ما أبلغها لغة الضاد وما أغناها وما أدق قواعدها وأحكامها، وما أكثر أفعالها وحركاتها وصورها ومفرداتها وجملها وتعابيرها. لم يكن عبثاً أن قيل في البدء كانت الكلمة ومن الكلمة (كن فيكون)، فالبلاغة لم تعد في الإيجاز وكفى، لا، بل غدت في تطابق الوعود مع ما يمكن إنجازه على أرض الواقع، فالهذر اللغوي والخطابات الطنانة الرنانة التي تبدو كأنها سراب وغيوم بلا مطر، هي في المحصلة ثرثرة قاتلة، تبدو نتائجها على الأرض حسب مطلقها…
وكم هي الحكمة في لغة الضاد ومنها أن تتعدد حروف الجر، وتوجد حروف العلة والضمائر المستترة تحت العباءات والعمامات والمنفصلة عن الواقع، ولغتها وأخلاقها وقيمها وقواعد إعرابها الممنوعة من الصرف، إلا في قنوات الصرف الصحي، لقد تمرّدت ضمائر على حركات اللغة بالضمة التي تقول لسان الضاد يجمعنا، وتنكرت لفلان وعلان وكسرت الضمة وفرّقت بدلاً من الجمع وتاجرت بالفتحة وأغلقت قلبها وعقلها لكنها فتحت ذراعيها وغرائزها لكل معتدٍ أثيم، ولم تؤمن يوماً بتاء الفاعل المتحركة المتحررة من الجهل بل سكنت وانتابها سبات أهل الكهف حيال ما يجري من خطب للأمة وإن تحركت مجازاً فمسكت خنجر أبرهة الحبشي بيد أبي لهب التي تبت لتطعن به بلداناً آمنة وشعوباً مستقرة…
فكم نحتاج الآن إلى أحرف الجر لتجرهم من كروشهم وعروشهم إلى مزابل التاريخ كأحرف علّة وأحرف مشبهة بالفعل وتكسر أواخرهم وقوالبهم لكيلا يتكرروا وتتطهر لغتنا وبلداننا الذين دنّسوها، وأرواحنا ويبقى أبجد هو المبتدأ وصحيح اللغة هو الخبر، هم ”الأعراب” الضمير المستتر تحت القلنسوة الحاخامية الذين سفكوا دماء السوريين والعراقيين والفلسطينيين واليمنيين والليبيين… والعرب الأقحاح، ويتعاملون مع دماء أطفالنا الرضع والخدج كما يتعاملون مع براميل النفط والغاز ويملؤون عبوات الدم المعتق الطاهر من غزة إلى حلب والموصل وطرابلس وصنعاء… ويطرحونها في بازاراتهم وريعها للمساكين اليهود وأبناء عمومتهم الدواعش في التلمود.
و(الأعرابيّة) حالة بدائيّة، تُنتج مفاهيمها، ولقد نبّه الرسول العربيّ الكريم (ص) إلى هذه الناحية، فنهى عن التّقهقر إليها، وساند حالة التطوّر المتقدّمة، فقال صلوات الله عليه وآله وصحبه: ”ثلاث من الكبائر، منها (التعرّب) بعد الهجرة”، أي العودة إلى الأَعرابيّة ـ وما يفعله الآن (الأعراب) الذين يضعون أيديهم على المال العربي، والنفط العربي، هو أردأ حالات النكوص، والتردّي، والتنكّر للقيم العروبيّة الإسلاميّة، إذ ليس أكبر من التعاون مع العدوّ الذي غزا البلاد، واحتلّ الأرض، ومنع تقدّم الأمّة قروناً طويلة، سواء أكان الاستعمار الإسرائيلي أو الإستعمار العثماني، أو الإستعمار الغربيّ الحديث… الآن الأمور مفضوحة، فبعد أن اشتغلوا سراً لصالح قوى الإستعمار النّهّاب طوال عقود من القرن العشرين، هاهم في زماننا، يتعاونون معه علناً، ويأتمرون بأمره جهراً، ويقيمون العلاقات العلنيّة الفاضحة مع (إسرائيل)، فأيّ افتضاح بعد هذا؟ !
في العربية يرفع الفاعل وهذا من حقه، فهو يستحق الرّفعة والرّفع والتكريم لأنّه يتعب ويشقى ويجتهد ويقوم بفعلٍ من شأنه أن يغيّر به ما حوله.. يضيف به إلى الدّنيا ما لم يكن فيها… الفاعل يستحق الرّفع والرّفعة والتكريم لأنّه يعبّر بفعله عن إرادة وقدرة على تحمّل ما يترتب على ذلك الفعل من نتائج… الفاعل يستحق الرّفع والرّفعة والتكريم لأنّه يمارس بفعله معنى الحريّة حين يختار ويفاضل بين الأفعال.
وأفعال الفاعل إمّا (ماضية) قام بها في وقت سابق، فهي تستحق الذكر والتّذكير بها… أو هي أفعال (يضارع) بها أقرانه ويريهم ما يفعل في الحاضر وما سيفعل في (المستقبل) فيستحثهم على المنافسة ويلفت انتباههم إليه وينتزع منهم الإعجاب والثناء… ولم لا وقد أعجبت به اللغة نفسها فرفعته، ووضعت رأس الحرف الأخير منه (ضمّة) فيها مهابة العمامة وقد تدّلت منها عذبة جميلة هفهافة…
ولو تأملنا (الضمّة) سيسري في أرواحنا طعم الحنان والألفة والأنس والأمان… وفي معناها ما يشير إلى النزوع إلى الاكتمال بضمّ الأطراف في كيان واحد قوي ومتصالح… والضمّة شكلا هي حرف (الواو)… وفي حرف (الواو) ما يوحي بالتوالي والعطف والزيادة والسعي الدائم المتتابع نحو الاكتمال… وربّما لأنّها توحي بذلك كله كانت هي دون غيرها علامة رفع الفاعل إذا كان جمعا… فالجماعات والشعوب والأمم الفاعلة ترفع ويعلو شأنها ونضم شفاهنا ونحن ننطق أسماءها مع نطقنا لحرف (الواو) الموحي البديع…
هذا حال (الرّفع) لمن أراد أن يرتفع ويعلو شأنه بالعمل والفعل وممارسة الحرية… أمّا من ارتضى لنفسه الذل وانحطاط الشأن فلا لوم على اللغة إذا نصبته وتركته نهباً لمن يريد أن (يُنصب) عليه ويستعبده… فهو بلا حول ولا قوّة… هو (مفعول به)… ينتظر الفعل عليه… يأكل ويشرب ويلبس من صنع غيره… لا يقوم بفعل يفتخر به… هو محسور، كظيم، بائس، على وجهه عبوس، وفوق الحرف الأخير منه (فتحة) هي علامة النصب… شَرطة كأنها الجرح… وإذا كان هذا حال (المفعول به) المفرد فحال الجمع أشدّ نكالا وعلامته أكثر إيحاء بحالة الاستهجان… علامته حرف الياء التي تذكرنا وتذكر من يلينا بالقول ”نعم” إذا أردنا أن نعبّر عن الخيبة الثقيلة.
وحالة (السّكون) هي الثالثة… فيها صمت يناسب الانصياع لفعل (الأمر)… علامتها دائرة مقفلة على الحرف الأخير… سيكون مطبق… كامل… مسيطر… ولا كلمة…
أمّا حالة (الجرّ) فتصعب على الكافر… المجرور منصاع، تابع لمن يجرّه ولو إلى حتفه… مسلوب الإرادة… قعيد عن الفعل… مكسور النفس والأرجل والأطراف… راقد على كَسرة عبارة عن شَرطة تشبه الزحافة… تجره على الأرض ليسف التراب…
للأسف المأسوف على شبابه، فحتى الضمائر أصبحت غائبة ومغيبة وليست مستترة، فعلاً ضمائر كثيرة غائبة منذ أكثر من نصف عقد من الزمن، أو هي في سبات أبدي. وليسمح لنا النحاة إذن بالجزم أنّ كل الضمائر لدينا هي منفصلة وليست متّصلة، مستترة… بل وأغلبها غائبة وليست مقدّرة كما ينبغي.
ويبقى أبجد هو المبتدأ وصحيح اللغة هو الخبر، هم الفاسدون والمفسدون والانتهازبون والوصوليون… هم إذن، أفعال ماضية إلى حتفها وجمل راجعة من عزائها وأفكار لن تبارح محلّها.
الجيوش الوطنية الآن تعلم من أوغل في أميته لغة، وحساباً أنهم ضمير الشعوب وهذه الأمة المعلن وضميرها المتصل بتاريخ وحاضر ومستقبل هذه الأمة وقيمها وقيمتها ولغتها وأعرافها وأخلاقها وهم الأحرف الصحيحة التي يصاغ منها النصر والفخر بأسماء وأفعال تُسقط أحرف العلّة وأشباه الرجال والأفعال وهم الرقم الصعب المستحيل الذي لا يقبل القسمة إلا على واحد ويطرح ويلفظ الكسور والفواصل ويجيب عن كل إشارات الاستفهام والتعجب بلغة الميادين وأبلغها إن الشهادة قدر والنصر قرار.
كاتب صحافي من المغرب