الشطّار والعيارون أشخاص يعتمدون في حياتهم على قوة الجسد، والدهاء، والحيلة، فيعيشون منعَّمين على حساب الناس الذين يقدّمون لهم الحماية أحيانًا، وأحيانًا يعتمد هؤلاء على اللصوصية، ويمكن اعتبارهم متمردين ضدّ الأوضاع الاجتماعية القاسية والأوضاع السياسية الظالمة، فقد كان عدوهم الأول هو الفقر، وهم ليسوا لصوصًا بالمعنى “الشرير” المتعارف عليه، فبعضهم كان يتمتع بالأخلاق العربية الكريمة من إغاثة الملهوف والمحتاج وإكرام الضيف… تعالوا نعرفكم أكثر على هؤلاء “اللصوص” الذين شكلوا إلهاماً للعديد من القصص التي لا تنسى في تراثنا الشعبي:
الشطار والعيارون.. زعماء المقاومة الشعبية
بداية ماذا نعني بالشطار والعيارين؟
لفظ الشاطر في المعاجم العربية يعني “من أعيا أهله خبثًا”. ويقال “شطر على أهله” بمعنى نزح عنهم. والشطارة: الانفصال والابتعاد. والشاطر هو الذي عصا أهله وعاش في الخلاعة، واتّصف بالدهاء، والحيلة، والخبث، والذكاء. واللص الشاطر هو الذي يستخدم الحيلة في موضعها، والقوة في موضعها. والعيّار لغويًا “كثير التجوال والتطواف، الذكي الذي لا يقوم بعمل… وقد استخدم لفظ االشطار والعيارين تاريخياً للدلالة على صنف من أصناف اللصوص.
كان للشطّار والعيارين وجودٌ فاعل في التاريخ العربي، فهناك شخصيات أثبتت وجودها في الحركات السياسية والثورات والانتفاضات الشعبية. وظهرت تلك الشخصيات في أوقات ضعف الدول وانتشار الفوضى، فتزعّم بعضها الناس في الانتفاضات، والاحتجاجات. وتحوّلت بعض تلك الشخصيات إلى أبطال شعبيين ألهمت الكتّاب الكثير من القصص التي تدور في فلكهم.
ومن العجيب أنّ هؤلاء لم يكونوا أبطالًا شعبيين فقط، بل زعماء أيضًا. فقد تزعّموا حركات المقاومة الشعبية في بغداد، ودمشق، والقاهرة ضدّ المحتلين والغزاة، في الوقت الذي كان النظام الرسمي لتلك البلدان ينهار بمجرد وصول الغزاة والمحتلين. فالطبقات العليا والحكّام كانوا يستسلمون أو يهادنون للحفاظ على ممتلكاتهم، ومناصبهم. بينما تقع المقاومة على عاتق هؤلاء، يتساوى في ذلك شطّار العراق وعياروها، وأحداث الشام وفتيانها، وزعار مصر وحرافيشها.
والطريف بالأمر أنّ معظم تلك الشخصيات التي حفل بها التراث العربي ذات أصل تاريخي، ومنها “دليلة، وعلي الزيبق، وأحمد الدنف” الذين ورد ذكرهم في كتاب “ألف ليلة وليلة”. ومن المعروف تاريخيًا أنّ الخليفة العباسي “القائم بأمر الله” استنجد بـ”علي الزيبق” لإخماد الفتنة التي حدثت في بغداد عام 443 هجرية بين الشيعة والسّنة.
ومن الطريف المتداول أيضًا أن عدد الشطّار والعيارين أيام قيام الفتنة بين الأمين والمأمون بلغ مئة ألف عيّار في انتفاضة واحدة في يوم واحد. وهو رقم مذهل إن عرفنا أن أكبر رقم توصل إليه العيارون كان أربعة وعشرين ألف عيار في سيرة “دليلة وعلي الزيبق”.
ويمكن القول إن هؤلاء الذين لبسوا زي الشطّار كانوا متمردين اضطروا إلى استخدام هذه الأساليب كمظهر اجتماعي متعدد الأبعاد، بحثًا عن رفع الظلم، وتحقيق العدالة، وإنصاف الطبقات الدنيا في المجتمع من العوز والفقر والضياع. إذ ليس من المعقول أن يكون سكّان بغداد مثلًا كلّهم لصوصاً كي يخرج مئة ألف شخص منهم في انتفاضة واحدة!
الصعاليك.. النسخة الأقدم من الشطار والعيارين
ومن الجدير بالذكر أن الشطار والعيارين ظهروا منذ القدم، قبل انتشار الإسلام، حيث كانوا يعرفون آنذاك باسم الصعاليك.
وكان معظم هؤلاء الصعاليك شعراء، أشهرهم “عروة بن الورد” و”الشنفرى”، فعلى سبيل المثال كان عروة بن الورد شاعرًا من بني عبْس، عُرف بفروسيته وكرمه. وكان يسرق ليطعم الفقراء، ولُقّب بعروة الصعاليك. فقد كان يجمع الصعاليك حوله إن فشلوا في غزواتهم ليقودهم. وقيل، بل أخذ لقبه ذاك من أبيات الشعر التالية:
لحى الله صعلوكًا إذا جنَّ ليلهُ … مصافي المشاش آلفًا كلَّ مجزر
يعد الغنى من دهره كلّ ليلة … أصاب قراها من صديق ميسر
ولله صعلوكٌ صفيحة وجهه … كضوء شهاب القابس المتنور
أمّا “الشنفرى” فهو ثابت بن أواس الأزدي، وكان من فحول العرب وعدّائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرّأت منهم قبائلهم. قُتل على يد “بنو سلامان”، ويقال إن القوم قاسوا قفزته ليلة مقتله فكانت الواحدة بمقدار عشرين خطوة.
الشُّطّار والعيارون في التراث الشعبي
حفل التراث العربي بقصص اللصوص أو ما أطلق عليهم “الشُّطَّار والعيارون”، ومن المعروف أنّ هذا النوع من القصص يظهر متزامنًا مع مرحلة تصدّع وتفكك الدولة. فحين تضعف الدول وتفقد روحها ويخبو بريقها، تبدأ عصور التدهور والانحطاط بإفراز أدب ونوع من الحكايات يشبهها، وغالباً ما تكون تلك الحكايات أو القصص معبرة عن قاع المجتمع الذي يطفو على السطح في مثل هذه الأوقات.
وفي البلاد العربية ظهر هذا النمط من القص في عهد الخليفة العباسي الثالث، وهو ما أكده بديع الزمان الهمذاني وما ذهب إليه المؤرخ “البلاذري”، إذ يقول عن بدايات انتشار هذه الظاهرة: “فلما كثر الصعاليك والزعار -العيارون- وانتشروا في الجبل في خلافة المهدي، جعلوا هذه الناحية ملجًأ لهم، وحوزوا، فكانوا يقطعون الطريق، ويأوون إليها فلا يُطلبون.”
ومن أشهر الكتب التي حوت قصص الشطّار والعيارين رواية “ألف ليلة وليلة” ومقامات بديع الزمان الهمذاني، الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي عام (968 -1007) للميلاد. ومقامات الحريري (1055-1122).
برع الهمذاني في اختراع شخصية “أبو الفتح السكندري” الذي عُرِفَ بالاحتيال، والاستهتار بالقيم والتقاليد. أمّا الشخصية التي ابتدعها الحريري فهي “أبو زيد السروجي” وهو متسول ذكي منبوذ من المجتمع يتمتع بموهبة أدبية استغلها في كسب رزقه. وتتميّز مقامات الحريري بوجود شخصيات تتظاهر بالتدين والتقوى في سبيل الحصول على المال. ويتنكّر البطل في هيئاتٍ متعددة ليختفي عن عيون مطارديه من الدائنين، أو ليحتال على آخرين يعرفون شخصيته الحقيقية.
برع الحريري في كشف أمراض المجتمع الطفيلي، وطريقة عيش البعض، وتمرّغهم بالمال والعز من دون تعب أو جهد يُذكر. وفي مقاماته صورة شهيرة لمحتال يقف على قبر يشحذ من المعزين وأهل الميت ليجهِّز ابنةً له، وهو يقصد في نفسه “ابنة الكرم والعنب، أيّ الخمر”.
لكنّ أبا زيد لا يبقى على تلك الحال، إذ لا بدّ للكاتب من وضع نهاية ترضي ذوق المجتمع وأخلاقياته. فبعد تجوال طويل، وتهتك، وتكسّب عن طريق الاحتيال يعود “أبو زيد” إلى رشده، ويتوب إلى الله، وينهج نهجًا سليمًا في حياته لا شائبة فيه.
وفي هذا المجال لا بدّ من ذكر الكاتب الأشهر بين هؤلاء “أبو عثمان الجاحظ” الذي اشتهر بكتابه البخلاء، وقد خصّ هؤلاء الفقراء ببعض كتبه، ويقول مؤرخو الأدب إن له كتابًا بعنوان “حيل المكدِّين” أيّ الشحاذين الصعاليك. لكن لم يعثر على الكتاب إلى الآن. مع ذلك يمكن اعتبار ما جاء في كتابه عن البخلاء ضمن تلك القصص. فقد قدّم في البخلاء صورة دقيقة عن حياتهم، كأنّه عايشهم، وسكن في بيوتهم. كما كتب عن الفقراء والبؤساء في المجتمع وهمومهم ومشاكلهم، ولم ينسَ الصعاليك والمتسولين ورصد الحياة السياسية لعصره التي احتقنت بالمشاكل، والاضطرابات، وتركت أثرها على حياة الناس، وأمنهم واستقرارهم.
الشطار والعيارين مواقع التواصل
وقد برع الجاحظ أيضًا في تقديم شخصية متسول يتحوّل إلى قصّاص أحيانًا، ويقول: “أنا لو ذهب مالي جلستُ قاصًّا”.
وهكذا نرى هؤلاء الشطّار يروون أحداث حياتهم بأنفسهم، ويتركون وصايا لأبنائهم. فقد ترك بطل الجاحظ في البخلاء “خالد ابن زيد” وصية لابنه. وترك بطل مقامات الحريري “أبو زيد السروجي” وصية لابنه.
والجاحظ أكثر بروزا بين الكتّاب بما عرف عن أسلوبه في كتابه “حيل اللصوص” الذي ارتفع فيه عن الأسلوب الإخباري إلى السلوب الفني. وهو من أهم كتب الجاحظ الذي صوّر فيه بعض نواحي المجتمع الإسلامي إبان عصر المأمون تصويراً فنياً رائعاً يجمع الدقة في الوصف والاسترسال مع روح الفكاهة والسخرية. وهذا الكتاب من الكتب التي ضاعت ولم يبقَ منها إلا جريدة باسمها فيها بعض النماذج تعطي فكرة عن مضمون الكتاب.
ونختم بالعصر الحديث بشخصية إشكالية هي شخصية الكاتب المغربي الشهير “محمد شكري” الذي طبقت شهرة روايته “الخبز الحافي” الآفاق، ووضعت قدمه بين كبار الكتّاب العرب. ثمّ جاءت روايته “الشطّار” بعد عشر سنوات من صدور “الخبز الحافي”. ومن العنوان نستشف أجواء الرواية ومحورها. المثير فيما كتبه محمد شكري عن حياة القاع، أنّه كان بطل الروايتين. معظم الحوادث التي جرت فيهما مأخوذة من حياته الشخصية.