المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
أدى قرار مجموعة أوبك بلس في الخامس من أكتوبر 2022، بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا اعتبارًا من شهر نوفمبر 2022، إلى تصعيد التوترات في العلاقات الأمريكية السعودية، حيث تعهدت الإدارة الأمريكية بالرد “بشكل منهجي” على ما تعتبره اصطفافًا سعوديًا إلى جانب موسكو، في حين خرجت دعوات من الحزبين في الكونجرس الأمريكي لوقف المساعدة الأمنية للسعودية، فيما تؤكد المملكة العربية السعودية أن قرار مجموعة أوبك بلس قد أخِذ وفقًا لاعتبارات المصلحة الاقتصادية الوطنية.
و يعد التوتر الأمريكي السعودي الأخير أحدث حلقة في محطات التوتر السعودي الأمريكي، والذي اتخذ شكلًا أكثر وضوحًا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر الذي يستوجب معه بحث مسار تطور العلاقات الأمريكية السعودية، وصولًا إلى اللحظة التي بدأت معها التوترات في الظهور بشكل علني، وكذا بحث مسار هذه العلاقات واحتمالات استمرار هذا التوتر.
العلاقات السعودية – الأمريكية بين الصعود والهبوط
يعود تاريخ التحالف الأمريكي السعودي إلى عام 1943، عندما زار الملكان فيصل بن عبد العزيز وخالد بن عبد العزيز بزيارة البيت الأبيض بدعوة من الرئيس فرانكلين روزفلت حيث اتفقوا على ضمان الولايات المتحدة أمن المملكة ضد أي مخاطر داخلية أو خارجية مقابل التزامها بتأمين النفط الرخيص للولايات المتحدة واستمرار التفضيل السعودي لوصول شركات النفط الأمريكية إلى المملكة (الصيغة النفط مقابل الأمن)، وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على الصيغة عام 1945 عندما التقى الملك عبد العزيز آل سعود وروزفلت وجهًا لوجه على متن السفينة يو إس إس كوينسي في قناة السويس.
وتطورت العلاقات الثنائية إلى تحالف أمني أوسع في 17 يناير 1951 عندما وقعوا أول اتفاقية دفاعية رسمية عُرفت باسم “اتفاقية المساعدة الدفاعية المتبادلة”، وقد نصت هذه الاتفاقية على بيع أسلحة أمريكية للسعودية وتدريب أمريكي للجيش السعودي، وخلال الحرب الباردة، عملت المملكة كداعم رئيسي للحفاظ على التدفق الحر للنفط وإبقاء النفوذ السوفيتي خارج المنطقة.
لكن العلاقات الثنائية شهدت مرحلة من الهبوط عام 1973 نتيجة الحظر النفطي الذي فرضته المملكة على الولايات المتحدة برئاسة ريتشارد نيكسون لدعمه إسرائيل في حرب أكتوبر، ومع ذلك تمت معاودة التعاون السعودي الأمريكي في أعقاب عملية السلام، شهدت الثمانينيات والتسعينيات تعاونًا غير مسبوق بين البلدين لمحاربة السوفييت في أفغانستان وخلال حرب تحرير الكويت.
لكن بدأت الأمور تتدهور مجددًا عام 2000 عندما فشل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في تحقيق سلام سوري إسرائيلي في مؤتمر شيبردستاون للسلام وسلام فلسطيني – إسرائيلي في كامب ديفيد، ثم شعر ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله أن كلينتون فشل في الضغط على إسرائيل بقوة كافية لتقديم تنازلات إقليمية، واعتقد حينها أن الصفقة السورية الإسرائيلية كانت ممكنة بشكل كبير عام 2000 وكانت ستخرج دمشق من المحور الإيراني وتعزل حزب الله وتمهد الطريق أمام صفقة فلسطينية إسرائيلية مماثلة.
كما أصيب الأمير عبد الله بخيبة أمل شديدة عندما انحاز الرئيس جورج دبليو بوش إلى أرييل شارون أثناء الانتفاضة الثانية عام 2001، ورفض الأمير لقاء بوش أو زيارة واشنطن رغم مناشدة الأب والأبن بوش. ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر 2001 ليفاقم التوترات في العلاقات الثنائية بين البلدين بعدما تبين وجود 15 شخصًا يحمل الجنسية السعودية بين المنفذين الـ 19، لتأتي حرب العراق وانتهاء سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق متسببة في تراجع الثقة المتبادلة بين واشنطن والرياض.
وخلال حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما خيم التوتر على العلاقات السعودية الأمريكية، ورغم أن جذور حذر السعوديين من أوباما تعود إلى تعليقاته عندما كان سيناتور بمجلس الشيوخ عام 2002، عندما وصف خلال تصريحاته النظام الملكي في الرياض بالحليف المزعوم، إلا أن الاستجابة الأمريكية للمتغيرات الإقليمية والدولية عززت المخاوف وحالة فقدان الثقة السعودية في الإدارة الديمقراطية لاسيمَّا بسبب دعمها لمخرجات الربيع العربي التي أطاحت ببعض الأنظمة المستقرة ما نظرت إليه المملكة بريبة واعتبره رسالة بتخلي واشنطن عن تقديم الدعم السياسي لحلفائها الإقليميين، بل اعتبرت إدارة أوباما جماعة الإخوان المسلمين جماعة معتدلة يمكن دمجها في العملية السياسية ورفعت الحظر الرسمي عن الاتصال بين دبلوماسييها والجماعة، كما كان تعاطف الإدارة الأمريكية مع التحركات في البحرين عام 2011 عاملًا آخر لتوتر العلاقات، كذلك تراجع أوباما عن خطه الأحمر الذي حدده ضد الرئيس السوري بشار الأسد بعدما قرر عدم توجيه ضربة عسكرية له على خلفية الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية عام 2013 مكتفيًا بالتنسيق مع روسيا بشأن تفكيك الأسلحة الكيماوية السورية.
إضافة إلى استراتيجية أوباما للتركيز على آسيا التي اعتبرتها الرياض تخليًا أمريكيًا عن التزاماتها الأمنية تجاه الشرق الأوسط، فضلًا عن تركيز جهوده الإقليمية على التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، لم يتم تضمين الرياض في مفاوضاته الأولية التي عُقدت سرًا في سلطنة عُمان عام 2013، والذي مكن طهران من تحسين وضعها الدولي وبيئتها الاقتصادية المحلية، وإنهاء عقود من العزلة الإيرانية وتوسيع نطاق نفوذها الإقليمي تدريجيًا من خلال الإجراءات المشتركة مع روسيا في الحربين الأهليتين السورية واليمنية، بشكل مثَّل تجاهلًا لمخاوف السعودية التي اعتبرت الصفقة النووية تهديدًا قويًا، بينما لم تحقق التوازن المنشود في شرق أوسط تتقاسمه إيران ودول مجلس التعاون الخليجي وتتشارك فيه بحسب رؤية أوباما.
ويضاف إلى عوامل التوتر إقرار الكونجرس قانون جاستا الذي يسمح لعائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 بمقاضاة الحكومات الأخرى، بما في ذلك الحكومة السعودية، للحصول على تعويضات، ومعارضة الكونجرس لصفقات أسلحة بحجة الخشية من استخدامها في الحرب اليمنية.
ورغم ذلك ظل الملف اليمني عامل توافق بين الدولتين، فقد كان لدى المملكة وإدارة أوباما رؤية مشتركة لليمن، حيث دعما حكومة عبد ربه منصور هادي، وعقب الانقلاب الحوثي عام 2014، دعمت إدارة أوباما المملكة في عملية عاصفة الحزم التي انطلقت مارس 2015 لمواجهة الحوثيين، ليس فقط لمساعدة وحماية الرياض كحليف ولكن أيضًا لحماية مصالحها في المنطقة والتعامل مع تهديد تنظيم القاعدة في اليمن؛ إذ قدمت إدارة أوباما الدعم الاستخباراتي واللوجستي للحملة الجوية التي قادتها الرياض، وأرسلت بعثة استشارية أمريكية إلى مقر العمليات السعودية وباعت أسلحة وذخائر إلى المملكة، كما أعلنت عن صفقات أسلحة جديدة للمملكة خلال عامي 2015 و2016 لتجديد مخزونها.
وقد يُنظر إلى الدعم الأمريكي للسعودية في اليمن باعتباره محاولة لتحسين العلاقات مع الرياض بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران.
وكان لهذه المتغيرات أن أدخلت العلاقات السعودية الأمريكية مرحلة من التراجع والشكوك تجلت أبرز مظاهرها في الاستقبال الفاتر لأوباما خلال زيارته للمملكة في أبريل 2016 لعقد قمة مع قادة مجلس التعاون الخليجي حيث استقبله أمير الرياض ووزير الخارجية السابق عادل الجبير بعكس القادة الخليجيين الأخريين الذين استقبلهم الملك سلمان بشخصه، وقد أظهر اجتماع أوباما وبن سلمان على هامش القمة حجم الاختلافات بين الرؤية الأمريكية والسعودية لتحقيق الأهداف الأمنية المشتركة، فبينما شدد العاهل السعودي على استخدام القوة للتعامل مع التهديدات، شدد الرئيس أوباما على ضرورة تضمين الدبلوماسية أيضًا.
ومع ذلك، ونظرًا لإدراك الإدارة الأمريكية حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على تحالفاتها مع الدول المستقرة في الشرق الأوسط ومتابعة مصالحها الأمنية المشتركة مع المملكة بما في ذلك الحرب ضد الجماعات الإرهابية، فقد حاولت تهدئة المخاوف السعودية، لاسيمَّا بشأن الاتفاق النووي الإيراني، عبر الدفع بتوقيع صفقات عسكرية جديدة وأخرى أمنية، حيث زادت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الرياض خلال إدارة أوباما بحيث أصبحت أول دولة في الشرق الأوسط تشتري أسلحة أمريكية تقدر بأكثر من 115 مليار دولار من خلال 42 صفقة منفصلة بين الفترة من 2009 إلى 2016، إضافة إلى أربع صفقات في أكتوبر 2010 بأكثر من 60 مليار دولار وهي الصفقة التي تجاوزت أي صفقات أبرمتها أي إدارة أمريكية منذ إقامة العلاقات بين البلدين وكانت أكبر قيمة لمبيعات الأسلحة لدولة واحدة في تاريخ الولايات المتحدة.
كذلك حافظت المملكة على مكانتها كواحدة من أكبر موردي النفط للولايات المتحدة، فقد حلت كثاني أكبر مصدر للنفط الخام للولايات المتحدة بعد كندا في أعوام 2015 و2016 و2017 و2018، وأيضًا كانت الرياض واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لواشنطن في الشرق الأوسط، فقد بلغ حجم الصادرات السعودية إلى الولايات المتحدة عام 2016 حوالي 16.9 مليار دولار وبلغ حجم الصادرات الأمريكية إلى المملكة حوالي 18 مليار دولار.
وقد ساعد وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة في تخفيف بعض مخاوف السعودية التي نشأت عن سياسات الرئيس أوباما في الشرق الأوسط، وباتت المملكة أكثر اعتمادًا على واشنطن مما كانت عليه عندما كان أوباما في منصبه، حيث اتخذت ترامب خطوات لتحسين العلاقات الأمريكية السعودية كما أقام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان علاقة وثيقة مع صهر ترامب جاريد كوشنر.
وقد جعل ترامب الرياض أحد المرتكزات الأساسية لاستراتيجيته تجاه الشرق الأوسط واعتبرها شريك استراتيجي مهم للولايات المتحدة في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والأمن الاقتصادي العالمي، وهو ما تجلى في كونها الوجهة الأولى لجولاته الخارجية عقب 4 أشهر فقط من توليه منصبه، وقد كانت زيارة مثمرة شهدت ثلاثة اجتماعات؛ قمة أمريكية سعودية، وقمة أمريكية وخليجية برئاسة السعودية، والقمة العربية الإسلامية الأمريكية بحضور أكثر من 50 رئيس دولة عربية إسلامية التي أتاحت فرصة لترامب لمخاطبة زعماء العالم الإسلامي والتي اعتبرها البعض مواجهة لخطاب أوباما الشهير في القاهرة عام 2009 عندما شدد على التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، كما شهدت الزيارة توقيع عقد أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار مع حزمة متابعة بقيمة 350 مليار دولار في العقد المقبل.
وقد نظر ترامب للعلاقات الأمريكية السعودية بمنطق رجل الأعمال البراجماتي وليس الرئيس السياسي المؤدلج بحيث لم تحتل موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان مكانة جوهرية في التبادلات الثنائية مع تغليب المصالح الاقتصادية وهو ما تجلى في رفضه دعوات الكونجرس لوقف مبيعات الأسلحة المستقبلية للسعودية على خلفية مقتل الصحفي جمال خاشقجي معتبرًا أن قرار كهذا لن يصب في مصلحة واشنطن وسيدفع السعودية للاتجاه إلى الشركات الصينية والروسية لتلبية احتياجاتها الدفاعية، وهو ما يعني وقف استثمار تُقدر بـ 110 مليارات دولار في الولايات المتحدة، واعتبر المملكة حليفًا مهمًا في معكرته المهمة ضد إيران.
يضاف إلى ذلك انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة وشن حملة أقصى ضغط من العقوبات. علاوة على ذلك، لم تستخدم إدارة ترامب حرب اليمن كوسيلة للضغط على السعودية بل على العكس استمرت في دعمها العسكري للقوات السعودية في اليمن، بما في ذلك تزويد الطائرات الحربية السعودية بالوقود جوًا وتبادل المعلومات الاستخبارية والدعم اللوجستي ووجود مستشارين عسكريين أمريكيين يقدمون المشورة العسكرية وتحسين أمن الحدود وعمليات الدفاع ضد الصواريخ الباليستية، وهو ما لاقي هجوم الكونجرس والجماعات الحقوقية الدولية، ودفعهم للمجادلة بأن الإدارة الأمريكية شجعت الرياض ومنحتها تفويضًا مطلقًا لمتابعة سياساتها في اليمن. ففي أبريل 2017، أكد وزير الدفاع الأسبق جيم ماتيس أن الولايات المتحدة تدعم الحرب السعودية في اليمن كوسيلة للدفاع ضد تحركات إيران في المنطقة، وأن السعودية كانت الشريك الأفضل في مكافحة الإرهاب، واستخدم ترامب حق الفيتو ضد قرار للكونجرس بإنهاء المساعدة العسكرية الأمريكية في الحرب السعودية في اليمن، بالإضافة إلى ثلاثة إجراءات أخرى تهدف إلى منع مبيعات أسلحة تزيد قيمتها على ثمانية مليارات دولار للسعودية والإمارات.
كما اتخذت إدارة ترامب موقفًا محايدًا من الأزمة بين الرباعي العربي وقطر ودعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى التفاوض وتسوية الخلاف فيما بينها. وأيضًا أكد الرئيس ترامب أن الولايات المتحدة ستواصل دعم المملكة في جهودها الرامية إلى تعزيز المجتمع والاقتصاد السعودي وفقًا لرؤية المملكة 2030، ووصف قرار حق المرأة السعودية في القيادة بالخطوة الإيجابية نحو تعزيز حقوق المرأة وفرصها.
ومع ذلك، اتبعت المملكة سياسية أكثر تحوطًا نتيجة لحالة عدم اليقين في سياسة ترامب الخارجية غير الأيديولوجية أو المتوقعة ودعوته لاتباع نهج “أمريكا أولًا” في الشؤون العالمية وتركيزه على التهديدات الأسيوية المحتملة، وقراره سحب بطاريات منظومات الدفاع الجوي باتريوت من السعودية، الأمر الذي أدى لحالة من عدم الارتياح داخل المملكة لاسيمَّا أنها انتظرت توجيه ضربة عسكرية انتقامية أمريكية– ولو محدودة – لإيران عقب هجماتها على منشأتي بقيق وخريص النفطيتين في 14 سبتمبر 2019، لكن واشنطن اكتفت حينها تبنى ترامب موقف الحليف القوي للسعوديين.
تنامي التوتر السعودي الأمريكي في عهد بايدن
بدا أن هناك عهدًا جديدًا للعلاقات الأمريكية السعودية في طريقه للتشكل خلال الحملة الانتخابية والأيام الأولى لتولي جو بايدن منصبه كرئيس للولايات المتحدة، سواء على مستوى علاقات البلدين الثنائية أو على مستوى تنسيقهم على المستوى الخارجي.
أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حملته الانتخابية سعيه إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران. تعزز هذا الحديث مع قرار الإدارة الأمريكية في 12 فبراير 2021 – خلال الأيام الأولى من تنصيبها – بإلغاء تصنيف الحوثيين اليمنيين كمنظمة إرهابية أجنبية، بدعوى دعم المساعدات الإنسانية الدولية في اليمن. أكدت هذه التحركات الشكوك السعودية بشأن تراجع العلاقات الأمريكية السعودية، بل يمكن القول إن هذه الشكوك قد توثقت أكثر عبر ما خرج من تصريحات بشأن مناقشات الاتفاق الجديد مع إيران، حيث اتجاه الجانب الأمريكي إلى إبرام اتفاق مع إيران ينصب تركيزه الأساسي على برنامج إيران النووي، دون الأخذ في الاعتبار – مجددًا- ملفي التدخلات الإقليمية لإيران أو برنامج الصواريخ الباليستية، بما يعني أن الاتفاق الجديد لن يعالج التهديدات الأمنية الصادرة عن إيران ووكلاءها ضد دول منطقة الخليج عامة، والسعودية على وجه التحديد.
وما زاد من تفاقم الأمر ما اعتبرته السعودية رد أمريكي “بطيء وغير فعّال” على هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية والحوثية على أهداف مدنية سعودية.
وفي ظل تكرار الحديث الأمريكي بشأن اقتراب الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، واقتران ذلك مع مشهد الانسحاب من أفغانستان، تنامي التساؤل لدي الشركاء الإقليميين للولايات المتحدة بما في ذلك السعودية حول مدى مصداقية الولايات المتحدة كشريك مسؤول، وبالتالي ظهرت الحاجة إلى إعادة تقييم المواقف والسياسات إزاء واقع ما بعد الانسحاب، والذي يصبح معه مسؤولية حل القضايا الإقليمية مسؤولية منفردة لدول المنطقة دون التعويل بشكل كبير على حتمية المشاركة الأمريكية كما السابق.
يمكن مشاهدة نتائج إعادة التقييم هذه عبر الشراكات الجديدة الناشئة في المنطقة، والقائمة على تهدئة أزمات المنطقة عبر الحوار، وهو ما برز في انعقاد عدد من جولات المحادثات ما بين السعودية وإيران، وعودة العلاقات السعودية التركية، وكذا العمل على حل الأزمة اليمنية.
ولكن في ظل تطور الصراع الدولي، حيث الحرب الروسية على أوكرانيا، مقرونًا بالفشل في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، أعادت الولايات المتحدة وضع علاقاتها مع المملكة العربية السعودية كأولوية، لاسيّما في ظل ما تستطيع ممارسته من دور في مسار تحقيق الاستقرار بسوق النفط العالمي، وذلك نظرًا لما تملكه المملكة من قدرة على زيادة الإنتاج، وأيضًا من تأثير على تحالف أوبك بلس.
في مقابل هذا، أبرزت الحرب على أوكرانيا النهج السعودي الجديد إزاء علاقتها مع الولايات المتحدة، الأمر الذي برز في الالتزام السعودي باتباع سياسة محايدة إزاء أطراف الصراع، حيث إدانة الحرب إلى جانب رفض العقوبات المفروضة على روسيا أو أي سياسة من شأنها عزل روسيا على الصعيد الدولي، بما يعني رفض قاطع لكل ما تطالب به الولايات المتحدة، وهو ما أدى إلى ترجيح التكهنات الخاصة بوجود شكل من التوتر في العلاقة ما بين الدولتين، وفقط جاءت الأزمة الأوكرانية لتؤكد على وجودها.
معادلة النفط في العلاقات الأمريكية السعودية: منذ اندلاع الحرب، تطالب الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيون السعودية بزيادة إنتاج النفط الخام. وردًا على هذا، أوضحت المملكة العربية السعودية تمسكها بما نص عليه اتفاق أوبك بلس السابق مع روسيا بشأن زيادة الإنتاج النفطي إلى حد 400 ألف برميل يوميًا.
ومع ذلك، في الواحد والثلاثين من مارس2022، اجتمع تحالف “أوبك بلس” واتفق على زيادة طفيفة في إنتاج النفط، في الوقت الذي كان يؤكد فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن إطلاق كميات إضافية من “احتياطي البترول الاستراتيجي”.
لقد رأى أعضاء تحالف أوبك بلس أنه من الممكن تلبية الطلب العالمي المتنامي من خلال زيادة الإنتاج إلى 432000 برميل يوميًا، أما الكمية التي تعتقد الولايات المتحدة أنها مناسبة فتتجاوز ضعف هذا الرقم وتبلغ مليون برميل في اليوم، في حين يبلغ إجمالي الطلب العالمي حوالي 100 مليون برميل يومياً.
لقد لمّح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان في التاسع والعشرين من مارس إلى هذه النتيجة بإعلانه في مؤتمر للطاقة عُقد في دبي عن قيام “الجميع بتنحية السياسة جانباً”.
ولكن مع استمرار ارتفاع الأسعار وتنامي المخاوف من حدوث نقص في الأسواق العالمية، قرر أعضاء تحالف أوبك بلس تعديل إنتاج يوليو وأغسطس من النفط بزيادة قدرها 648 ألف برميل يوميًا، بدلًا من 432 ألف برميل يوميًا المقررة سابقًا، وهو الأمر الذي قوبل بترحيب من الجانب الأمريكي، وتقدير للدور السعودي في تحقيق هذا التوافق. أعقب هذا إجراء الرئيس الأمريكي جو بايدن زيارة إلى السعودية منتصف يوليو 2022، والتي كان من ضمن أهدافها محاولة إقناع المملكة زيادة إنتاجها النفطي، إلا أن الوقائع التالية أثبتت الفشل في تحقيق هذا الهدف.
في أغسطس، أعلنت أوبك بلس عن زيادة الإنتاج بمائة ألف برميل يوميًا فقط خلال شهر سبتمبر، وذلك نتيجة ضعف الطاقة الإنتاجية المترتبة عن نقص الاستثمارات في القطاع النفطي، هذا فضلًا عن أن معظم أعضاء المجموعة يضخون بالفعل قرب قدراتهم الإنتاجية القصوى، وغير قادرين على تلبية الدعوات الأمريكية لزيادة الإنتاج للمساعدة في مواجهة ارتفاع الأسعار.
تلي ذلك في أكتوبر القرار الأخير لمجموعة “أوبك بلس” الخاص بخفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًا.
فور الإعلان عن تخفيض الإنتاج، خرجت عدة ردود فعل أمريكية رسمية رافضة لهذا القرار. فمن جانبه، صرح الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بأنه ستكون هناك عواقب على السعودية بسبب قرارها في إطار تحالف “أوبك بلس”.
فيما سبق ذلك تصريح عن المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي “جون كيربي”، والذي أوضح أن الرئيس الأمريكي يريد إجراء “إعادة تقييم” للعلاقة بين واشنطن والرياض بهدف “التأكّد من أنّ (العلاقة) تخدم مصالح أمن الولايات المتحدة القومي”، وذلك نظرًا لدورها الرئيسي في قرار خفض الإنتاج، والذي لم يكن مبررًا لظروف السوق، ويتسم بكونه قصير النظر، وستستفيد منه روسيا، “في وقت لا ينبغي لأحد – بأي صفة – أن يحاول إفادة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”.
وفي وقت لاحق، أوضح كيربي عبر بيان نُشر في 13 أكتوبر، أن الولايات المتحدة قدمت للسعودية تحليلًا يظهر أنه لا يوجد أساس سوقي لخفض إنتاج النفط قبل قرار “أوبك بلس” بخفض الإنتاج، وأن مثل هذا القرار كان من الممكن أن يُتخَذ خلال اجتماع أوبك المقرر عقده في شهر نوفمبر.
فيما دارت المحادثات داخل الكونجرس الأمريكي بشأن تجميد مبيعات الأسلحة والتعاون الامني مع المملكة، وكذا بحث تمرير مشروع قانون عدم وجود كارتلات لإنتاج وتصدير النفط (NOPEC) والذي “يحظر على دولة أجنبية الانخراط في عمل جماعي يؤثر على السوق أو العرض أو السعر أو توزيع النفط أو الغاز الطبيعي أو أي منتج بترولي آخر في الولايات المتحدة.”
في مقابل هذا، أوضح وزير الطاقة السعودي أن القرارات الاستباقية التي اتخذتها “أوبك بلس” ساهمت في الحفاظ على سوق نفط مستدام، مشيراً إلى أن هذا الاتفاق الذي يخفض مستويات الإنتاج سيمتد حتى نهاية عام 2023. وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية السعودية، تم رفض كافة التصريحات الصادرة تجاه المملكة والتي تصف قرار أوبك بلس بأنه “بمثابة انحياز للمملكة في صراعات دولية وأنه قرار بني على دوافع سياسية ضد الولايات المتحدة”، مع التأكيد على أن حكومة المملكة قد أوضحت خلال تشاورها المستمر مع الإدارة الأمريكية أن جميع التحليلات الاقتصادية الخاصة بتأجيل اتخاذ قرار التخفيض لمدة شهر – والذي اقترحه الجانب الأمريكي- سيكون له تبعات اقتصادية سلبية.
أكد قرار أوبك بلس الأخير، وبيان الخارجية السعودية اللاحق له، التوتر القائم ما بين السعودية والولايات المتحدة. فعلى الرغم مما أُثير بشأن حصول بايدن على وعود سعودية خاصة بزيادة إنتاج النفط خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض، إلا أن تفاصيل اللقاء الذي عقد ما بين الرئيس الأمريكي وولي العهد السعودي تشير إلى اتساع فجوة التوتر ما بين الجانبين. ردًا على حديث بايدن بشأن أهمية احترام حقوق الإنسان، أشار ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” إلى ازدواجية المعايير الأميركية في موضوع حقوق الإنسان، مسلطًا الضوء على قضية مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة بنيران إسرائيلية، وسوء المعاملة الأميركية للمعتقلين في سجن أبو غريب، فيما لفت أيضًا إلى أن الجهود الرامية إلى فرض بعض القيم على بلدان أخرى قد تؤدّي إلى نتائج عكسية.
من ناحية أخرى، يتزامن رفض السعودية تنفيذ المقترح الأمريكي الخاص بتأجيل قرار خفض الإنتاج لمدة شهر مع انتخابات التجديد النصفي الأمريكية، ومحاولة بايدن وإدارته الديمقراطية الحفاظ على أغلبيتهم داخل الكونجرس، في ظل ضغط الوضع الاقتصادي الهش، والذي يغذيه ارتفاع نسب التضخم وارتفاع أسعار الوقود. وبناءً عليه، حاولت إدارة بايدن إقناع السعودية تأجيل قرار خفض الإنتاج تجنبًا لما قد ينتج عن القرار من ارتفاع في الأسعار يسهم في التأثير على تفضيلات الناخبين.
. عدم الانحياز السعودي: يبدو أن هناك هدف أخر للرئيس الأمريكي قد فشل في تحقيقه خلال زيارته للمنطقة، والذي أوضحه في مقاله المنشور على صحيفة “واشنطن بوست” – في التاسع من يوليو 2022-. يتمثل هذا الهدف في التصدي للعدوان الروسي، وجعل الولايات المتحدة في موقع جيد يخوّلها التنافس مع الصين، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وهو ما يتعين معه التعامل مباشرة مع البلدان التي يمكن أن تؤثر على تلك النتائج.
لقد سلطت الحرب الروسية – بالفعل- الضوء على تحوط سعودي على الصعيد الدولي. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى العلاقات السعودية المتنامية سواء السياسية أو الاقتصادية مع كلًا من الصين وروسيا.
بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، وجهت السعودية، في مارس 2022، دعوة رسمية للرئيس الصيني تشي جين بينغ لزيارتها. ليس هذا فحسب، كشفت تقارير عن وجود محادثات سعودية صينية بشأن استخدام اليوان بدلًا من الدولار في مدفوعات النفط السعودي الموجه إلى الصين. وعلى الرغم من ضعف تأثير هذه الخطوة في مسار تعزيز مكانة اليوان في النظام المالي العالمي، ولكنها في الوقت نفسه تعزز من شواهد التوتر الأمريكي السعودي.
وعلى صعيد العلاقات مع روسيا، يشير التعاون بين البلدين في إطار صيغة أوبك +، وكذا النجاح السعودي في ترتيب الإفراج عن 10 أسرى من مواطني المملكة المغربية، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والسويد، وكرواتيا، في إطار عملية تبادل أسرى بين موسكو وكييف، عن مدى نجاح التنسيق السعودي الروسي.
وعلى صعيد التعاون العسكري، تشير البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن صادرات السلاح الصيني إلى المملكة العربية السعودية قد بلغت خلال الفترة من 2016-2021 نحو 210 مليون وحدة TIV (يستخدم معهد ستوكهولم وحدة Trend Indicator Value أو وحدة قياس مؤشر الاتجاه، المعروفة اختصارًا ب TIV، لقياس الاتجاهات في تدفق الأسلحة بين الدول، بمعنى آخر يقدم المؤشر قياس عمليات نقل القدرة العسكرية بدلاً من قيمتها المالية). فيما بلغت صادرات الأسلحة الروسية إلى السعودية خلال عام 2019 نحو 12 مليون وحدة.
وعلى الرغم من ضعف حجم تلك الصادرات مقارنة بحجم نظيرتها الواردة من الولايات المتحدة، ولكن يكشف التعاون في حد ذاته واتجاه السعودية إلى شراء أسلحة من كلأ من الصين وروسيا على وجه التحديد عن حالة التوتر القائمة، بحيث تتجه الرياض إلى شراء أسلحة ممن تعدهم واشنطن مهددين لنفوذها على الصعيد العالمي، ردًا على تخلي واشنطن عن حلفاءها في الخليج. وبشكل عام، تشير التحركات السعودية على وقع الأزمة في أوكرانيا إلى اعتماد نهج جديد في علاقاتها مع الجانب الأمريكي، من زاوية كون الولايات المتحدة شريك قوي ضمن شركاء آخرين، بما يحتم على الجانب السعودي محاولة تحقيق التوازن في علاقاتها مع جميع هؤلاء الشركاء.
تداعيات محتملة
رتبت التحولات في المواقف الأمريكية خلال الإدارات المختلفة تجاه السعودية بشكل خاص، والخليج بشكل عام تأثيراً على طبيعة العلاقات بين الدولتين، لذلك أثيرت مخاوف هذه الدول حول مصداقية الولايات المتحدة كشريك لها، وانعكس ذلك في توتر العلاقات في بعض الأحيان، واتجاه السعودية نحو مسار تنويع الشراكات مع قوى أخري من بينها روسيا والصين، والتفكير في حل القضايا الإقليمية بشكل منفرد دون التعويل بشكل كبير على مشاركة الولايات المتحدة. لكن على نحو آخر تظل للسعودية ولمنطقة الخليج أهمية مركزية لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين لما تحويه من موارد للطاقة، كما يظل الوجود العسكري الأمريكي في الدول الخليجية ذو أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة لحماية الممرات المائية هناك وللحفاظ على نفوذها في المنطقة.
وعليه سوف يتم التوضيح في الآتي بعض التداعيات المحتملة للخلاف الأمريكي- السعودي:
- توتر مؤقت: جاء قرار السعودية ودول أعضاء أوبك بلس بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا في توقيت حرج بالنسبة لإدارة بايدن خاصة أنها مقبلة على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في ديسمبر2022، مما يعنى احتمالية أن يضعف هذا القرار حظوظ الحزب الديمقراطي في الانتخابات بعد ارتفاع أسعار النفط، وتفسير البعض بأن قرار السعودية هو تدخلاً في السياسة الأمريكية لإلحاق الضرر بإدارة بايدن قبل الانتخابات، وأن السعودية تتدخل إلى جانب الجمهوريين. كما أن القرار مثل انحيازاً لروسيا حيث يحقق لموسكو موارد مالية هائلة، مما يزيد من نفوذها على الأوروبيين خاصة في ظل استمرار التضخم في سياق الحرب وتفاقم أزمة الطاقة خلال فصل الشتاء.
وهو ما جعل بايدن يعلن مراجعة العلاقات مع السعودية بعد انحيازها لروسيا في قرار أوبك بلس لتقييد إمدادات النفط العالمية، والحديث عن تقليص المبيعات العسكرية للسعودية، وهو ما اقترحه السيناتور “بوب مينينديز” والذي طالب بالتجميد الفوري لجميع جوانب التعاون مع السعودية، وخفض الوجود العسكري الأمريكي في دول الخليج، بما يعكس التوتر الذي أصاب العلاقات وليس القطيعة.
وكما سبقت الإشارة، دعا أعضاء الكونجرس إلى إحياء مشروع قانون “حظر إنتاج وتصدير النفط” المعروف باسم NOPEC. لكن وفقاً لاستطلاع أجرته شركة (Morning Consult and Politico) حول موقف الداخل الأمريكي فإن أكثر من نصف الديمقراطيين واثنين من كل خمسة جمهوريين يدعمون مشروع القانون، في حين يعارض مشروع القانون بعض المؤسسات مثل “معهد البترول الأمريكي” وهو اتحاد تجارى لصناعة النفط والغاز الطبيعي حيث اعتبر أن مشروع القانون ضاراً للمصالح الأمريكية (التجارية والعسكرية)، كما ترى غرفة التجارة الأمريكية أن التشريع لن يكون له تأثير في ترويض أسعار البنزين.
من ناحية أخرى؛ اتخذت الولايات المتحدة إجراءات مضادة من خلال التخطيط للإفراج عن 10 ملايين برميل إضافية من النفط من احتياطيها البترولي الاستراتيجي في نوفمبر للتعويض جزئياً عن انخفاض إنتاج أوبك.
يعكس قرار أوبك بلس اتجاه السعودية في سياستها إلى تحديد إنتاج النفط وتسعيره بشكل مستقل عن واشنطن، وأنها تعمل لتحقيق أهدافها الاقتصادية والجيو -ستراتجية، ولديها تخوف من حدوث ركود عالمي مما دفعها إلى رفع أسعار النفط، بما يساعد في حمايتها من انخفاض الإيرادات بسبب التباطؤ الاقتصادي، خاصة أنه كان هناك مساعي من قبل واشنطن لوضع حد أقصى لسعر النفط الروسي.
كما تسعى السعودية إلى تنويع علاقتها الاقتصادية في مرحلة ما بعد الهيدروكربونات في جميع أنحاء العالم وبشكل خاص آسيا، فاليابان على سبيل المثال شريك رئيسي في الرؤية السعودية 2030، كما أن هناك تحولات داخلية في السعودية والخاصة بوضع تدابير حقوق المرأة – مثل الحق في القيادة، والسفر بحرية، والخدمة في الأجهزة الأمنية والجيش، وزيارة الملاعب مع العائلات كجزء من رؤيتها 2030، بما يعكس تحولاً في رؤية قادتها لمستقبل الدولة والذي سينعكس بالتأكيد على مساراتها الخارجية.
لكن بالرغم من التحركات الفردية لكل من السعودية ودول الخليج بعيداً عن التبعية الأمريكية، إلا أنه خلال زيارة بايدن للمنطقة وقّعت السعودية على العديد من الاتفاقات المهمة مع الولايات المتحدة في مجالات مختلفة مثل الطاقة النظيفة، والأمن السيبراني، واستكشاف الفضاء، والصحة العامة، والأمن البحري وتعزيز الدفاع الجوي السعودي، وهو ما يؤشر إلى استحالة حدوث قطيعة في العلاقات، بينما قد يتم تصنيف الخلاف الحالي بأنه توتر مؤقت وأن العلاقات تتخذ مسار التعاون أحياناً ومسار التوتر تارة أخرى في أحيان أخرى. هذا بالإضافة إلى توقيع الإمارات مع الولايات المتحدة في 1 نوفمبر 2022 على شراكة استراتيجية لاستثمار 100 مليار دولار في تنفيذ مشروعات الطاقة النظيفة بطاقة إنتاجية تبلغ 100 جيجاوات.
من ناحية أخرى؛ تعكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكي خلال الإدارات المختلفة المصالح الجيوسياسية للدولة وكيفية إداراتها بما يضمن لها أمن المنطقة، حيث حرصت إدارة بايدن خلال الاستراتيجية على أمن المنطقة وعدم السماح لقوى من خارج الإقليم أو من داخله بتعطيل حرية الملاحة في الممرات البحرية في المنطقة بما فيها مضيق هرمز وباب المندب، وردع الأعمال التي تهدد الاستقرار الإقليمي، مع العمل في الوقت نفسه على تخفيض التوتر، والتهدئة لإنهاء النزاع بواسطة الدبلوماسية، وإقامة روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة، بما في ذلك إقامة هياكل مدمجة للدفاع الجوي والبحري، مع احترام سيادة كل دولة، واختياراتها المستقلة.
كما حدد أوباما محاور استراتيجيته للشرق الأوسط في محاربة الإرهاب وضمان أمن الطاقة، وسلامة الممرات البحرية، وأمن إسرائيل، بينما ركز ترامب على ألا تكون المنطقة حاضنة للإرهاب أو خاضعة لسيطرة أي قوة معادية لأمريكا، وأن تسهم في تحقيق استقرار سوق الطاقة.
وعليه تؤكد المعطيات السابق الإشارة إليها، أن العلاقات الأمريكية-السعودية قائمة بالأساس على المصالح، وتواجه لحظات من الخلاف والتوتر في بعض الأحيان ولا تسير على وتيرة واحدة، وأن الخلافات تفاقمت على خلفية مقتل الصحفي جمال خاشقجي.
- استراتيجية التحوط الاستراتيجي وتنويع الشراكات: تعكس التحركات السعودية خاصة -بعد الأزمة الروسية- الأوكرانية -عن تحركات وازنة لا تنحاز لطرف على حساب الآخر، فمن ناحية تحاول لعب دور الوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية، وقد تبين ذلك في صفقة تبادل الأسرى الذي عمل عليها محمد بن سلمان، وفى نفس الوقت تم تقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا بنحو 400 مليون دولار،
ودفعت الخلافات مع الولايات المتحدة السعودية إلى تنويع شراكتها مع روسيا والصين، وأن هناك تحولاً نحو قدرات واستقلالية أكبر في القطاعات الأمنية لدول الخليج سواء مع الصين أو روسيا؛ إذ أن الصينيون لديهم خط إنتاج للصناعات العسكرية السعودية الجديدة (SAMI)، كذلك لديهم خط تجميع(CH-4) في السعودية، كما يساعد المتخصصون الصينيون الفنيين السعوديين على إنتاج صواريخ باليستية، وهناك حديث عن مساعدتهم في تطوير برنامج الرياض النووي. وفي عام 2017، كان هناك مشروع مشترك بين المؤسسة الصينية لعلوم وتكنولوجيا الفضاء ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا، كما تعمل الصين لبناء مصنع طائرات بدون طيار في السعودية من طراز Ch-4. على غرار MQ-1 Predator الأمريكية، بالإضافة إلى الحديث عن تفاوض سعودي صيني بشأن استخدام اليوان بدلًا من الدولار في مدفوعات النفط السعودي الموجه إلى الصين، وامتد التعاون مع الصين إلى مجال التعليم، حيث تحرك السعودية في عام 2019 – وهو الأول من قبل دولة عربية – لإضافة لغة الماندرين الصينية كلغة ثالثة في نظام التعليم الوطني، وإطلاق الإمارات في عام 2020 لبرنامج اللغة الصينية في المدارس العامة.
كل هذه العوامل مجتمعة عكست مشاهد التوتر الأمريكي السعودي وليس التحول الكلى في العلاقات. وبالرغم من تنويع الشراكات مع الأطراف الدولية الأخرى، من غير المرجح استبدال البنية التحتية الدفاعية الأمريكية في السعودية على المدى المتوسط.
ختاما؛ تكشف الأزمات الدولية والإقليمية عن أن العلاقات الأمريكية- السعودية هي علاقات براجماتية بقدر أكبر من أنها استراتيجية، قد تشهد نوعاً من الصعود في أوقات وهبوطاً في أوقات آخري، ويعود ذلك إلى رؤية ومصالح كل طرف، كما أن عدم ضمان الولايات المتحدة لأمن السعودية وباقي دول الخليج دفعها إلى تنويع شراكتها، وأن التحول في القرارات السعودية الأخيرة، وخاصة قرار أوبك بلس بالرغم من محاولات بايدن لاستقطاب هذه الدول في محورها، يكشف عن تحرك بعيداً عن التبعية الأمريكية، ليس بفقد الولايات المتحدة كلية خاصة أن العلاقات مع السعودية على مستوى الإدارات سواء جمهورية أو ديمقراطية تعكس براجماتية هذه العلاقات وأن الدولتين تجمعهما مصالح أمنية استراتيجية وليس النفط فقط.
ومن المرجح أن تعود العلاقات سواء في عهد إدارة جديدة قادمة أو الإدارة الحالية في حال استمراراها بعد الانتخابات نظرا لطبيعة المصالح التي تقوم عليها العلاقات، وأن التوترات الأخيرة ليست سببًا للتخلي عن العلاقة طويلة الأمد، وأن الرياض تظل لاعباً هاماً في الإقليم بالنسبة للولايات المتحدة، وسوقاً لا غنى عنه بالنسبة لمبيعات الأسلحة الأمريكية، حيث تمثل 24 ٪ من جميع مبيعات الأسلحة الأمريكية، وفقًا لتقرير عام 2021 الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. كما تحرص واشنطن على التدفق الحر للنفط والغاز من الخليج. من ناحية أخرى هناك تقديرات تشير إلى أنه من المرجح أن يرفع أعضاء الناتو إنفاق الجيش إلى 2 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي لكل منهما، أو ما يقدر بـ 100-120 مليار دولار إضافية سنويًا – سيتدفق الكثير منها إلى صناعة الدفاع الأمريكية، وأن هذا التدفق الكبير الجديد سيقلل من أهمية دول مجلس التعاون الخليجي كمشتري رئيسي للأسلحة الأمريكية.
وهناك إحتمال وفرصة أخيرة للتوافق خلال اجتماع أوبك بلس المقرر عقده في ديسمبر 2022، بما يسمح للسعودية التوصل إلى تفاهمات بخصوص أسعار النفط ومعدل الإنتاج بما يحقق توافق مع تطلعات الولايات المتحدة، ويزيل التوتر الحالي.