مقدّمة
في 29 آب/أغسطس 2022، أصدر آية الله العظمى كاظم الحسيني الحائري الذي يتّخذ من مدينة قم مقرًّا له، بيانًا أعلن فيه تنازله عن المرجعية، أي عن سلطته الدينية بصفته مرجع تقليد لدى الطائفة الشيعية، وأوصى مقلّديه باتّباع مرجعية المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. ووجّه في بيانه أيضًا انتقادات لاذعة إلى مقتدى الصدر، رجل الدين الشعبوي وزعيم التيار الصدري، وألمح إلى أن الصدر يفتقر إلى المؤهلات الدينية اللازمة لتولّي دفة القيادة، وأنه حاد عن نهج الشهيدَين الصدرَين العظيمَين آية الله العظمى محمد باقر الصدر وآية الله العظمى محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر.
يتّسم موقف الحائري بأهمية كبيرة لأنه يُعدّ مرجعية دينية للتيار الصدري. لذا، بدا أن انتقاداته تشكّل تهديدًا لسلطة الصدر في توقيت مفصلي، إذ كان يحشد أنصاره للضغط على خصومه السياسيين في سياق خلافه مع الفصائل الموالية لإيران على مسألة تشكيل حكومة عراقية جديدة. ومع أن الصدريين اعتبروا تصريح الحائري مستفزًّا على الأرجح، فإنه لم يشكّل تحديًا فعليًا لسلطة الصدر، نظرًا إلى محدودية نفوذ الحائري داخل التيار الصدري.
نجح الصدر في بناء سلطته الدينية وحمايتها من خلال اتّباع استراتيجيتَين اثنتَين. فقد حافظ على تعددية المنظمات الدينية، مستفيدًا من الشرعية التي يتمتع بها رجال الدين الأرفع مقامًا، مثل الحائري، وضَمَن في الوقت نفسه ألّا تتمكّن أي سلطة دينية من منافسة نفوذه في التيار الصدري. وقد لجأ أيضًا إلى مزيج من الممارسات الدينية التقليدية وغير التقليدية لتنويع مراجع سلطته الدينية. وهكذا، تمكّن من تخطّي نقاط ضعفه في الأساليب التقليدية لبسط النفوذ الديني، ولا سيما الدراسات الدينية والتدريب الرسمي في الحوزة العلمية.
تسلّط العلاقة بين الصدر والحائري الضوء على الصراع على السلطة الدينية داخل التيار الصدري الذي يُصوَّر أحيانًا كثيرة على أنه قوة سياسية واجتماعية. لكن مقاربة التيار الصدري من منظور ديني تشرح جوانب سياسية أوسع لهذا التيار، وتحديدًا قدرة الصدر المتواصلة على تعبئة قاعدته الشعبية، على الرغم من إخفاقات تياره في الحوكمة وافتقاره إلى رؤية سياسية متماسكة. في غضون ذلك، إن إدراج الدور السياسي للصدر ضمن هذا المنظور الديني للقيادة يشير أيضًا إلى ضعف الصدر المحتمل كطرف سياسي، وتحديدًا إلى الأزمة التي يواجهها على مستوى السلطة الأخلاقية التي تقوم على أساسها سلطته السياسية.
تعدّد المرجعيات الدينية في التيار الصدري
من أجل فهم النفوذ المحدود الذي يتمتع به الحائري في صفوف الصدريين، لا بدّ من تتبّع مسار علاقته مع التيار الصدري قبل اغتيال محمد صادق الصدر في العام 1999. خلال تلك الفترة، كان الاثنان خصمَين يتنافسان على إرث محمد باقر الصدر الذي تتلمذا على يده، ما جعلهما وريثَين محتملَين لسلطته الدينية. لكن الحائري كان قد نصّب نفسه مرجعية، ما منحه قدرة أكبر على التأثير في مسار محمد صادق الصدر نحو تبوّؤ السلطة الدينية.
يُشار إلى أن الحائري رفض حتى الاعتراف بادّعاء محمد صادق الصدر بأنه مرجع، ورفض مساعي وكلاء هذا الأخير حين زاروا قم لإنشاء مكاتب للصدر هناك. وقد أعاق هذا الرفض الجهود التي بذلها صادق الصدر لتوسيع شبكة مقلّديه وبالتالي إنشاء مرجعيته الخاصة. وقد أُفيد أيضًا بأن الحائري طرد رسول الصدر، أبو سيف الوائلي، من منزله واتّهمه بالعمل لحساب أجهزة المخابرات التابعة لنظام البعث.1
في ضوء هذا التنافس على السلطة، لماذا عمد محمد صادق الصدر إلى تعيين الحائري وريثًا له كمرجع تقليد للصدريين؟ وفقًا لمصادر في التيار الصدري، لم يكن محمد صادق الصدر راغبًا في إجراء هذا التعيين، على الرغم من العلاقة التي جمعت الحائري مع محمد باقر الصدر والحوزة العلمية في النجف.2 ولكنه اتّخذ هذا القرار على مضض في آخر أيامه بضغط من أتباعه الذين كانوا يخشون من احتمال اغتيال زعيمهم وبقائهم من دون مرجعية دينية واضحة، ما من شأنه أن يؤدي إلى نزاع داخلي على القيادة.
إضافةً إلى ذلك، روى أعضاء في التيار الصدري أن الحائري كان واحدًا من بين رجال دين عدة ذكرهم محمد صادق الصدر باعتبارهم قادرين على تبوّؤ منصب مرجع التقليد بعد وفاته.3 وهكذا، اتّبع الصدريون عددًا من رجال الدين بناءً على توصيات الصدر. فقد اتّبع الجيل الأكبر سنًّا من الصدريين بصورة أساسية مرجعية الحائري، أو آية الله العظمى محمد حسين فضل الله (الذي درس في حوزة النجف العلمية قبل انتقاله إلى لبنان)، أو آية الله العظمى محمد إسحاق الفياض الذي كان مقيمًا في النجف،4 فيما اتّبع عدد أصغر، إنما مهم، من الصدريين مرجعية آية الله العظمى علي السيستاني. يُشار إلى أن مدى صحة هذه الرواية أقل أهمية من واقع أنها تشكّل جزءًا من الخطاب الصدري. والخلاصة التي يمكن استنتاجها من منظور الصدريين هي أن التيار الصدري لم يحظَ بسلطة دينية واحدة من بعد وفاة محمد صادق الصدر.
كذلك، ساهم جواز البقاء على تقليد ]المرجع[ الميّت في تعدّد السلطات الدينية داخل التيار الصدري. فمن منظور الشيعة الاثني عشرية القويم، يُعتبر تقليد الميّت ممارسة غير تقليدية، إلا أنه مهم للصدريين بسبب التركيز الذي يولونه للسلطة الدينية كما يجسّدها رجال دين محدّدون، مثل محمد باقر الصدر، وخصوصًا محمد صادق الصدر.
يسمح تقليد الميّت للصدريين بأن يستمرّوا في اتّباع مرجعية محمد صادق الصدر، لكن هذه الممارسة تخضع لشرطَين. أولًا، يُفترض أنها تقتصر على المقلّدين الذين اتّبعوا مرجعية آية الله حين كان لا يزال على قيد الحياة. وثانيًا، يجوز للمقلّدين الامتثال لأحكام الصدر فقط في الحالات الطبيعية، أي حين لا يتأثّر تطبيق الفتاوى والأحكام الدينية بتبدّل غير متوقّع في الأحوال والظروف.
على المستوى النظري، كان يُفترض أن يُحدث ذلك فجوة بين جيل أكبر سنًّا، وجيل شاب من الصدريين لم يكن قد وُلد بعد في عهد محمد صادق الصدر، وكان سيضطر بالتالي إلى اتّباع مرجعية رجل دين آخر، أي الحائري بصورة أساسية. لكن الصدريين يجادلون بأن شباب التيار الصدري بإمكانهم اتّباع مرجعية محمد صادق الصدر، شرط أن يتّبعوا أيضًا مرجعًا آخر لا يزال على قيد الحياة ويسمح بهذه الممارسة. فقد شرح عضو في التيار الصدري هذه المسألة قائلًا: “على الصدريين الشباب اتّباع المجتهد الحي، إلا إذا كانوا يعتبرون أن ]محمد[ صادق الصدر أعلم من المجتهدين الأحياء، وعليهم أن يتّبعوا في هذه الحالة فتوى مجتهد يسمح لهم بذلك”.5
ساهم تقليد الميّت في نهاية المطاف في زيادة تنوّع السلطة الدينية الصدرية. إن التفسيرات المختلفة لهذه الممارسة التي أفضت إلى اتّباع مزيج متنوّع من المرجعيات الدينية، تسلّط الضوء على مدى مرونة المقلّدين الصدريين حيال مسألة التقليد. ويظهر ذلك كيف يشارك المقلّدون الصدريون بشكل نشط في هذه الممارسة، ولا يبقون مجرّد متلقّين للتعاليم الدينية. وبالتالي، هم يساهمون في تجديد طريقة تحديد السلطة الدينية ونسبِها.
التوفيق بين آباء روحيين متعدّدين
بُنيت العلاقة بين الحائري ومقتدى الصدر بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 على أسس غير مستقرة. مع ذلك، كانت لدى الصدر والحائري دوافع قوية للتعاون معًا. فقد واجه الصدر نزاعًا داخليًا للسيطرة على التيار الذي أسّسه والده، إذ جادل بعض رجال الدين الأرفع مقامًا، مثل محمد اليعقوبي، مدير مكتب محمد صادق الصدر في النجف في العام 2003، بأن السلطة الدينية قد انتقلت إليهم بعد وفاة الصدر نظرًا إلى أنهم الأكثر أهلية وكفاءة من بين طلّابه. وهدّد ذلك بإحالة مطالبة الصدر بوراثة مرجعية والده إلى مرتبة ثانوية.
انشقّ اليعقوبي عن مقتدى الصدر في 16 تموز/يوليو 2003، لينصّب نفسه مرجعًا ويسعى إلى السيطرة على شبكة محمد صادق الصدر التنظيمية والمالية، ولا سيما جمع الخُمس، وهو عبارة عن فريضة مالية على ثروات المؤمنين. تبعًا لذلك، كان قرار الحائري بتعيين مقتدى الصدر ممثّلًا له في العراق في 7 نيسان/أبريل 2003، مُجيزًا له أداء وظائف منوطة عادةً بالمرجع – مثل جمع الخُمس وتوزيعه وإصدار بعض الأحكام الدينية – أمرًا بالغ الأهمية. فقد عزّز ادّعاء الصدر بأنه صاحب السلطة الدينية في صفوف الصدريين، ما ساعده على صدّ المنافسة.
وكان الحائري بدوره بحاجة إلى الصدر الذي أتاح أمامه فرصةً لتوطيد نفوذه داخل التيار الصدري من خلال رجل دين مبتدئ من شأنه أن ينصاع، نظريًا، لتوجيهات الحائري الدينية. لولا الصدر، كان الحائري ليتعرّض، نظرًا أيضًا إلى موقعه في قم، لتحدّيات من أمثال اليعقوبي الذي كان بوسعه أن يُنشئ بسهولة أكبر “وقائع على الأرض” في العراق. ولم يكن تعيين الحائري رسميًا مرجعًا للتيار الصدري ليكتسب قيمةً تُذكَر لو لم يقترن مع قدرة الصدر على حشد القوة القسرية اللازمة للاستيلاء على عقارات التيار الدينية وشبكاته التنظيمية.
لم يكن تعاون الحائري مع الصدر مجرّد انعكاس لمصالحه الدينية الخاصة، بل شكّل أيضًا جزءًا من شبكة علاقات سعت إيران من خلالها إلى ربط الصدر والصدريين بمصالحها. تطابقت ديناميكيات علاقة الحائري مع الصدر في مراحلها الأولى تطابقًا شديدًا مع استراتيجية الحرس الثوري الإسلامي تجاه التيار الصدري. شمل ذلك مشاركة الحائري في الاجتماعات الأولى التي عقدها الصدر والدائرة المقرّبة منه مع مسؤولين سياسيين واستخباريين إيرانيين مباشرةً بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. كذلك، حين تبدّل موقف الحرس الثوري الإسلامي من الصدر وبات يرغب في تفكيك ميليشيا جيش المهدي، الذراع المسلّح للتيار الصدري، بعد معركة النجف الكارثية في آب/أغسطس 2004، وسعى إلى تقويض سلطة الصدر من خلال تعزيز نفوذ خصومه، أقدم الحائري رسميًا على سحب دعمه للصدر، وأوعز للصدريين بإرسال الخُمس مباشرةً إلى مكاتبه.
على الرغم من هذه الاضطرابات التي شهدتها العلاقة بين الصدر والحائري في مراحلها الأولى، لم يكن تباعدهما نهائيًا لا عودة عنه. فبعد العام 2004، سعى الصدر مرارًا وتكرارًا إلى تحسين مكانته الدينية من خلال متابعة دراساته وتوثيق ارتباطاته مع سلطات دينية مختلفة، منها الحائري. لكن الصدر تعامل بحذر مع هذه العلاقات، ساعيًا إلى الحصول على الشرعية من كبار المرجعيات الدينية، إنما مع المحافظة على روابط دينية متعددة. وبالتالي، فالحديث عن أن الحائري كان السلطة الدينية المركزية للصدريين وأن الصدر واصل السير على خطاه وتوجّه إلى إيران للتتلمذ على يده، قد يحجب هذا الجانب الأساسي في استراتيجية الصدر الدينية.
وفقًا للصدريين، لا يُعدّ الحائري المرجع الوحيد الذي تتلمذ الصدر على يده. فعلى سبيل المثال، قبل اغتيال محمد صادق الصدر، درس الشاب مقتدى الصدر مع محمد كلنتار في النجف، الذي يعتبره الصدريون نقيضًا صارخًا للحائري، نظرًا إلى روابطه الاجتماعية الأقوى مع عائلة الصدر، ودعمه لمرجعية محمد صادق الصدر، وتضحياته الشخصية إثر اغتيال هذا الأخير في العام 1999، حين قُتِل أيضًا أحد أبنائه. بعد العام 2003، درس الصدر أيضًا في قم على يد الحائري، وآية الله العظمى جعفر السبحاني، وشقيق الحائري الأصغر علي أكبر الحائري.6 وفي الأعوام الأخيرة، سعى الصدر بصورة متزايدة إلى مواءمة مواقفه العلنية على نحوٍ وثيق مع مرجعية السيستاني.
ولكن الصدر، وعلى الرغم من هذه الجهود التي بذلها لتعزيز سلطته الدينية من خلال الدراسة أو تنويع ارتباطاته الدينية، لا يزال بعيدًا عن نيل صفة المرجع. هو أتمّ في تحصيله العلمي مرحلة السطوح العالية، وبدأ متابعة المرحلة النهائية، أي مرحلة البحث الخارج، حيث يقدّم الطلاب أطروحة ترتكز على إجراء تقييم نقدي لمسألة مهمة في الفقه الإسلامي.7 ولم يعلن بعد عن حصوله على لقب آية الله، ويستخدم بدلًا من ذلك لقب حجة الإسلام والمسلمين، أي المنصب الديني الذي يقع مباشرةً تحت منصب آية الله. وحتى بعد إتمام مرحلة البحث الخارج، يتعيّن على الصدر إعداد الرسالة العملية، وهي كناية عن بحث بحجم كتاب حول الفقه الإسلامي، يضعه مجتهدٌ في إطار مسيرته للحصول على لقب مرجع التقليد.
اعتماد الصدر الممارسات الدينية من أجل تعزيز سلطته
قطع الصدر، على الرغم من افتقاره إلى العناصر الرئيسة للسلطة الدينية المعيارية، شوطًا كبيرًا في الاضطلاع بوظائف السلطة الدينية العالية المقام، وذلك من خلال تطوير ممارسات لتنويع مصادر سلطته الدينية أبعد من تلك المستمدة من التدريب الديني الرسمي.
للإضاءة على هذه المقاربة، ووضع مكانة الصدر الدينية في إطارها الصحيح، يمكن مقارنته بقرينه وخصمه في التيار الصدري الأوسع، قيس الخزعلي. فكلاهما متقاربان في السن وتتلمذا على يد والد الصدر. لكن الخزعلي بلغ مرحلة أكثر تقدّمًا من الصدر في تدريبه في الحوزة العلمية، إذ أتمّ مرحلة البحث الخارج، واعتبر كثرٌ في الحوزة أن الأطروحة التي قدّمها تنمّ عن إلمام عميق بالفقه الإسلامي.8 لكن الخزعلي لم يسعَ إلى تنصيب نفسه سلطة دينية مستقلة داخل الحوزة، بل أعلن أنه يتبع تفسير آية الله روح الله الخميني لولاية الفقيه، وأنه ممثّلٌ لخامنئي. إذًا، وعلى النقيض من الصدر، لا يسعى الخزعلي إلى أداء وظائف دينية مثل الوعظ أو الاستفتاء (استقصاء ديني يطلب مقلّدون خلاله تفسيرًا فقهيًا من مرجع ما، يتمحور عادةً حول مسائل يومية). لقد سعى تنظيم عصائب أهل الحق الذي يتزعّمه الخزعلي إلى جمع الخُمس، إنما ليس استنادًا إلى سلطة الخزعلي الدينية، ولم تسدّده سوى قلّة فقط.9
وهكذا، ذهب الصدر أبعد بكثير من الخزعلي في سعيه إلى الاضطلاع بدور ديني مستقل، وأقدم على ذلك من خلال تعويله على مصادر للشرعية الدينية من خارج إطار التدريب الديني الرسمي. فعلى سبيل المثال، ألمح الصدر في بداية مسيرته إلى صلته الشخصية بالإمام المخفي (معتقد أساسي في علم الأخرويات في الشيعة الاثني عشرية يتعلق بعودة الإمام المهدي في نهاية الأزمنة)، مدّعيًا لنفسه قوة روحانية تمنحه تبصّرًا دينيًا من دون الحاجة إلى وسيط. ومن أحدث ابتكاراته إنشاء مجلس استشاري مؤلَّف من رجال دين أكبر سنًّا وأعلى مقامًا تتلمذوا بصورة أساسية على يد محمد صادق الصدر، لتقديم المشورة إليه بشأن مسائل الإرشاد الديني. في هذه الحالة أيضًا، تشير هذه الممارسة إلى مسعاه لتحقيق تعددية السلطة الدينية.
كذلك، يستخدم الصدر في الكثير من الأحيان أغراضًا مادية بمثابة أدوات مقدّسة. على سبيل المثال، غالبًا ما يظهر في الصور مع عصا للمشي، في مشهد يذكّر بعصا والده الأيقونية. بالمثل، حين يزور الصدر كبار رجال الدين في النجف، يصل عادةً في سيارة “ميتسوبيشي غالانت” قديمة. وهذه مشهدية قوية أخرى يتقصّدها الصدر، إذ كان محمد صادق الصدر يستقل سيارة من طراز “غالانت” لحظة اغتياله. تعبّر هذه الممارسات عن سلطة دينية مجسَّدة في أشخاص وأشياء ملموسة، من دون وساطة الخطاب الديني العقلاني أو المؤسسات الرسمية. يعتبر الصدر أن هذه الأدوات تربطه مباشرةً بسلطة والده الدينية.
علاوةً على ذلك، يُعدّ الكثير من الممارسات التي تسهم في السلطة الدينية للمرجعية متجذّرًا أكثر في أشكال الشرعية القائمة على الكاريزما الشخصية، من تجذّره في الأشكال العقلانية-القانونية والمؤسسية المرتبطة بالتدريب الرسمي في الحوزة. بعبارة أخرى، ليس الصدر خارجًا على المعتقدات الدينية التقليدية كما يُزعَم عمومًا، بل يجمع بين الممارسات التقليدية وغير التقليدية لتعظيم سلطته الدينية. هذا ويشكّل الميدان الديني الشيعي أرضًا خصبة للتيارات الدينية-السياسية، مثل التيار الصدري الذي يعتمد بصورة أساسية على إيديولوجيا الكاريزما.
على مستوى أكثر تجريدًا، ثمة علاقة تكافلية تجمع بين أنماط السلطة المتنافسة في الميدان الديني الشيعي. فممارساتها الأساسية مترابطة ديالكتيًا – مثل الانكفاء الزُّهدي مقابل الحراك الاجتماعي والسياسي؛ والتجريد الفكري مقابل العمل الملموس؛ والمسعى البحثي مقابل الوحي الروحاني من دون وساطة؛ والتعالي مقابل المحايثة. لا تعبّر هذه التناقضات عن تمييز بين السلطة الدينية “الأصيلة” و”غير الشرعية”، لكنها بحدّ ذاتها آلية مولِّدة لقوّة الميدان الديني. تبعًا لذلك، لا يشكّل الصدريون حالة دينية شاذّة، ولن ينحسر التيار الصدري ببساطة مع مرور الزمن، بل سيستمر هذا التوجّه طالما أن الميدان الديني الشيعي في العراق منخرطٌ في الانقسامات السياسية والاجتماعية الأوسع في البلاد.
النتائج على مستقبل الصدريين السياسي
في المرحلة المقبلة، ستشكّل وفاة السيستاني المتوقّعة محطةً انتقالية للطائفة الشيعية في العراق. فالصدر ليس جاهزًا على الإطلاق ليصبح مرجعًا دينيًا ولا يمكنه أن يحل مكان السيستاني في موقع السلطة الدينية الشيعية الأبرز في البلاد. لكن إعادة خلط أوراق الهرمية الدينية النجفية في مرحلة ما بعد السيستاني سوف تتيح فرصةً أمام الصدر لزيادة حصته في السلطة الدينية. لكن الصدر يتزعّم تيارًا اجتماعيًا لا مدرسة للتعليم الديني داخل الحوزة، وبالتالي، فإن سلطته الدينية سوف يحدّدها جمهوره الأساسي المكوَّن من القاعدة الصدرية، أكثر مما يحدّدها حصوله على الاعتراف من المؤسسة الدينية الشيعية.
تُعتبر طبيعة هذه السلطة الدينية بمثابة نافذة إلى البعد السياسي للتيار الصدري. لقد عزّزت الأحداث الأخيرة في العراق ارتباط سلطة الصدر الدينية بقدرته الدائمة على تعبئة أنصاره سياسيًا، من خلال الانتخابات أو الاحتجاجات أو العنف. لذا من الضروري التوقف عند هذه السلطة لفهم النفوذ الذي يمارسه الصدر كشخصية سياسية. فاستعداد الصدريين للتضحية من أجل الصدر والمجتمع الصدري من خلال وضع وقتهم ومواردهم وأجسادهم في تصرّف القضية الصدرية يعكس وجود دافع ديني خلف سلوكهم.
غالبًا ما يثير هذا التفسير حيرة صنّاع السياسات الغربيين. فافتراضاتهم العلمانية والعقلانية الضمنية تدفعهم في معظم الأحيان إلى النظر إلى الدين بأنه مورد يُستخدَم سعيًا لتحقيق أهداف سياسية. لكن الصدر لا يُقدّم رؤية سياسية متماسكة أبعد من سعيه إلى توطيد سلطته داخل المنظومة. وبالمثل، يعتقد المراقبون الغربيون أن شعبية تيارٍ إسلامي على غرار التيار الصدري تعتمد بصورة أساسية على عوامل مادّية وصفقات مرتبطة بالحوكمة الفعالة والمحسوبيات على مستوى التوظيف. لكن نفوذ الصدر مستمر على الرغم من سجل تياره المزري في الحوكمة، ناهيك عن أن معظم الصدريين لا يزالون يقبعون في أدنى درجات سلّم الاقتصاد السياسي العراقي في مجال توزيع الوظائف.10
تبعًا لذلك، لن يتراجع حضور الصدر السياسي في المشهد العراقي لا بسبب تدخّل كبار رجال الدين ولا بسبب فشل الصدريين في تحقيق الإصلاح السياسي. بل إن هشاشة الصدر المحتملة قد تنجم عن هفوات من شأنها أن تُقوّض نظرة أتباعه إلى قائدهم كحاميهم، ومرشدهم، وشخصية موحِّدة للمجتمع الصدري. من الضروري بالنسبة إلى الصدر ألّا يُنظَر إليه بأنه فشل في الحفاظ على أواصر التضامن التي تحافظ على اللحمة بين الصدريين أو بأنه بدّد تضحيات أنصاره. واقع الحال أن احتمال وقوع هذه الأزمة على مستوى السلطة الأخلاقية، وهذا شأنٌ ديني بصورة أساسية، هو الدافع الذي يحرّك سلوك ا لصدر في الوقت الراهن و يشجّعه على تبنّي مواقف سياسية أكثر خطو رة .