العالم العربي
انتصار تاريخي أم التفاف على الثورة؟ قرارات بوتفليقة تثير التساؤلات حول جدية ما ينوي الرئيس فعله
هل نجح الجزائريون في إسقاط النظام الحاكم، أم أن الأمر برُمته محاولة من قبل الحاكمين للالتفاف على مطالب المتظاهرين؟ هكذا تتباين الأسئلة الخاصة بما حدث في الجزائر، عقب إعلان الرئيس عبدالعزيز إلغاء الانتخابات الرئاسية والدخول في فترة انتقالية.
لا يمكن أن يتجاهل متابعٌ للشأن السياسي ما حدث في البلاد، ويعتبره قراراً نابعاً من داخل منظومة الحكم، دون ضغوط خارجية، في نفس الوقت لم يكن مقبولاً لدى كثيرين وصف ما حدث بأنه نجاح ساحق، ولكن بالتأكيد هي خطوة هامة على طريق الحرية في الجزائر.
ثمة ما يثير القلق من قرارات الرئيس، وهو ربما الذي رفضه المتظاهرون من قبل، وهو بقاء بوتفليقة لمدة عام في السلطة، الأمر نفسه الذي سيحدث بسبب الفترة الانتقالية التي لم تُحدَّد بمدة معينة، والتي تخول للرئيس ممارسة مهامه في نفس الوقت سيهدأ الشارع وسيكون البديل اللجوء إلى الحل السياسي.
لكن ما حدث الإثنين 11 مارس/آذار 2019، يُعد انتصاراً هاماً، فالرئيس بوتفليقة البالغ من العمر 82 عاماً، الذي عاد بعد أسبوعين من العلاج الطبي في سويسرا قرَّر تأجيل الانتخابات المقررة في أبريل/نيسان، وقال إنه لن يترشح لولاية خامسة. بينما استقال رئيس الوزراء الجزائري، وسط تقارير تفيد بأن النظام سيُعلن عن حكومة تكنوقراط، لرعاية نوعٍ من الانتقال السياسي. أثار الإعلان مشاهدَ الاحتفال في الجزائر، حيث أطلق الأهالي أبواق السيارات وهتفوا في الشوارع. لقد دفعت أسابيع من الإضرابات الكبرى إلى تراجعٍ كبير في مؤسسة النظام الراسخة.
ونقل سودارسان راغايان لصحيفة Washington Post الأمريكية: «كانت الاحتجاجات نادرةً لعقود، لأن قوات الأمن والاستخبارات الجزائرية فرضت سيطرةً مطلقة. لذا حين تدفَّقت أولى حشود الجزائريين إلى الشوارع خلال الشهر الماضي توقَّع القليلون سقوط بوتفليقة، لكن في النهاية لم تلجأ قوات الأمن إلى القمع العنيف، رغم أنها استخدمت الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين».
«لن تكون هناك ولايةٌ خامسة»، قال بوتفليقة في بيانٍ، مشيراً غالباً إلى نهاية حكمه الذي دام عشرين عاماً: «لم يساورني الشك في ذلك، بأخذ صحتي وعمري بعين الاعتبار، كان واجبي الأخير تجاه الشعب الجزائري هو المساهمة في تأسيس جمهوريةٍ جديدة».
لم يكن هذا تماماً موقف بوتفليقة قبل أكثر من أسبوع بقليل، حين قال لوسطاء، وفي ظل الاحتجاجات المستمرة، إنه سيتنحَّى فقط بعد أن يتم انتخابه مرةً أخرى. لكن تلك المحاولة لتهدئة المحتجين لم تكن كافية، فقد رأوا أن محاولة تمديد حكم بوتفليقة الذي دام أكثر من اللازم بالفعل -خاصةً بعد إصابته بنوبةٍ قلبية في عام 2013 أقعدته على كرسي متحرك- حيلة ساخرة لنظامٍ متعفن، يرفض التخلي عن سيطرته المستبدة على الدولة، بحسب الصحيفة الأمريكية.
تفوّق الشعب على المؤسسة
يشير الجزائريون بالعامية إلى النخب السياسية والعسكرية الحاكمة للنظام، وإلى عُصبة الأغنياء المرتبطة بها بلفظٍ يعني «المؤسسة». بقي النظام على حاله منذ الأيام الأولى للاستقلال عن فرنسا، وكان اختباره الأصعب هو التمرد الذي قاده الإسلاميون في تسعينات القرن الماضي، الذي انتهى بحرب أهلية دموية شهدت مقتل 200 ألف جزائري. لكن وبعد جيل، أشعل عدمُ قدرة النظام على خلق فرص العمل للشباب (حوالي ثلثي عدد سكان الجزائر أعمارهم أقل من 30 عاماً) ومحسوبياته الواضحة وسوء إدارته، أشعلت النار تحت طيفٍ واسعٍ من الجزائريين الذي يريدون إصلاحاً حقيقياً.
كتب الصحفي والروائي الجزائري كامل داود: «هذا الجيل لم يعش خلال حرب الاستقلال أو الحرب الأهلية، لقد عاش فقط حريةَ مواقع التواصل الاجتماعي. اليوم قفزت هذه الحرية من الشاشات إلى الشوارع. الإنترنت كان مساهماً كبيراً في حرية التعبير في الجزائر، والنظام أدرك ذلك متأخراً. حاول أن يبطئه في الأيام الأولى من الاحتجاجات، لكن ذلك كان عديم الجدوى. وجد الجزائريون الذي يستخدمون الإنترنت بكثافة أنهم بإمكانهم امتلاك أكثر من صفحة فيسبوك، بإمكانهم امتلاك بلدهم».
ولن يتوقفوا الآن، ثمة دعواتٌ بالفعل لتحديد جدول زمني لرحيل بوتفليقة، وخططٌ للمزيد من التظاهرات هذا الأسبوع. فمؤيدو النظام وبطانته ما زالوا في مناصب قيادية رئيسية، بينما نقل بوتفليقة وزير الداخلية إلى منصب رئيس الوزراء، ونقل مستشاراً دبلوماسياً رفيعاً إلى منصب نائب رئيس الوزراء.
دور الأخضر الإبراهيمي
نقلت تقارير محلية أخباراً عن إمكانية تعيين الأخضر الإبراهيمي، وهو وزير خارجية سابق ودبلوماسي عالمي محترم، لقيادة حكومةٍ رعاية يمكن أن تمهد الطريق أمام إجراء انتخاباتٍ جديدة. وقال زغلامي، الذي عبَّر عن ثقته بأن المشهد السياسي الجزائري «ناضجٌ» بما يكفي لإدارة انتقالٍ ديمقراطي: «النظام يدرك أنه فقد ثقة الناس. الاحتمال الوحيد هو أن يجد طريقةً مقبولة للخروج من هذه الفوضى. آمل أن العقل سينتصر، لا يمكننا تحمل خوض حرب أهلية أخرى»، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ترك العقد الماضي الكثيرَ من العبر في العالم العربي، رغم ثوراتِ عام 2011 التي شهدت الإطاحة بأربع طغاةٍ طال حكمهم، إلا أن التحول الديمقراطي نجح في تونس المجاورة فقط، وليس من دون مطباتٍ كثيرة على الطريق. يشير المحللون الآن إلى الوحدة المذهلة التي تميز الحركة الاحتجاجية الجزائرية كأساسٍ لتفاؤلٍ حذر.
ولاحظ الخبير في شؤون شمال إفريقيا في جامعة توفتس، هيو روبرتس، أن «التظاهرات وحَّدت الجزائريين أكثر من أي وقت مضى، متجاوزةً الاختلافات بين المناطق والأجيال والأيديولوجيات والهويات، لتجمع بين النساء (بأعدادٍ هائلة) والرجال والأطفال، واليساريين والليبراليين والمحافظين والإسلاميين والعلمانيين ومتكلمي العربية ومتكلمي البربرية. كما يوجد بُعدٌ قومي واضح في المظاهرات: «العلم الوطني في كل مكان، المحاربون القدامى لحرب الاستقلال… يسيرون جنباً إلى جنب مع رفاقهم المدنيين».
لا يربط جيمس ماكدوغال، المؤرخ في جامعة أكسفورد الذي كتب حول الجزائر، بين ما يحدث في البلد وثورات الربيع العربي، بل يربطه بتراث الجزائر الخاص من «المقاومة الشعبية»، التي ترسخت خلال الحرب الثورية الجزائرية ضد فرنسا.
عقبات قانونية
وعلى الطرف الآخر، فرغم استجابته لأغلب مطالب الحراك الشعبي والمعارضة بالعدول عن الترشح وتأجيل الانتخابات، فإن أول عقبة واجهت قرارات بوتفليقة هي قانونية بامتياز، بحكم أن تمديد ولايته لم يستند إلى أي مادة دستورية.
وتعد المادة 107 من الدستور الأقربَ لتفسير هذه الحالة من التمديد، لأنها تنصّ على أن «يقرر رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية إذا كانت البلاد مهددة بخطر داهم، يوشك أن يصيب مؤسساتها الدستورية أو استقلالها أو سلامة ترابها».
وتنصّ أيضاً «تخول الحالة الاستثنائية رئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات الاستثنائية التي تستوجبها المحافظة على استقلال الأمة، والمؤسسات الدستورية في الجمهورية».
وتشترط هذه المادة على الرئيس ألا يتخذ مثل هذا الإجراء إلا بعد استشارة رئيس مجلس الأمة، ورئيس المجلس الشعبي الوطني، ورئيس المجلس الدستوري، والاستماع إلى المجلس الأعلى للأمن، ومجلس الوزراء، كما يجتمع البرلمان وجوباً.
لكن الرئاسة الجزائرية لم تُشر إلى السند القانوني لهذه القرارات، أو إلى عقد اجتماعات هامة، كما ينص الدستور، كما أن البرلمان لم يجتمع بدعوة من الرئيس للنظر في هذا «الوضع الاستثنائي» الذي استدعى هذه القرارات.
ووصف المرشح الرئاسي عبدالعزيز بلعيد هذه الخطوة «بالاعتداء الصارخ على الدستور»، فيما قال المرشح الإسلامي والوزير الأسبق عبدالقادر بن قرينة إنها فرضت «شرعية الأمر الواقع».
ومن جانبه قال المحامي مصطفى بوشاشي، أحد أبرز وجوه الحراك، معلقاً عليها: «مطلب الجزائريين ليس التأجيل، وإنما كان إقامة مرحلة انتقالية بحكومة توافق وطني بعد مشاورات واسعة».
وتابع في مقطع فيديو له على موقع «فيسبوك» قائلاً: «لا نريد أن يتم الالتفاف حول رغبة الشعب الجزائري في الذهاب إلى انتخابات حقيقية وديمقراطية حقيقية»، رغم أن بوتفليقة تعهَّد بإنشاء لجنة مستقلة جديدة لمراقبة الانتخابات، وحل الهيئة الحالية.
«المؤامرة بدأت»
من جهته يرى جيلالي، الناطق باسم حركة «مواطنة» المعارضة، في تغريدة فور صدور القرارات أنه «لا يجب الثقة فيها»، وأن «المؤامرة بدأت»، داعياً إلى مواصلة الحِراك من خلال مظاهرات الجمعة.
بدوره قال رئيس الحكومة الجزائري الأسبق علي بن فليس (2000-2003)، إن «البلاد شهدت الإثنين تعدياً بالقوة على الدستور، بالإعلان عن تمديد الولاية الرابعة للرئيس (عبدالعزيز) بوتفليقة من دون مباركة الشعب».
جاء ذلك في فيديو نشره علي بن فليس على صفحته الرسمية على موقع «فيسبوك.
وذكر علي بن فليس، رئيس حزب «طلائع الحريات» المعارض، أن «القوى الدستورية (في إشارة لمحيط الرئيس بوتفليقة)، ستبقى مستولية على مركز صنع القرار، والسطو على صلاحيات رئيس غائب».
واعتبر أن «هذا الاستيلاء على مركز القرار كان مبرمجاً بالولاية الخامسة، فأصبح بالتمديد للرابعة من دون مباركة من الشعب».
مواصلة الضغط
في السياق ذاته عجَّت صفحات لناشطين معارضين على موقعي «فيسبوك» و»تويتر» بمنشورات و»تغريدات»، تدعو أيضاً إلى مواصلة الضغط عبر الشارع، وذلك بمظاهرات كبيرة للجمعة الرابعة على التوالي، هذا الأسبوع.
وتلتقي هذه التعليقات في أن ما صدر من قرارات هو «تمديد لحكم بوتفليقة، في انتظار الالتفاف على المطالب المرفوعة لاحقاً»، وهو مؤشر على أن جدلاً جديداً في الأفق عنوانه «التجسيد الكامل لمطالب الحراك».
وكحلّ وسط لهذا الوضع كتب الإعلامي الجزائري الشهير محمد يعقوبي منشوراً على صفحته بـ «فيسبوك»، جاء فيه «الآن حان دور العقلاء في السلطة وفي الحراك لتقريب المسافات والوصول إلى حل بالحوار…».