أخبار العالم
بعد صعود فاغنر وقبلها حزب الله والدعم.. هل باتت الميليشيات أقوى من الجيوش، وأيهما يحسم المنافسة؟
وكالات:
بعد نحو عام من الهزائم أو الجمود العسكري جاء أول نصر تحققه روسيا في مدينة باخموت الأوكرانية على يد مرتزقة فاغنر وليس على يد الجيش الروسي العظيم ثاني أقوى جيش في العالم، في مؤشر على أن ظاهرة صعود الميليشيات تنتقل من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوروبا بل إلى تحديداً إلى الدولة العظمى النووية التي كان لديها في معظم القرن العشرين أكبر جيش في العالم.
وفي وقت متزامن، يدعو قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بنفس يائس المتقاعدين من الجيش لحمل السلاح والانضمام للقوات المسلحة في مواجهة ميليشيات الدعم السريع، التي تسيطر على أماكن واسعة من العاصمة، في ظل إخفاق الجيش في طردها وسط تقارير عن اختفاء رجال من الشرطة من العاصمة، في مؤشر على وضع القوات النظامية اليائس في الحرب الأهلية الدائرة حالياً بالبلاد.
صعود الميليشيات ظاهرة عربية قديمة
ومنذ عقود، تشهد منطقة الشرق الأوسط في كثير من دولها ظاهرة صعود الميليشيات، وبينما استطاع الجيش الأردني الذي استقى تقاليده من إرث الفروسية العربية والانضباط العسكري البريطاني، حسم الصراع مع ميليشيات الحركات الفلسطينية عام 1970.
ثم انتقلت ظاهرة الميليشيات بقوة للبنان، حيث كان منها الفلسطينية والمارونية والدرزية، ولكن الميليشيات الشيعية التي بدأت بأفواج المقاومة اللبنانية “أمل” ثم حزب الله هي التي بقت، وأصبحت أقوى من الجيش، وتفرض سطوتها على البلاد، وأثبت حزب الله كفاءة نادرة في مواجهة إسرائيل التي نادراً ما حاول الجيش اللبناني التصدي لتوغلاتها في البلاد، ما جعله ينازع الجيش اللبناني في أهم عوامل شرعيته حماية وتحرير الأرض.
وفي اليمن انهار الجيش النظامي أمام ميليشيات الحوثيين، تاركاً مهمة التصدي للحوثيين لخليط من الميليشيات التابعة لحزب الإصلاح الإسلامي والقبائل وبقايا الجيش، والانفصاليين الجنوبيين.
وفي العراق، هرب الجيش العراقي الذي أسسه الأمريكيون من أمام داعش، فسارعت إيران وقادة العراق الشيعية الدينيون والسياسيون لتأسيس ميليشيات الحشد الشعبي لمنع داعش من الوصول للعاصمة بغداد، وساهم الحشد مع قوات الجيش والشرطة العراقيين التي تمت إعادة تدريبها على يد الإيرانيين والأمريكيين، في هزيمة داعش، ولكن الحشد أصبح فوق الدولة.
وفي سوريا، هزمت ميليشيات المعارضة رغم تشرذمها قوات جيش نظام الأسد، الذي استعان بدوره بالميليشيات الشيعية الموالية لإيران القادمة من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان لتستطيع مدعومة بالطيران الحربي الروسي القضاء على الثورة السورية.
وفي السودان، أخفق الجيش السوداني في هزيمة تمرّد الحركات الدارفورية المنبثقة من القبائل الإفريقية المسلمة بالإقليم، فلجأ للقبائل العربية ليؤسس ميليشيات الجنجويد المتهمة بارتكاب فظائع بحق القبائل الإفريقية، والتي سرعان ما تحولت لميليشيات تابعة للدول رسمياً تحت قوات الدعم السريع التي حمت العاصمة السودانية، من هجوم مفاجئ للمتمردين على أم درمان عام 2008، ثم قضت تقريباً على التمرد في إقليم دارفور الشاسع، ليطلق الرئيس السوداني السابق على قائدها محمد حمدان دقلو لقب “حميدتي”، وتحول الرجل لمورّد للمرتزقة لليبيا واليمن وحتى جنوب السودان وإفريقيا الوسطى.
في أفغانستان، استسلم الجيش الأفغاني الذي أنفق عليه الغرب عشرات المليارات من الدولارات، أمام طالبان فور بدء الانسحاب الأمريكي، من البلاد وقبل حتى أن يستكمل، ولم تقاتل حتى القوات الخاصة الأفغانية التي دربها الأمريكيون وطالما تغنوا بمهاراتهم وشجاعتهم.
كان مفهوماً أن يصعد دور الميليشيات في بعض بلدان الشرق الأوسط، خاصة أن أغلب البلدان التي شهدت هذه الظاهرة هي بلدان جيوشها وسلطاتها المركزية ضعيفة، وكثير منها بلاد فقيرة ووعرة التضاريس ومتنوعة الطوائف، كما أن منها من شهد غزواً خارجياً، دمر جيش البلاد الوطني مثل العراق، أو ثورة أفقدت الجيش شرعيته مثل سوريا.
ولكن المفاجأة أن ظاهرة الميليشيات انتقلت إلى روسيا الدولة العظمى والبلد المشهور بسلطته المركزية الصارمة وجيوشه الضخمة المدججة بالسلاح، والتي كان لديها في معظم القرن العشرين أكبر جيش في العالم من حيث العدد.
وقبل ذلك لجأ الأمريكيون لشركات المرتزقة، مثل بلاك ووتر، للقيام بالمهام الصعبة والقذرة في العراق وأفغانستان.
فهل نحن أمام عصر صعود الميليشيات؟ وهل أصبحت الميليشيات أكثر كفاءة من الجيوش النظامية؟ وهل الأجيال الجديدة من الأسلحة تعمل لصالحها؟
قبل صعود فاغنر، فإن ظاهرة الدعم السريع تحتاج إلى عناية خاصة؛ لأن الجيش السوداني رغم ضعفه، وفقر البلاد، كان دوماً جيشاً محترفاً وصلباً خاض حروباً كبيرة في الداخل السوداني واعتمد على العسكرية المحترفة (أفراده موظفون برواتب، وليسوا مجندين تجنيداً إلزامياً).
ولذا كان لجوء هذا الجيش للدعم السريع ومن قبلها الجنجويد مؤشراً مبكّراً على صعود ظاهرة الميليشيات وإنذاراً بمأزق الجيوش المبكر، في مواجهة المرونة والوحشية التي تتسم بها الميليشيات.
الميليشيات.. من التطوع الأيديولوجي للبحث عن المال.. الفوارق ليست كبيرة
يمكن تقسيم الميليشيات إلى نوعين: النوع الأول هو الميليشيات التي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي مثل حزب الله وحماس، والميليشيات التي يغلب عليها الطابع المرتزق، مثل الدعم السريع وفاغنر.
ولكن يجب مراعاة أنه ليس هناك حدود فاصلة بين النوعين، فحتى أكثر الميليشيات أدلجة يحتاج أعضاؤها لدوافع مالية للقتال، كما أن شركات المرتزقة مثل فاغنر وبلاك ووتر والدعم السريع تحتاج لكي تحافظ على حماس رجالها، إلى أيديولوجية ما (حتى لو مصطنعة)، فنجد فاغنر تتبنى الخطاب القومي الروسي، وبلاك وتر خطاب التفوق الأمريكي الأبيض، والدعم السريع خطاب الدفاع عن القبائل العربية في السودان أو خطاب المهمشين في السودان.
ولكن المشترك في هذه الظواهر أن هذه الميليشيات بقت وتوسّعت، وتفوقت في كثير من الأحيان على الجيوش في القتال، وانتهى بها الأمر في بعض الأحوال لمحاربتها.
بل إن قوى غير نظامية مثل حزب الله وحماس والجهاد أظهرت تفوقاً في بعض الأحيان أمام واحد من أكفأ الجيوش في المنطقة والعالم، وهو الجيش الإسرائيلي (الذي بدأ للمفارقة كميليشيات).
كما واجهت داعش العديد من جيوش المنطقة في وقت واحد، ومثلت مشكلة للعديد منها في بعض الأوقات مثل الجيش التركي في شمال سوريا والعراق، والجيش المصري في سيناء.
ولكن في حالة ميليشيات فاغنر التي تأسست كشركة خاصة للمرتزقة من قدامى العسكريين الروس لخدمة أهداف موسكو الخارجية، ثم توسّعت في أوكرانيا عبر تجنيد المجرمين، فإن الحكومة الروسية هي نفسها التي استعانت بالميليشيات، ورغم هجوم قائدها يفغيني بريغوجين، المتكرر على قادة الجيش الروسي ووزير الدفاع سيرغي لافروف، فإنها أصبحت بمثابة القوة الضاربة الروسية.
وحتى قبل ظهور فاغنر بقوة في المشهد كان أداء الميليشيات الانفصالية في إقليم الدونباس جيداً ويبدو أفضل من الجيش الروسي النظامي، وكذلك لجأ الروس للقوات الشيشانية ذات الطابع الميليشياتي، كما أن هناك تقارير عن أداء جيد للحرس الوطني الأوكراني الذي يبدو أقرب لقوة شبه عسكرية.
وتشير تقديرات مسؤولي الولايات المتحدة إلى أن مجموعة فاغنر لديها حوالي 50 ألف جندي يقاتلون في أوكرانيا.
بحسب المسؤولين الأمريكيين، تعرَّض أكثر من 30 ألفاً من مقاتلي فاغنر، الذين يشار إليهم بأنهم الجيش الخاص الفعلي لبوتين، إما للقتل أو الجروح منذ بداية غزو أوكرانيا، وفق “بيزنس إنسايدر”.
ووجّه بريغوجين في الماضي اتهامات إلى القادة العسكريين الروس، بمن فيهم شويغو، بسبب فشلهم في دعم قواته. وفُسرت بعضٌ من تصريحاته على أنها انتقاد مباشر لبوتين نفسه، ما أثار تساؤلات تشكك في ولائه.
فلماذا أظهرت الميليشيات هذا التفوق على الجيوش النظامية؟ وهل تكون منافساً أو بديلاً لها أم نحن أمام ظاهرة مؤقتة؟
سر تفوق الميليشيات في القتال
تتسم الجيوش بعوامل قوة كثيرة أبرزها الانضباط والتراتبية الصارمة وطاعة الجنود للضباط، ونظم إدارية واضحة، وتدريب مكثف، وقادتها وضباطها يخضعون لسنوات طويلة من الدراسة، ويتلقون تدريبات نظرية على الأسلحة.
وهذه العوامل نفسها قد تكون عيوباً في الجيوش هي تجعلها بيروقراطية وغير مرنة أو مبتكرة، وأحياناً ما تتحول الجندية لنوع من الوظيفة، بينما أعضاء الميليشيات لديهم عادة روابط داخلية وتعلق بقيادتهم وشغف بالقتال الذين يتعاملون معه كأنه خناقة شوارع، ويجعلهم هذا أقرب لارتكاب الانتهاكات من الجيوش بطبيعة الحال.
في الجيوش عادةً فإن إطلاق الرصاص وغيره الذخائر خاصة أوقات السلم مسألة معقدة، فالذخيرة عهدة مالية، وأي فقدان لها دون سبب مبرر يعد جريمة تبديد أموال.
أما في الميليشيات، فإطلاق النار في الهواء والعبث بالسلاح جزء من العادات اليومية، يبدو هذا كنوع من التدريب الذي يزيل هيبة السلاح بل يخلق علاقة فوضية ولكن حميمة بين المقاتل والسلاح.
في المقابل، بسبب النظم الصارمة والبيروقراطية والتركيز على الشكلية، فإن بعض مجندي جيوش الشرق الأوسط قد يقضي فترة تجنيده لمدة عام أو عامين بدون أن يطلق ناراً من سلاح إلا مرة أو اثنتين في تدريب روتيني غير مُجدٍ، ولكنه نظرياً يحتسب هذا الجندي على أنه قادر على حمل السلاح.
كما تميل الدول مثلما يبدو واضحاً مع روسيا أيضاً لعدم القلق من الغضب الشعبي من تعرّض أعضاء الميليشيات للقتل خلال المعارك، عكس الجنود النظاميين الذين تخشى حتى دولة مستبدة مثل روسيا من ردة فعل أسرهم.
تبدو الدولة مسؤولة أمام أسر ضباط الجيوش والمجندين خاصة الذين جلبوا وفقاً للتجنيد الإجباري، بينما أعضاء الميليشيات متطوعون باحثون عن المال أو المغامرة أو الأيديولوجيا، ألقوا بأنفسهم للتهلكة بإرادتهم، وبالتالي يتحملون أكثر مسؤولية حياتهم، وفي كثير من الأحيان ليس لديهم من يقلق على حياتهم، فهم في الأغلب مغامرون مطرودون من مجتمعاتهم، أو أن محيطهم معجب بالمغامرات التي يخوضونها.
يعتمد الجيش على التجنيد من المتوسط العام للدولة بمن في ذلك الطبقة الوسطى، والمجتمعات الحديثة بات تنحو بعيداً عن الطابع الخشن القريب للحياة العسكرية.
بينما يتم تجنيد أعضاء الميليشيات من هوامش المجتمع التي تعيش حياتها العادية في أوضاع أشبه بالحرب اليومية.
فمن المتوقع أن يكون المجرم الذي قضى عمره في سجون روسيا القاسية أشرس من المبرمج الروسي الذي يجيد الإنجليزية ويقضي معظم عمره على الإنترنت في حوار مع أقرانه بالغرب وحلم حياته الهجرة إلى ألمانيا.
تتسم الجيوش بأن أفرادها يمثلون عينة طبيعية من أفراد المجتمع الواسع، بينما الميليشيات يجندون من فئات معينة، مثل طبقات بعينها أو إثنية أو إقليم بعينه (مثل الشيعة في حالات حزب الله والحشد، وعرب دارفور في حالة الدعم السريع)، وكثير منها فئات مهمشة وفقيرة.
يقوي هذا الروابط بين أعضاء الميليشيات، مقارنة بالجيش العادي، وخاصة إذا أضيف طابع حركي وأيديولوجي قوي للميليشيات، وفي هذا الصدد سبق أن أجرى الباحثون الأمريكيون دراسات حول أسباب صمود المقاتلين الأكراد والمنتمين لداعش الاستثنائي في القتال، حيث لاحظوا أن أي وحدة عسكرية عادة تنهار إذا فقدت نحو ثلث قوتها، ولكن الأمر لم يحدث مع داعش والأكراد (خاصة أكراد سوريا).
تبين لهم أن المقاتل إذا شعر بالانتماء لوِحدته أكثر من انتمائه لأسرته، فإنه هذا يعني صموداً أكثر في القتال، بينما يريد الجندي العودة لأسرته، فإن الوِحدة بالنسبة لكثير من مقاتلي الميليشيات هي الأسرة.
تواجه الجيوش دوماً خطر أن تتحول الجندية لمجرد وظيفة، بينما الميليشيا تميل إلى أن تصبح أسرة المقاتل، حتى ولو كان مرتزقاً، ويتحول القتال إلى هواية، بل أحياناً إلى إدمان خطير.
هل تعمل الأجيال الجديدة من الأسلحة في صالح الميليشيات؟
كما يبدو أن أنماط الحرب والأسلحة الحديثة تعمل في صالح حروب الميليشيات؛ حيث حدثت طفرة في الأسلحة الخفيفة المضادة للطائرات والدبابات.
قبل حرب أوكرانيا بسنوات، نجح بضع مئات من مقاتلي حزب الله في حرب لبنان عام 2006، باستخدام صواريخ كورنيت، الروسية الصنع، في إلحاق خسائر كبيرة بدبابات ميركافا الإسرائيلية، الأكفاً حتى من الدبابات الروسية.
اختبأ مقاتلو حزب الله في الكهوف وخلف الأشجار والمباني؛ حيث أخذوا يضربون الدبابات الإسرائيلية من الأجناب حيث نقاط ضعفها، متسببين في وضع حرج للجيش الإسرائيلي، قال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بعد نهاية الحرب، إن بعض القيادات في الحرب كانوا متحفظين على وقف إطار النار؛ لأنهم رأوا أن استمرار القتال كان يمكن أن يلحق خسائر فادحة بالقوة المدرعة الإسرائيلية.
حرب أوكرانيا أثبتت أزمة الجيوش التقليدية، حارب الجيش الأوكراني بطرق وأسلحة الميليشيات، انتظر دخول الجيش الروسي الكبير لأوكرانيا في طريقه لإسقاط العاصمة كييف.
لكن أمطر الجنود الأوكرانيون من جنبات الطرق ومن خلف الأشجار الجيشَ الروسي بآلاف الصواريخ المضادة للدبابات، بينما الطابور الروسي العملاق عالق في الطريق.
كما استخدم الأوكرانيون بكثافة الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، مثل ستينغر الأمريكي، وهي أداة يمكن أن تلجأ إليها الميليشيات في كل العالم.
الخطير بالنسبة للجيوش أن الميلشيات حتى الآن أثبتت مرونتها، قوات الدعم السريع التي تعودت على حرب الصحراء والسافانا الواسعة، والتي تتحرك فيها بسرعة بواسطة عربات تويوتا ذات الدفع الرباعي، غيرت أسلوبها في العاصمة الخرطوم، فتحصنت في المقرات الحكومية وبيوت المدنيين بعد أن طردتهم.
أسلحة الميليشيات رخيصة التكلفة، فسعر سيارة دفع رباعي من تويوتا حالياً يدور حول 40 ألف دولار، بينما تصل تكلفة الدبابة الواحدة إلى بضعة ملايين من الدولارات، وعربات المشاة القتالية المجنزرة التي تشبه الدبابات، ولكن قادرة على حمل جنود أكثر ومدفع أصغر يمكن أن تدور حول مليون دولار، العربات المدرعة المدولبة يمكن أن يدور سعرها حول بضع مئات من الآلاف من الدولارات.
المرونة في التمويل والتموين، فهي تلجأ ببساطة إلى النهب
لدى الميليشيات مرونة لافتة وخطيرة في عملية الحصول على الإمدادات والتموين والتمويل، كما ظهر من تجارب الدعم السريع، والحشد، وفاغنر.
ببساطة تنهب الميليشيات محيطها حين تحتاج للإمدادات، كما أنها تستطيع الحصول على التمويل المالي بأدوات تشمل المشاركة في أنشطة التهريب وتجارة المخدرات مثلما تفعل الميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق ولبنان، أو السيطرة على أثمن الموارد مثل الذهب، كما تفعل الدعم السريع، وفاغنر التي قيل إن أحد دوافع قتالها في أوكرانيا السيطرة على الموارد الطبيعية في شرق هذا البلد.
إذا اجتمعت للميليشيات الموارد المالية والدوافع الأيديولوجية وأصبح لديها انضباط مماثل أو أعلى من الجيوش، فإنها هذا يجعلها قوية للغاية، تحقق هذا لحد كبير لدى داعش وحزب الله وحماس، بينما ما زالت الميليشيات الشيعية الأخرى تفتقد انضباط حزب الله.
هل تقضي الميليشيات على الجيوش؟
ولكن هل يعني هذا انتصار الميليشيات على الجيوش، أو أنها قد تستبدلها؟
بالفعل انتصرت الميليشيات أو تفوقت على الجيوش في سوريا، والعراق واليمن ولبنان، وأصبحت أقوى، بل الجيوش خاضعة للميليشيات وأحزابها في بعض هذه البلدان، والصراع سجال في السودان، وفي أوكرانيا التنافس بين الجيش الروسي وفاغنر، فج للغاية ومثير للدهشة أن يدور في بلد مركزي ومستبد وقوي ومتحضر مثل روسيا.
ولكن تفوق الميليشيات لا يعني قدرتها على استبدال الجيوش.
تظل الميليشيات حتى لو حققت في فترات قبولاً أو إعجاباً اجتماعياً، ظاهرة شاذة في المجتمعات، إنها تفتقد لمسألة مهمة للغاية هي الشرعية وقدرتها على ادعاء أنها تمثل مجمل المجتمع أو الدولة.
الجيوش هي الانعكاس العسكري للمجتمعات، بينما الميليشيات نتوء غريب، يمثل قطاعاً من المجتمع، ويمثل انتصارها انتصاراً لهذا القطاع فقط، حتى لو احتفل به للوهلة الأولى كل المجتمع مثلما احتفل اللبنانيون جميعاً بانتصارات حزب الله على إسرائيل قبل أن يفاجأوا بنزول أعضائه بأسلحتهم في شوارع بيروت فيما عرف بأحداث 7 أيار/مايو 2008 التي هاجموا فيها خصومهم السنَّة والدروز.
حتى في العراق ذي الأغلبية الشيعية، فإن هناك غضباً ظهر حتى بين أوساط الشيعة ضد الحشد الشعبي، رغم انتصاراته التي لا تنكر ضد داعش، وظهر ذلك في احتجاجات 2019، التي قام بها بالأساس شباب شيعي ينتمي لأوساط اجتماعية قريبة للأوساط التي خرج منها الحشد الشعبي، وظهر هذا الغضب في نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أظهرت تراجعاً لافتاً للأحزاب الشيعية السياسية الممثلة للحشد.
في المنافسة بين الجيوش والميليشيات قد تتفوق الأخيرة في الميدان، ولكن ليس في منافسة القلوب والشرعية، فحتى جيش طائفي مهلهل في تركيبته، وانتهاكاته أسوأ من الميليشيات مثل جيش النظام السوري يستطيع أن يدعي شرعية الجيش.
لكن الميليشيات تفتقد لهذه الشرعية، وهي بالتالي إما أن تقبل أن تكون خاضعة لسيطرة الجيش، وإما أن تدخل في منافسة على السيطرة، فقد يكون لديها اليد العليا مثلما الحال في العراق ولبنان وسوريا واليمن عبر مساعدة ذراع سياسي، ولكن لا تستطيع أن تقضي على الجيش (قد يكون اليمن استثناء).
فالميليشيات لا تمتلك الموارد ولا الشرعية الاجتماعية لأن تكون بديلاً للجيوش، مثلما يبدو في السودان، ومثلما اعترف بنفسه زعيم فاغنر، حين رد على الاتهامات الموجهة له بمحاولة التمرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن جيشه من مقاتلي فاغنر ليس كبيراً بما يكفي كي يبدأ تمرداً، حسبما ورد في تقرير لمعهد دراسة الحرب (ISW) في العاصمة الأمريكية واشنطن.
كما أن فوضوية الميليشيات تظل خطراً يطاردها كما يظهر في الحالة العراقية؛ حيث ينقسم الحشد لعشرات الفصائل المتنافسة، إضافة لميليشيات الصدر والبيشمركة الكردية.
على الجانب الآخر، فإن مراهنة الأنظمة على استخدام الميليشيات لصالح أهداف الدولة، على أن تبقى تحت سيطرتها، هو خيار محفوف بالمخاطر، فلقد تصعد قوة الميليشيات وتلعب لصالح نفسها، كما حدث مع الدعم السريع.
كما أن الاستقطاب بين الجيش والميليشيات الذي يبدو أن بوتين يراهن عليه خطير على معنويات الجيوش والرأي العام، كما قد ينعكس التنافس على الميدان، مثلما اشتكى مراراً قائد فاغنر، حيث يبدو أن الجيش الروسي يريد هزيمة شركة المرتزقة أمام العدو الأوكراني.
النموذج الإيراني
هناك النموذج الإيراني الذي حول الميليشيات الأيديولوجية إلى قوة نظامية تجمع بين الانضباط والتراتبية، مثل الحرس الثوري وميليشيات الباسيج، مع الأيديولوجيا وأن يكون لها اليد العليا على الجيش، بل السيطرة الفعلية على أجهزة الدولة.
بحيث تصبح الميليشيات هي الدولة العميقة ذاتها.
ولكن هذا الخيار قد يؤدي لإضعاف الجيش معنوياً، وقد يهدد بوقوع نزاع بين الطرفين عند أي أزمة.
فلو حدثت ثورة شعبية كبرى في إيران يتوقع أن ينحاز الحرس الثوري للنظام (لأنه قلب النظام في حقيقة الأمر)، ولكن قد يقف الجيش مع الشعب، ما يهدد بحرب أهلية حقيقية (دوماً قوات الشرطة والجيش في إيران لا تشارك في عمليات قمع الاحتجاجات).
صعود الميليشيات لا يعني نهاية الجيوش؛ بل نحن أمام مرحلة تذكر بالعصور الوسطى والعصور الحديثة المبكرة، حيث نرى حالة من التنافس بين الميليشيات والجيوش، وقد يكون حسم المنافسة مرتبطاً بظروف كل دولة أكثر منه حالة عامة.