بقلم: هشام المغربي
عثرتُ بالصدفة على كتاب يُعد من الكتب النادرة، بل أعده ثروة أدبية يجب الحفاظ عليها أو إعادة طبعها إن أمكن ذلك، رغم صعوبة أو ربما استحالة هذا الأمر وذلك لوفاة كل من اشتركوا في كتابته ومن قاموا بنشره طباعته، كما سأوضح في السطور الآتية.
الكتاب بعنوان الديمقراطية ( تاريخها – تطورها- أثرها في مختلف نواحي الحياة )
هو عبارة عن عدة محاضرات قد ألقاها الأساتذة والعلماء الآتي ذكرهم تلبية لدعوة من الجامعة الأمريكية في القاهرة تم جمعها ونشرها تباعاً أولاً في مجلة المقتطف ثم قامت المجلة مشكورة بطبعها في الكتاب الذي أتناوله الآن.
مجلة المقتطف مجلة شهرية علمية صدرت أولاً في بيروت ثم القاهرة بعد ذلك، كان يملكها ويرأس تحريرها الصحفي اللبناني الأستاذ يعقوب صروف حتى وفاته عام 1927 ثم تولى ابن أخيه الدكتور فؤاد صروف الكاتب اللبناني مسؤولية المجلة منذ ذلك العام حتى ترك القاهرة وعاد إلى بيروت عام 1952.
وقد شغل منصب رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت وعضواً في اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو ثم رئيساً لمجلسها التنفيذي بين عامي 1972 و1974 .
طبع الكتاب عام 1945 وكتب مقدمتة السيد / وندل كليلاند مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في ذلك الوقت، وعضو هيئة التدريس بالجامعة حيث كان يدرس علم النفس الذي كتب في بداية مقدمته هذه العبارات :
“يغبطنا أن يظهر الكتاب وقد فازت قوى الديمقراطية على قوى الديكتاتورية الغاشمة، وبدأ ورثة الحرية الديمقراطية يتنفسون مرة أخرى نسيم الحرية”.
الكتاب كما أوضحت مجموعة محاضرات ألقاها قادة الفكر والأدب في القرن الماضي وهم كما جاء ترتيبهم في الكتاب على النحو الآتي:
• د. محمد عبد الله العربي بك مدير كلية البوليس الملكية.
• د. أمير بقطر عميد الجامعة الأمريكية بالقاهرة
• الأستاذ عزيز ميرهم أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي المصري
• الأستاذ الدكتور فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف
• الدكتور منصور فهمي بك مدير دار الكتب الملكية المصرية
• حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور طه حسين بك عميد جامعة فاروق الأول
• الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الأستاذ الجامعي وعضو مجلس الشيوخ.
سأكتفي في هذا المقال الموجز أن أعرض عناوين المحاضرات لكل واحد من هؤلاء المفكرين وبعد ذلك سوف أعرض أكثر ما لفتني في بعض ما جاء بأحد هذه المحاضرات وهي محاضرة العميد د. طه حسين.
• محاضرة الدكتور محمد عبد الله العربي ( بك ) بعنوان معنى الديمقراطية.
• محاضرة الدكتور أمير بقطر بعنوان سيكولوجية الديمقراطية.
• محاضرة الأستاذ عزيز ميرهم بعنوان أثر الديمقراطية في الحياة الاقتصادية.
• محاضرة الدكتور فؤاد صروف بعنوان العلم بين الديكتاتورية والديمقراطية.
• محاضرة الدكتور منصور فهمي ( بك ) بعنوان الديمقراطية وتكوين الأخلاق.
• محاضرة الدكتور طه حسين ( بك ) بعنوان الديمقراطية والحياة الاجتماعية.
• محاضرة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بعنوان الديمقراطية والحياة الدينية.
وكما قرأت أن المحاضرات كلها تتحدث عن قيم الديمقراطية بداية من معناها وأثرها في المجتمعات حتى دورها في الحياة الاجتماعية والحياة الدينية بل دورها في تكوين الأخلاق وفي العلم والاقتصاد لندرك كيف كانت مصر منذ ما يقرب من مائة عام! تدعو أعلام الفكر والأدب للحديث عن الديمقراطية دون حرج أو خوف، ينعمون بنسائم حرية الحديث في أجواء ديموقراطية عليلة.
كان من السادة حاضري هذه المحاضرات معالي وزير الشؤون الاجتماعية ممثلاً للسلطة التنفيذية الذي خصه الدكتور طه حسين بما يلي:
“لست أدري ُأعبر عن غبطتي بتشريف معالي وزير الشؤون الاجتماعية هذا الحديث أم عن إشفاقي من حضور ممثل السلطة التنفيذية لهذه المحاضرات، فمهما يكن المتحدث حسن النية ومهما يكن راغباً في الخير متجنباً للشر، فهذا الحديث معرض دائماً لنقد أعمال السلطة التنفيذية في كثير من الأشياء، ومعالي وزير الشؤون الاجتماعية يسمع النقد في كل يوم متى ذهب إلى مجلس النواب أو مجلس الشيوخ وكنت أتمنى أن يكون محضره بعيداَ عن استماع النقد لوزارته أو لتصرفات الدولة حكومة وبرلماناً، ولكنه تفضل فقبل أن يحضر هذا الاجتماع”.
أكمل العميد محاضرته القيمة بشرح معنى الديمقراطية وتاريخها وأمثلة على تطبيقاتها في اليونان وروما القديمتان وعلى تطور الديمقراطية عبر العصور، وأن مطالب الشعوب هي في الأغلب تأتي عبر رُقيها، كلما ارتقى الشعب ازدادت حاجته وازدادت مطالبه، وإذا وجدتم شعباً لا ينقد حكومته ولا يلومها ولا يؤنبها لأنها مقصرة في هذه الناحية أو تلك، فثقوا بأن هذا الشعب لايزال خامداً بعيداً عن الحياة وعن الرقي, وثقوا بأن هذا الشعب في حاجة إلى من يوقظه من نومه العميق.
ثم تناول معنى الخُلق الديمقراطي الذي هو الشرط الأساسي للديمقراطية الصحيحة، فالخلق الديمقراطي لم يوجد بعد، وليس أدل على هذا من هذه الأيام التي نعيش فيها والتي نشعر فيها في كل لحظة بأن من المصريين قوماً ينعمون إلى أقصى غايات النعيم، وقوماً آخرين يشقون إلى أقصى غايات الشقاء، وأولئك يعيشون مع شقائهم حتى ينتهي بهم إلى الموت، وهؤلاء يعيشون مع نعيمهم حتى ينتهي بهم إلى الموت أيضاً، وتتحقق المساواة في الموت مادامت لم تستطع أن تتحقق في الحياة.
ثم تطرق إلى معنى العناية بالشعب التي تقدمها الديمقراطية الصحيحة، حيث قال قد اختصر أحد وزراء فرنسا (بلوم) معنى العناية بأن تكفل الديمقراطية للشعب ثلاثة أشياء: الحرية والقوت والأمن.
( يقصد العميد د. طه حسين ليون بلوم السياسي الفرنسي الذي تولى رئاسة الوزارة الفرنسية مرتين)
ثم أنهى محاضرته البليغة بأن قال: ليس أمامنا إلا أن نطالب وأن نلح في المطالبة أن تُتخذ الوسائل، وتُسلك السبل التي تضمن للمصريين حريتهم، وقوت يومهم، وأمنهم، وإلى أن يمكن للمصريين من أن يفكروا في أن الحياة ليست شقاء فحسب، ولكن الحياة يمكن أن تكون مصدراً للنعيم، ومصدراً للابتسام.
وجدت أن محاضرة العميد وكأنه كتبها اليوم وكأن ما يقرب من مائة عام لم تمر وكأن الزمن توقف بعده.
وليست محاضرات السادة الأجلاء الآخرين أقل روعة وإفادة وثراء، من محاضرة العميد، ربما استطعت أن أعرض كل ما قيل في تلك المحاضرات يوماً، علنا نستلهم منها ما نحن في حاجة إليه من علمهم الغزير وثقافاتهم الواسعة لتكون نبراساً لطريقنا الطويل، ودرساً للأجيال الجديدة لتعرف من ماضينا من يفيد حاضرنا ومستقبلنا.