مقالات
عندما رفضت إمرأة سوداء الرضوخ للأمر الواقع – أمنيه ابراهيم مرسي ,ولاية تينيسي الولايات المتحدة
9/2/2020
روزا باركس: المرأة السوداء التي أجبرت أمريكا على التخلي عن قوانينها* العنصرية
كيف رافقت الشرطة طفلة سوداء الى المدرسة لاصرارها على التعليم*
احتفلت امريكا في يناير الماضي بذكرى ميلاد داعية الحقوق المدنية الأسود “مارتن لوثر كينج” كما يعتبر شهر فبراير من كل عام هو شهر الاحتفاء رسميًا بتاريخ السود في الولايات المتحدة وتسليط الضوء على الإسهامات التي قاموا بها من أجل بناء هذا البلد سواء خلال القرون التي قضوها في العبودية المجحفة أو بعد تحررهم منها. جميعنا يعلم أنه إذا ذُكرت الحرية والديمقراطية والمساواة، ذكرت أمريكا كما أن الرمز العالمي للحرية هو تمثال الحرية الموجود بجزيرة الحرية الواقعة في خليج نيويورك. ورغم ذلك لم يكن أبداً الطريق سهلاً حتى تصبح أمريكا هي الأيقونة العالمية للحرية والديمقراطية بل هناك تاريخ ملطخ بالعبودية والدم والحرب الأهلية وكثير من النضال والكفاح لمجموعة من البشر كانت كل مطالبهم هي حياة قوامها المساواة وبلا أي قيود أو تمييز عنصري للون أو جنس أو دين.
ووسط كل هذا الزحام كانت هناك علامات مضيئة على مر التاريخ ليس فقط لرجال أمثال مارتن لوثر كينج بل لسيدات صنعن فارقًا في تاريخ العبيد في أمريكا أيضًا من حيث المقاومة ورفض الأمر الواقع والخروج عن المألوف والتمرد على أوضاع أقل ما يقال أنها تفتقد الإنسانية.
حرر إبراهام لينكولن العبيد في امريكا عام 1862وهذه كانت الخطوة الأولى لاتجاه أمريكا صوب الديمقراطية والحرية ولكن بالرغم من تحرير العبيد وقتها لم يتحرر المجتمع الامريكي من التمييز العنصري فكان هناك مدارس للبيض وأخرى للسود ومساكن للبيض وأخرى للسود ومطاعم للبيض وأخرى للسود حتى إن بعض المطاعم كانت تعلق لافتات تقول “ممنوع دخول الكلاب والرجال السود” وهكذا كان الحال في جميع مظاهر الحياة في أمريكا. وضع سخيف جداً ولكنه استمر لسنوات عديدة، تم فيها استخدام كل أنواع العنصرية والتمييز بشكل صارخ. وكان أحد مظاهر هذه العنصرية قانون “جيم كرو” الذي ينص على الفصل بين السود والبيض، وكان هذا القانون ينص على أن يتخلى الرجل الأسود عن مقعده في الحافلات للرجل الأبيض، حتى لو كان الجالس عجوزاً والواقف شابًا أو الجالسة امرأة والواقف رجلًا. وفي شتاء ديسمبر عام 1955 كانت “روزا باركس” الأمريكية ذات الأصول الأفريقية والبشرة السوداء عائدة من يوم عمل طويل وشاق في مدينة مونتجمري بولاية ألاباما، ووقفت في انتظار الحافلة حتى تعود إلى منزلها ثم ركبت ووجدت مقعدًا شاغراً وجلست عليه، وفي المحطة التالية صعد الركاب وامتلأت الحافلة وجاء رجل أبيض ووقف بجوار “روزا” ونظر إليها كي تتخلى عن مقعدها له ولكن “روزا” أشاحت بوجهها وظلت عيناها مُعلقة بالطريق خارج النافذة. غضب الرجل الأبيض وثار ثورة عارمة سانده فيها باقي الركاب وسائق الحافلة، أصرت “روزا” على موقفها مما أضطر سائق الحافلة إلى تصعيد الموقف للشرطة. والمثير للإعجاب أن “روزا” لم تكن في هذا الموقف بمفردها بل كان معها ثلاثة رجال آخرين تخلوا بسهولة شديدة عن مقاعدهم لرجال بيض، ولكن هي الوحيدة من ضمن أربع ركاب التي رفضت التخلي عن مقعدها، فقامت بعمل رجولي شجاع لم يجرؤ ثلاثة ذكور على فعله. وبناءاً على القانون تم تغريم “روزا” 15 دولارًا. وكان هذا الموقف بمثابة الشرارة التي أشعلت المظاهرات التي انطلقت في جميع شوارع أمريكا ثار فيها السود وطالبوا فيها بالمساواة وإلغاء العنصرية، وقاطعوا المواصلات العامة تعبيراً عن رفضهم لهذه العنصرية، واستمرت هذه المظاهرات أكثر من عام حتى صدر قرار المحكمة الذي نصر “روزا باركس” وألغى الكثير من الأعرف والقوانين المجحفة بحق السود، وأصبح من حق السود الجلوس في مكان واحد مع البيض وحصلوا على نفس الحقوق التي يتمتع بها البيض في جميع القوانين. وفي لقاء لاحق مع “روزا” قالت أن البعض اعتقد أنني لم أتخلى عن مقعدي لأنني كنت متعبة جسديًا بعد يوم عمل طويل ولكن الحقيقة أن التعب الوحيد الذي كنت أشعر به وقتها هو التعب من الخنوع.
وفي 2001 وبعد حوالي 46 عامًا من هذه الواقعة قام متحف “هنري فورد” الموجود بمدينة “ديربون” بولاية ميتشجن بشراء الحافلة التي حدثت فيها واقعة “روزا باركس” بمبلغ 492 ألف دولار وعرضها تخليدًا لشجاعة امراءة بدأت حركة الحقوق المدنية في أمريكا. توفيت روزا في أكتوبر 2005 عن عمر يناهز 92 عامًا بعد أن حصلت على الوسام الرئاسي للحرية سنة 1996، والوسام الذهبي للكونجرس سنة 1999 والذي يعد أعلى تكريم مدني في أمريكا، كما أقيمت لها مراسم دفن رسمية تناقلتها الفضائيات العالمية وشيعتها آلاف الجماهير وتم تنكيس علم أمريكا يومها.
نقطة مضيئة أخرى على الطريق “روبي بريدجز” طفلة صغيرة عمرها ست سنوات، واحدة من بين ستة أطفال من أصول أفريقية كانوا قد اجتازوا الاختبار الذي أهلهم للقبول في مدرسة “ويليام فرانتز الابتدائية” في مدينة “نيو اورلينز” بولاية “لويزيانا” عام 1960والتي كانت مخصصة فقط للأطفال البيض. ورغم أن القانون أصبح ينص على إمكانية التحاق السود بمدارس البيض إلا أن هذا القانون كان غير مفعّل، لذا قرار التحاق روبي بهذه المدرسة كان قراراً جريئاً حيث فضّل باقي الأطفال البقاء في مدارسهم الخاصة بالسود فقط.
والحقيقة أن وراء هذه الشجاعة كانت أم روبي لأن الأب كان معترضًا من منطلق الخوف على ابنته، ولكنه رضخ في النهاية لرغبة زوجته وابنته. ونظراً لحساسية الموقف رفضت شرطة الولاية اصطحاب روبي إلى المدرسة، مما اضطر الشرطة الفيدرالية إلى تولي مهمة اصطحاب روبي في أول يوم لها في المدرسة ولكن رد فعل أولياء الأمور وحتى المدرسين كان عنيفًا جداً حيث تم الاعتداء على روبي باللفظ والبصق عليها، ووصل الأمر إلى التهديد بالقتل عندما وقفت والدة أحد الطلاب تحمل دمية سوداء في كفن في تهديد لروبي بالقتل، وبسبب هذا الشغب ظلت روبي وأمها في مكتب مديرة المدرسة ولم تستطع الذهاب إلى فصلها في أول يوم دراسي لها، وذلك أيضا لأن المدرسين رفضوا جميعاً قبول التدريس لروبي ولم تجد روبي إلا مُدرسة واحدة فقط “باربرا هنري” أمريكية بيضاء من بوسطن، والتي كانت مازالت تمتلك قدرًا من الإنسانية فوافقت على التدريس لروبي، وظلت “باربرا هنري” تُدرس لروبي بمفردها لمدة عام دراسي كامل، وظلت الشرطة الفيدرالية تصطحب روبي لمدة عام دراسي كامل إلى المدرسة. وقال لاحقًا المندوب الفيدرالي “تشارلز بيركس” الذي كان يصطحب “روبي”: “لقد أبدت الكثير من الشجاعة، ولم تبكِ أبدًا، لقد كانت تسير مثل جندي صغير، ونحن جميعًا فخورون بها”. وللأسف كان لهذا القرار الشجاع توابع سيئة على روبي وعائلتها، حيث فقد الأب وظيفته، وطُرِد الجد والجدة من المزرعة التي كانا يعملان بها وحتى السوبرماركت رفض البيع لهم.
ولأن لكل شيء جانبًا مظلمًا وآخر مضيئًا فقد كان هناك بعض الأسر التي ترسل أبناءها إلى المدرسة رغم وجود المظاهرات الرافضة لانضمام روبي للمدرسة والتي دعت إلى مقاطعة التلاميذ للمدرسة، كما أن هناك بعض الجيران الذين كانوا يذهبون خلف سيارات الشرطة لتوصيل روبي إلى المدرسة، وساعد أحد الجيران الأب في الحصول على وظيفة جديدة. كما تطوع دكتور “روبرت كولز” طبيب الأطفال النفسي بعمل جلسة أسبوعية مع روبي بالمدرسة وذلك لمساعدتها على التغلب على هذا الموقف. وفيما بعد قام هذا الدكتور بتأليف كتاب عن روبي بريدجز وقام بالتبرع بعائدات بيع الكتاب للمؤسسة التي أسستها روبي عام 1999. قصة كفاح عظيمة لطفلة صغيرة شجاعة وأم واعية حلمت بالمساواة وانتزعتها من مجتمع كان غارقًا في العنصرية حتى أذنيه، ومازالت روبي بريدجز تعيش بيننا وتمارس النشاط الخيري لمؤسستها التي تدعو إلى السلام والمساواة والعدالة.
نقاط مضيئة أنارت الطريق لمزيد من المساواة والعدالة والحرية والديمقراطية حتى أصبحت أمريكا رمزًا للحرية والديمقراطية في العالم. وأعتقد أن آخر قطرات العنصرية قد انتهت بجلوس الرئيس السابق باراك أوباما على مكتب الرئاسة في البيت الابيض، حيث أصبح أول رئيس أمريكي ذا بشرة سوداء وأصول أفريقية. لم يكن هذا أمرًا واردًا أو متوقعًا قبل سبعين عاماً ولم يكن أيضاً أمراً سهلًا أو بسيطًا بل احتاج للكثير من الجهد والشجاعة والتضحيات حتى أصبح حقيقة.
———————
أمنية إبراهيم مرسى هي مدربة صحة عامة معتمدة تعمل في مجال تدريب الأفراد والمجموعات على الارتقاء بالممارسات الصحية السليمة من خلال تدريبهم على تبني برامج تغذية وأساليب حياتية تناسب كل منهم في محيط البيئة التي يعيشون فيها. أمنية إبراهيم مرسى ترى أن حدوث تغييرات طفيفة في اسلوب الحياة والنظام الغذائي كفيل بمساعدة الأفراد على الاستمتاع بصحة أفضل وطاقة وحيوية أكثر كما تتسم كتاباتها بالتركيز على الجوانب المضيئة والباعثة على الأمل والتفاؤل في خبرات الآخرين لاستخدامها كحافز نحو حياة أفضل.