مقالات
قبل الرحيل … قصة قصيرة بقلم :هشام المغربي

جلس آدم يتناول الشاي في حديقة منزله الكبير مستظلاً بشجرة الليمون التي زرعها وقت أن ولدت ابنته الوحيدة التي رزق بها ويبلغ عمرها الآن من عمر هذه الابنة, ينفث دخان غليونه ( جولدن فرجينيا ) برائحة الفاكهة المحبب إلى ابنته ( باسمة ) الجالسة أمامه تحتسي قدحاً من القهوة وتتجاذب معه أطراف الحديث, تركتها والدتها وهي بعد طفلة صغيرة لم تتعد الخمسة أعوام ورحلت عن الدنيا بعد حادث مآساوي بسيارتها التي كانت تقودها على إحدى الطرق السريعة, ظل هذا الحادث حديث الصحافة والإعلام والبرامج الحوارية لفترة طويلة, نظراً لكثرة عدد الضحايا في هذا الحادث المروع. .
مر على هذا الحادث ما يقرب من عشرين عاماً وآثر آدم عدم الزواج بعد رحيل زوجته, فلن يأتي لها بزوجة أب لايعلم كيف ستكون علاقتها بها, فأغلب الظن أن تلك الزيجات لا تأتي بالخير أبداً, وإذا ما قدر الله أن وافته المنية ورحل عن الدنيا سيكون قد أتى لها بمن تشاركها في كل ما تملك! ولذا كان قراره ألا يفكر في تلك الزيجة مهما صار.
عكف على تربية وحيدته حتى تخرجت في الجامعة وعملت في أحد فروع أهم المصارف العالمية وأصبحت شابة تفخر بها العائلة بأسرها وصارت مطمع للشباب لخلقها القويم فضلاَ عن ثروة أبيها الهائلة.
تركت حادثة الأم في نفس آدم أثراً لم يستطع أن ينساه فكان قراره ألا تقود باسمة سيارة بمفردها أبداً مهما كانت الظروف, وكان يتناوب على قيادة أسطول السيارات التي لديهم اثنين من أمهر السائقين بعد أن خضعا معه لاختبارات عملية ونفسية عديدة.
بعد أن علم آدم بمرضه الخطير من أكبر الأطباء أصر أن يخفى هذا الخبرعن باسمة فلم يشأ أن يصدمها بذلك وهو يعلم كم الحب الذي تكنه له وهي التي خرجت إلى الدنيا ولم تجد أمامها سوى هذا الأب الذي كرس كل ما يملك لإسعادها, وجد استحالة أن تعرف باسمة شيئاً عن هذا المرض وحذر كل العاملين بالمنزل أن تعلم باسمة أي شيء عن حالته الصحية أو عن نوبات الألم التي تنتابه بعض الوقت ويخفيها عنها,حتى أنه أخفى أدويته في أحد أدراج المطبخ , وليس في غرفة نومه أو في غرفة مكتبه حيث دأبت أن تتردد عليهما كثيرا بين حين وآخر…تسأل عن شيء أو تطرح عليه موضوعاً أو أن تستشيره في أمر ما أوتبحث عن غرض من أغراضها أو غير ذلك, ربما كان المطبخ هو المكان الوحيد الذي نادراً ما تطأه قدماها !
أما معاودته للأطباء فكان يصطحبه فيها سكرتيره الشخصي الذي كان موضع ثقته ومستودع أسراره.
وإذا تصادف أن كانت باسمة في البيت وقت موعد جرعة الدواء كان يدخل إلى الحمام ليتناولها بعيداً عن أعين باسمة!
وفقاً لتقارير الأطباء كانت حالة الأب في غاية السوء ولم يكن أكثرهم تفاؤلاً يتوقع أن يكمل عاماً واحداً على قيد الحياة!
قرر الأب أن يكتب كل ما يملك لباسمة! البيت الكبير,والشاليه الفاخر في إحدى القرى السياحية, والعزبة والأرض الزراعية التي يملكها, وشقق وشاليهات بالخارج في أرقى المصايف العالمية, والسيارات الحديثة التي لم يمض على صنعها عام واحد, وأن ينقل لها أيضاً كل الودائع والشهادات وحسابات التوفير في البنوك.
اتفق مع محاميه على نقل كل شيء لباسمة في أسرع وقت ممكن فليس أمامه الكثير قبل الرحيل , أكد عليه أن ينهي كل شيء في سرية تامة فلم يشأ أن يعرف أحد برغبته تلك قبل رحيله.
لم يشأ أن يتقاسم أشقائه وشقيقاته ميراثه الكبير مع وحيدته باسمة, لقد كون هذه الثروة الكبيرة بعد كفاح طويل وجهد سنوات كثيرة, بذل خلالها الجهد والعرق,عانى قسوة الغربة والوحدة لسنوات حتى حقق ما أراد.
عندما طلبت باسمة من والدها أن تذهب بمفردها في رحلة مع زملاء العمل إلى أسوان لعدة أيام,كان طلبه الوحيد أن تكون تلك الرحلة بالقطار وليست بسيارات خاصة أو حافلات وهذا ما أكدته باسمة قائلة:
أعرف يا أبي مخاوفك وما شجعني عليها هو أنها بقطار النوم ذهاباً وإياباً لاتخف.
سعد بذلك وربت عليها قائلاً :
ربنا يحفظك يا باسمة لقد كرست حياتي من أجلك.. لا أرجوا من هذه الحياة سوى سعادتك .
كان في قرارة نفسه مقتنعاً أن يجب أن يترك لها مساحة حرة بعيدة عنه لبعض الوقت, تخرج فيها من عناء العمل وترفه عن نفسها مع زملاء عمل تعرفهم وتثق بهم, ومنهم من في مثل عمرها تمرح وتسعد معهم بقضاء وقت طيب وتعيش مغامرة هذا العمر بكل مافيه.
مرت أيام الرحلة ثقيلة على نفس آدم فلم يعتد أن تتركه وحيداً لعدة أيام قبل ذلك, كانا دائما معا, منذ رحيل زوجته لم يفترقا قط, ربما كانت هذه المرة الأولى التي تتركه لعدة أيام فكل رحلاتهما معاً بالداخل أو بالخارج معاً, ضحكت كثيراً عندما صارحها بذلك قبل سفرها وقالت:
والدي الحبيب اعتبرها بروفة للبعاد حتى لا تصدم بعد زواجي وإن كنت لا أعرف متى سيحين موعد هذا اليوم؟ ولكنه حتماً سيحدث.
نظر إليها نظرة متفحصة قائلاً : هل ظهر سعيد الحظ الذي سينال شرف الارتباط بأميرتي الحبيبة؟
ضحكت بخجل: حتى الآن الأمر لم يتعدى حدود الصداقة وإذا تطور لأكثر من ذلك أنت أول من سأبوح له.
أخذ يعد الأيام حتى جاء موعد وصولها إلى الإسكندرية هاتفته من القاهرة قبل أن تستقل قطار الإسكندرية من محطة رمسيس قائلة : خلاص بعد ساعتين سأكون أمامك يا حبيبي لقد مرت الأيام مثل الريح لم أشعر بالوقت كانت الساعات والأيام تطير لا أعرف لها حساباً.
أعد كل شيء لاستقبالها وطلب من الطباخ أن يجهز لها كل الأكلات المحببة إليها, وطلب من السائق أن يصطحبه ليذهب مبكراً إلى محطة القطار ليكون في استقبالها فورهبوطها من القطار فتجده أمامها,لن يقوى على انتظار عودتها بمفردها إلى البيت.
قبل أن يغادر متوجهاً إلى المحطة رن هاتفه الجوال و جاءه صوت مجهول بنبرة حزن يغالب دموعه ليخبره أن باسمة قد فارقت الحياة مع اثنين من زملائها على رصيف القطار حيث احترق القطار عند دخوله إلى المحطة بالقاهرة وقد التهمت النيران جسد كل من كان على الرصيف ولم تفلح أي محاولات لإنقاذهم في حادثة ربما كانت نادرة من نوعها.
تمت