تصيب الاقتصاد كله. هذه المؤشرات للأسف تتزايد كل يوم”.
“الحرب في أوكرانيا أصابت تعافي الاقتصاد العالمي بنكسة ضخمة”، كان هذا هو عنوان تقييم أصدره، خلال أبريل/نيسان الماضي،صندوق النقد الدولي بشأن تأثير الحرب على الاقتصاد العالمي، واستشهد به جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في تقييمه لتداعيات الحرب على أوروبا والعالم خلال قمة السبع في ألمانيا أواخر يونيو/حزيران الماضي.
وحتى تكون الصورة واضحة، فإن الاقتصاد العالمي كان قد بدأ العام الماضي (2021) رحلة التعافي من الركود الذي تسببت فيه جائحة كورونا منذ مطلع عام 2020، وما تسببت فيه من إغلاق كامل للأنشطة الاقتصادية حول العالم، وبالتالي بدأ الطلب على النفط والغاز يزداد، وبدأت المصانع في الدوران تدريجياً، وعادت سلاسل التوريد والإمداد العالمية لتلمس طريقها نحو العمل رغم التقطعات والاختناقات. وبدأت تظهر توقعات اقتصادية إيجابية بشأن عودة معدلات النمو للون الأخضر تدريجياً (اللون الأخضر أي الصعود والأحمر يشير للانخفاض والتراجع).
لكن اندلاع الحرب في أوكرانيا جاء بمثابة المطرقة الغليظة التي انهمرت دون رحمة على مؤشر النمو الاقتصادي، محطمة إياه ومحدثة زلزالاً هائلاً، لم تترك تبعاته ركناً من أركان الكرة الأرضية إلا ووصلت إليه.
ولأن الحرب في أوكرانيا هي حرب أوروبية، فإن التداعيات السلبية الرئيسية لها انصبت على دول القارة العجوز أولاً، فهناك أزمة ملايين اللاجئين المتدفقين من أوكرانيا، وهناك أزمة الغاز والنفط من روسيا، وعليها تعتمد اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي بصورة شبه كاملة، ناهيك بطبيعة الحال عن الزلزال الأمني في القارة وعودة شبح الحرب بقوة؛ ففي أوروبا اندلعت الحرب العالمية الأولى والثانية، وكلاهما لم يدمر القارة العجوز فقط، بل دمر العالم أجمع بدرجات متفاوتة.
لكن إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة، أقوى 3 اقتصادات في العالم، تعاني بتلك الصورة، فإن تأثير الحرب على الاقتصادات الناشئة والنامية كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، بحسب توصيفجوزيب بوريل نفسه.
فعلى سبيل المثال، يستورد العرب نحو نصف احتياجاتهم من القمح من روسيا وأوكرانيا، وكانت أسعار القمح قد قفزت، خلال أقل من 4 أشهر، من 260 إلى أكثر من 480 دولاراً للطن الواحد، وهو ما أدى بالتبعية إلى ارتفاع أسعار الكثير من الأغذية. ورغم أن أسعار الغذاء المرتفعة تمثل أزمة عالمية، فإن التأثير في بعضالدول العربية يصل حد الكارثة، ويهدد شعوبها بالجوع، بحسب تقارير أممية.
كما كان تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي، أوائل مايو/أيار الماضي، قد دق ناقوس الخطر، حيث أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مقدمته، إلى أن العالم يواجه “أزمة جوع على نطاق غير مسبوق، وارتفاعاً في الأسعار لم يُشهد له مثيل من قبل”.
ورصد تقييم صادر مؤخراً عن برنامج الأغذية والفاو 6 دول حول العالم تعاني بالفعل من فقدان “خطير” للأمن الغذائي، منها دول عربية هي اليمن والصومال وجنوب السودان، إضافة إلى أفغانستان وإثيوبيا ونيجيريا، حيث يوجد أكثر من 750 ألف مواطن في تلك الدول يواجهون “خطر الموت جوعاً بصورة فورية” ما لم يتم إنقاذهم.
كما رصد التقرير دولاً أخرى تواجه “درجة خطر مرتفعة فيما يخص أمنها الغذائي”، ومنها سوريا والسودان، إضافة إلى هايتي والكونغو ومنطقة الساحل الإفريقي وكينيا، التي انضمت للقائمة للمرة الأولى.
ولا يمكن تجاهل كارثة التغير المناخي، التي بدا العالم وكأنه انتبه لأضرارها المحدقة أخيراً، وانعكس ذلك في الاهتمام بمؤتمر المناخ العالمي في غلاسكو في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؛ إذ جاءت حرب أوكرانيا لتحتل صدارة الأجندة الدولية على حساب تلك القضية الوجودية بالنسبة للكوكب، رغم أن التداعيات الكارثية للاحتباس الحراري تتواصل بصورة متسارعة ولا تتوقف. وفي ظل أزمة واردات الطاقة الروسية، أقدمت دول أوروبية كألمانيا على إعادة تشغيل محطات توليد الكهرباء بالفحم، بعد أن كانت قد توقفت عن تشغيلها منذ عقود في إطار الحفاظ على مستوى منخفض من الانبعاثات الكربونية والتقليل من التلوث والاحتباس الحراري.
وعلى هذا المنوال، يواجه ملايين الناس في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا خطر الموت جوعاً، دون أن تلوح في الأفق بوادر تغيير في ديناميات التفكير التي أدت إلى اشتعال الحرب في أوكرانيا، بل إن واشنطن تسعى الآن إلى التحشيد في مواجهة بكين، قبل حتى أن تضع الحرب في أوروبا أوزارها.
المصدر: وكالات