أكتب هذا المقال وأنا مشتغل بمهنة الصحافة ومدرك، فيما أحسب، لكل ما يحدث فيها محليا وعربيا وعالميا، وتحضرني عدة تساؤلات من قبيل: لماذا يحتفل العرب بيوم الصحافة العالمي… وكل كلماتهم المكتوبة ومقالاتهم لا تملك تأثيرا ولا كفاءة في التغيير… ومع ذلك فهم يكتبون، يملأون الصفحات ويضع الكتاب صورهم فوق مقالاتهم، وأكثرهم ليس من يقرأهم؟ لم تعد الأجيال تقرأ سوى العناوين، صارت الصحف تقرأ بالمقلوب، من الصفحة الأخيرة البدء حتى الصفحة الأولى. في اليوم العالمي للصحافة، نتذكر أن ثمة أقلاما وكتابات، لكن هنالك صورة، انتقل الثقل من الصورة على الورق، إلى تلك التي في الشاشة…
اليوم مثلا نرى حروبا عليها، نعيش مشهديات حارة في لحظتها… صارت الصحافة ناطقة في لحظتها، ولهذا تبدو مخيفة للبعض. هكذا عصر يجب أن يتزين بالحقيقة، من يملك القوة يملك تلك الميزة الأساسية… والقوة في عالمنا صارت معروفة. ومن سخرية القدر أن دولاً معروفة بحريتها الإعلامية بجانبها الإباحي والفضائحي لا بجابنها الفكري، تمارس على دول أخرى أقسى أشكال الكبت والقمع الإعلامي، بما في ذلك العمل على حجب قنوات فضائية، والمساهمة في عدم إيصال الصوت الآخر بكافة الوسائل، الأمر الذي يرسم علامات استفهام عديدة حول جدوى إقرار يوم عالمي لحرية الصحافة، في الوقت الذي لم يعد الكبت الإعلامي يُمارس ضمن الدولة الواحدة، بل أصبح سياسة عالمية ممنهجة تُمارَس تحت نفس شعار حرية الصحافة، والترجمة العملية لهذا الشعار هي حرية العمل على إقصاء كل صوت إعلامي لا يروق لنا سواء أكان أصوات أفراد أم أصوات دول. فالإعلام الأوروبي وسلبيته في التعامل مع الوقائع والأحداث في العالم العربي وخصوصاً المجازر والانتهاكات غير الإنسانية المستخدمة ضدّ الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والسوري واليمني والليبي… وازدواجية المعايير في نقل الخبر، وهذا طبعاً يأتي من كون إسرائيل تحظى بمكانة خاصّة جداً لدى الأنظمة الممسكة بزمام الإعلام الأوروبي، وحتى في عقر دارهم هم محاصرون، فيكفي مثلاً أن يأتي أحد (كائناً من كان) على ذكر اليهود بالسوء حتى يُتهم بمعاداة السامية ويُحاسب ويُحاكم ويُجرد من حقوقه المدنية.
في عصر استعمار جديد يصل إلى أهدافه عن طريق الاختراق، والادعاء بمحاولة نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بينما هو ساع لامتلاك الثروات الطبيعية وقمع وتهجير السكان الأصليين، أصبحت السيطرة على الآلة الإعلامية، وبخاصة على ما تبقى من الضمائر الحيّة التي ترفض أن يكون لها ثمن، أحد أدوات بسط هيمنة هذا الاستعمار والتغطية والتعتيم على جرائمه وجشعه. فلو كانت هناك حصانة حقيقية للمصورين والإعلاميين والمراسلين، لما استغرق العالم سنوات ليكتشف أن احتلال العراق قد بُني على كذبة كبرى، وأن الهدف الأساسي من هذا الاحتلال، هو الطمع بنفط العراق وثرواته وحضارته وتاريخه، وإلغاء دوره الهام والمتميّز في محيطه العربي، ولاكتشف العالم سريعاً حجم الوحشية والقتل والدمار الذي استخدم لتحقيق هذا الهدف، وحجم المعاناة الكارثية التي تعرّض لها شعب بريء لم يطلع العالم حتى على تفاصيل معاناته وآلامه. ولو كانت هناك حرية حقيقية لحركة الإعلام والإعلاميين في فلسطين المحتلة، لما تمكن المستوطنون من أن يعيثوا فساداً وقتلاً وإرهاباً ضد السكان الأصليين كلّ يوم، دون أن تصل أخبار جرائمهم إلى مسامع ومرأى العالم.
حاضرنا اليوم، يشير إلى ما هو أفظع من ذلك، حيث سيل الدم بلا انقطاع، والتحريض الفاجر بلا انقطاع، وحيث كثير من وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، جبهات مفتوحة، عنوانها التشهير والتحريض والاستباحة، والدعوة للقتل والإشادة بفعل الإبادة، والتفاخر بما عَظُم منه…؟! خذوا ما فعله الاستعمار، وما يفعله الاستعمار الجديد، وما يقوم به إعلامه، وأدوات بشرية تخدمه وتروج له، في إطار سياسته وإعلامه وعدوانه، ضد الشعوب والأوطان، وضد الحقيقة والإنسانية والقيمة… خذوا ما فعله الغرب وأمريكا في كثير من مناطق العالم، ومنها العراق وسوريا وليبيا واليمن…، وما فعله ويفعله إعلامها والإعلام التابع لها، والسائر في ركابها؟! لقد تمّ تركيز الغرب في العقود الأخيرة على الإعلام وإغراق القراء والمشاهدين والمستمعين بوجهات نظر تدعم التحركات التي يبغون القيام بها أو التي شرعوا في تنفيذها لتكوين رأي عام مساند لما يريدون قبل وخلال وبعد الحدث، وهم يعلمون أنهم يمتلكون من هذه الوسائل ما يصل إلى أذهان وعقول وقلوب الناس في كل مكان في هذا العالم وأنهم الوحيدون الذين يمتلكون هذه الآلية الفعّالة والمكلفة، وفي الوقت ذاته خصصوا الميزانيات السخيّة أيضاً لمراكز الأبحاث التي تروّج للفكر السياسي وللتوجهات والإستراتيجيات القائمة والمستقبلية وأحدثوا الترابط والتكامل بين هذه المراكز وبين آليات الضخّ والنشر والتوزيع الإعلامي للسيطرة على العقول والقلوب والأحكام وهي في طور التشكّل. ومن ناحية أخرى فقد مارسوا أقسى درجات العنف مع الأصوات الحيّة الجريئة فحرموها من سبل عيشها أو ضيّقوا عليها وعلى أُسرِها بطريقة ترعب من تسوّل له نفسه باتخاذ مثل هذه الخطوة في مواجهتهم.
ومن هنا نكتشف بما يشبه اليقين أننا أصبحنا نعيش في زمن الدول العميقة المتحكمة بزمام الأمور وتكديس الثروات، والبقاء في السلطة هو معيارها، أصبحنا نرى بعين اليقين، كيف يُباع من يباع، ويُشترى من يُشترى، وكيف يبيع أناسٌ أوطانا وقضايا وأناسا، ويشترون بهم، عبر وسائل إعلامية، وسياسة محمولة على أجنحتها، ممولة منها، في تبادل غريب وعجيب للنفاق… وتشمخ مكللة بغَارِ ”حرية التعبير”، وبالدفاع عنها؟! وهي محمية بحمايات فائقة القوة، منها سلاح الفساد والإفساد، لتستمر في أداء دورها. أكاد أجزم بأن كتلة الفساد والإفساد في هذا المجال لا تقل مطلقًا عنها في أي مجال آخر، لا سيما في المجال السياسي.
وبالوصول إلى الإعلام العربي المتهالك أصلاً منذ عقود، نجد أنّ المتابع والمراقب للمشهد الإعلامي العربي خلال السنوات الأخيرة يصاب بالدهشة وعدم التصديق، حيث انحدرت لغة الخطاب الإعلامي، وغابت المهنية، وأصبحت أساليب التطاول والقذف والشتم من أهم المقاييس لنجاح تلك الجبهة الإعلامية أو تلك، على الأقل من خلال المعنيين بها أو الذين تتحدث باسمهم، ولذا انتشرت الألفاظ غير الأخلاقية، وتدني مستوى اللغة الإعلامية، ودخول ما سمي بالجيوش الالكترونية، وتم تخصيص مئات الملايين من الدولارات للإنفاق على المعركة الإعلامية بين تلك الدول الشقيقة المتصارعة، سواء علي صعيد الداخل حيث الصراع، أو على مستوى الخارج حيث التدخلات التي وصلت مداها بخاصة في سوريا واليمن وليبيا… ومن هنا ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي غير المنضبطة هي الأخرى، لتضيف للمشهد الإعلامي التقليدي بعدا جديدا سيئا، ساهم في انحدار الخطاب الإعلامي العربي بشكل غير مسبوق، مع استثناءات محدودة… وللأسف فإن خطورة تدني الخطاب الإعلامي العربي، تتمثل ليس فقط في تعميق الخلافات السياسية بين الدول، ولكن المتضرر الأكبر هي الشعوب العربية والتي دخلت في مناكفات وعداوات متواصلة من خلال ذلك السيل الجارف من الرسائل والتغريدات غير الأخلاقية، ومن خلال تواصل حملات إعلامية منظمة استهدفت كل شيء، حتى أعراض الناس…
عندما تكون حال الأمم كحالنا، يتوجب إعلان معركة… نحن نصد أكبر مؤامرة في تاريخنا تستلزم إعلاما وكتابة مختلفة عن أيام الرخاء… فهل المشكلة في العقل الذي لم يستوعب بعد تلك النقلة من السلم الكامل إلى الحرب المدروسة بعناية؟ في هذا الزمن العربي المتألم والموجوع والمصاب، كثيرا ما نحتاج إلى الكلمة الرصاصة واللحن الرصاص، وكذلك الغناء المعنون بالكلمة واللحن… نحن نحرق هواء لا معنى له، فيما حاجتنا إلى الكتابة الجديدة كثيرة، وعلينا أن لا نبحث عنها لأنها متوافرة في أدبياتنا الحالية لكنها لا تستعمل طالما أن لا فهم حقيقيا لكيفية إدارة الإعلام…هي دعوة أوجهها ككاتب صحفي، دعوة لكل الصحافيين والقارئين وأصحاب القرار في وطننا العربي، أن يعوا ويدركوا قيمة بل وخطورة تأثير الكلمة المكتوبة والمسموعة والمقروءة سواء في الصحافة التقليدية أو الصحافة التكنولوجية، فالكلمة ما إن خرجت إلى السطور حتى أصبحت أحد أمرين، فإما تكون بوابة الحقيقة والمعرفة، وإما تكون سيفا في الخاصرة، كل عام وصحافتنا تتطلع لمزيد من الحرية، كل عام والأمل معقود على أقلامنا العربية لتكون مرآة الأمة، وكل عام والصحافيون بألف ألف بخير.
كاتب صحافي من المغرب.