أخبار من أمريكا
كيف تجني 200 مليار دولار؟.. دروس من تجربة جيف بيزوس مالك أمازون
في الخامس من يوليو/تموز 2021، أعلن “جيف بيزوس” -مؤسس عملاق التجارة الإلكترونية “Amazon”، وأغنى رجل في العالم حتى الآن بثروة تزيد عن 200 مليار دولار- تنازله عن منصب المدير التنفيذي لشركته بعد 27 عاما بالضبط من تأسيسها في التاريخ نفسه في مرآب منزله عام 1994.
جيف بيزوس البالغ من العمر 57 عاما، قال إن الأمر “لا علاقة له بالتقاعد”، وإنه تنازل عن منصب المدير التنفيذي العام للشركة لمساعده آندي جاسي، للتركيز الفترة المقبلة على تطوير المزيد من المشاريع، على رأسها إنجاز رحلته إلى الفضاء يوم 20 يوليو/تموز، وتطوير أداء شركته الفضائية الجوية بلو أوريجن، ومبادرات أخرى، مع استمراره في الاحتفاظ بدور رئيس في الأنشطة الأساسية لشركة أمازون.(2)
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: كيف يمكن لشخص عادي مثلنا جميعا، يملك قلبا ورئتين ورأسا وأنفا، أن يحقق هذا القدر الهائل من الثروة؟ غالبا ما تكون الإجابة الأولى عن هذا السؤال أن الأمر مجرد ضربة حظ، لكنها حتما إجابة أبعد ما تكون عن الإقناع. فعلى مدار سنوات طويلة، وضع بيزوس مجموعة من القواعد الريادية الخاصة به وصرّح بها في مناسبات متفرّقة، كشفت جوانب من نجاحه في تأسيس أمازون وإدارتها حتى وصولها إلى مكانتها بوصفها أضخم عمالقة التجارة الإلكترونية في العالم.
في عام 1994، كان جيف بيزوس قد بلغ الثلاثين من عمره ويعمل في وظيفة جيدة جدا في إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى بمدينة نيويورك، والتي تدرّ عليه دخلا مميزا ومكانة اجتماعية وبنظام عطلات رائع. في تلك الفترة، كانت شبكة الإنترنت بدأت تنتشر في أميركا والعالم، لكنها كانت لا تزال وليدة وتحبو خطاها الأولى في صورة بدائية.
في أحد الأيام، قرأ بيزوس في إحدى الصحف أن الإنترنت يحقق نموا في عدد مستخدميه سنويا يصل إلى 2300%. كان هذا الرقم مذهلا بالنسبة إلى شخص يعمل بالأساس مع الأرقام والاستثمارات المالية، لذا سرعان ما استنتج أن هناك موجة هائلة من الفرص قادمة في الأفق من وراء الإنترنت، وأنه يجب استغلالها والاستفادة منها ببراعة، والأهم “بسرعة”.
لم يكن بيزوس يتعامل مع أحلام أو رغبات شخصية، بل حقائق مُطلقة. هذه الأرقام حقيقية، ومن ثم يجب أن يتعامل معها بالشكل الصحيح ويجد طريقة لتوليد الأرباح من هذا الزخم الهائل. كتب بيزوس لائحة من المنتجات التي يمكن بيعها عبر الإنترنت، ثم وقع اختياره على بيع الكتب تحديدا، ليس لأنه مغرما بالقراءة، ولكن لأن بيع الكتب بدا هو أفضل وسيلة للاستفادة من هذا النمو في الشبكة، نظرا لسهولة بيعها نسبيا في ذلك الوقت بلا مشكلات لوجستية أو تسويقية أو تسعيرية كبيرة.(3)
قدّم بيزوس استقالته، وتخلى عن الوظيفة المريحة التي كان يعمل بها، واستأجر شاحنة نقل كبيرة وضع بها كل ما يحتاجه لبدء مشروعه الجديد الذي قرر أن يبدأه في مدينة سياتل بولاية واشنطن الغرب. هذا القرار لم يكن سهلا بالتأكيد بالنسبة إلى شخص لديه وظيفة ثابتة وأسرة وواجبات اجتماعية، يخاطر بكل هذه الامتيازات التي يملكها ليتخذ خطوة أقرب إلى قفزة في المجهول، حتى لو درس السوق وتأكد من صحة الأرقام وجدوى الفرصة التي أمامه.
واحد من أشهر تكتيكات اتخاذ القرار المشهورة عن جيف بيزوس، والتي تعتبر من أكثرها فعالية وتأثيرا، هو أسلوب “منهج تقليل الندم (Regret Minimization Framework)”، يقول بيزوس إن هذا الأسلوب تحديدا هو الذي ساعده على اتخاذ القرار المصيري بترك وظيفته ومساره المهني المستقر، والمخاطرة للذهاب إلى تأسيس شركة ناشئة في مجال لم يعمل به من قبل (بيع الكتب)، وفي سوق جديد كليا لا يوجد له إرشادات واضحة في ذلك الوقت (التجارة الإلكترونية).
الفكرة التي يقدمها هذا الأسلوب، هو أن بيزوس افترض “ذهنيا” -وهو ما زال في عمر الثلاثين- أنه قد قفز قفزة زمنية إلى عمر الثمانين، وجلس ليفكر في أحداث حياته الماضية “المتخيَّلة” بشكل واسع، بهدف تحديد الأشياء التي شعر بالندم على فعلها أو على أنه لم يفعلها. يقول بيزوس: “عندما تخيّلت أني وصلت إلى الثمانين، أدركت أنني بوصولي إلى هذا العمر فإنني لم أكن لأشعر بأي ندم على محاولة تنفيذ هذه الفكرة (فكرة الاستقالة من وظيفته وتأسيس شركة أمازون) مهما كانت نتائجها، ولم أكن لأشعر بالندم على المشاركة في هذا الشيء الجديد الذي يسمّى الإنترنت، لأنني أدركت أنه سيكون شيئا ما”.(4)
“الوصفة السرية لنجاح أمازون تشمل العديد من الأشياء، ولكن يمكنني القول إن الشيء الأول الذي جعلنا ناجحين، حتى الآن، هو تركيزنا على العميل ومتطلباته بشكل كامل”
– بيزوس في لقاء صحفي عام 2018
جيف بيزوس هو أستاذ مبدأ “العميل أولا” الذي يصوغه دائما بعبارة: ابدأ بالعميل ثم تحرك (Start with Customer and work backwards)، وهو مبدأ يعني أن دراسة السوق بشكل جيد ومتطلبات العميل من حيث المنتجات أو الخدمات ونوعيتها وطريقة التوصيل وطريقة الاستخدام، وغيرها من عناصر دراسة الأسواق وسلوكيات العملاء، هو الأساس الذي يجب البدء منه. هذه الطريقة تختلف عن أساليب أخرى لاختراق الأسواق ينتهجها بعض رواد الأعمال الذين يرون أن العملاء لا يعرفون -بالضرورة- ما يرغبون فيه بالضبط، وأن البداية الحقيقية يجب أن تكون من “المنتج” أو “الخدمة المبتكرة” التي ستجذب العميل.
بحسب ديبين ميهتا، رئيس قطاع الابتكار الرقمي لشركة أمازون في منطقة آسيا والمحيط الهادي، فإن القاعدة الأساسية لأي منتج أو خدمة جديدة يتم اعتمادها في أمازون، لا تتعلق بالتمويل أو مستوى الإبداع أو حتى كونها فكرة جيدة، ولكن الأمر الأساسي هو التأكد بشكل تام من مطابقة هذه الخدمة أو المنتج لمتطلبات العميل، بناء على خمسة أسئلة رئيسية:
- مَن العميل؟
- ما مشكلة العميل/فرصة العميل؟
- هل الاستفادة الأهم بالنسبة إلى العميل (من هذه الخدمة/المنتج) واضحة تماما؟
- كيف تعرف ما الذي يحتاجه (أو يريده) العميل؟
- كيف ستكون تجربة العميل مع هذا المنتج/الخدمة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة الخمسة تُقدَّم إلى مديري أمازون وإلى أصحاب الأسهم وشرائح من العملاء المستهدفين، وتُدرَس هذه الأسئلة وإجاباتها بدقة للخروج بقرار واضح حول إذا ما كانت هذه الفكرة قابلة للتنفيذ أم لا، حتى وإن كانت تبدو إبداعية ومثيرة للإعجاب.(5)
يقول بيزوس: “منهجية العمل تبدأ بتحديد متطلبات العميل أولا ثم التحرك لبناء المنتجات والخدمات على أساسها، يحتاج ذلك إلى قدر هائل من العمل، لكنه في الوقت نفسه يحميك من إهدار الوقت والمزيد من العمل لاحقا. مبدأ العمل بناءً على متطلبات العميل لم يُصمَّم ليكون سهل التنفيذ، وإنما لتوفير قدر هائل من العمل والمجهود في النهاية، وكي يجعلك متأكدا من أنك تقوم ببناء الشيء الصحيح”.
قاعدة أخرى وضعها جيف بيزوس لإدارة المشاريع والمقابلات والفرق في شركة أمازون، وهي قاعدة الـ2 بيتزا (The Two Pizza Rule). هذه القاعدة تعني أن فرق العمل في أي إدارة من إدارات أمازون يجب أن تكون صغيرة ومحدودة الأشخاص بما يكفي لإطعامهم باثنتين من البيتزا، أي أن الفريق الواحد ينبغي أن يكون مكوّنا من 5 إلى 7 أشخاص تقريبا كحدّ أقصى.
قاعدة الاثنين بيتزا، أو ما تعنيه من تقليص حجم الأفراد في كل فريق، تعود جذورها في عقلية بيزوس إلى بدايات أمازون بوصفها مشروعا ناشئا صغيرا، لكنه ظل مقتنعا بفاعليتها حتى بعد أن تحولت أمازون إلى شركة عملاقة عابرة للقارات، حيث يعمل “تصغير الحجم (Downsizing)” على تحويل الشركة العملاقة إلى مجموعات صغيرة من الموظفين يسهل إدارتها بأسلوب أكثر مرونة.
هذا المبدأ يسمى أيضا “النمو مع البقاء صغيرا (Growing without getting big)”، وهو يهدف بالأساس إلى الإبقاء على فرق العمل صغيرة الحجم، وحمايتها من الوقوع في فخّ البيروقراطية وتراجع الفعالية الذي يحدث عادة مع نمو المؤسسات بشكل كبير، وتحولها من شركات صغيرة سريعة الحركة كبيرة الإنتاج إلى حيتان ضخمة بطيئة الحركة ومُهدرة للوقت والموارد.(6)
واحدة من أشهر نصائح بيزوس لرواد الأعمال فيما يخص التوظيف في شركاتهم الناشئة هو أن يحاولوا بقدر الإمكان الاستعانة بمن وصفهم بـ”المُبشّرين (Missionaries)” وليس “المرتزِقة (Mercenaries)”، أن توظف أصحاب الرسالة الذين لديهم القدرة على بناء منتج عظيم والسعي لتطويره وتسويقه ونشره حول العالم، أفضل بكثير من الاستعانة بالمرتزقة -على حد وصفه- الذين يعملون فقط من أجل الحصول على قدر أكبر من المال، ويركزون بشكل كامل على الأرباح دون أن يحملوا رسالة واضحة للمؤسسة التي يعملون لديها.
يقول بيزوس في لقاء جماهيري عندما طُلب منه توجيه نصيحة لرواد الأعمال: “تأكد من أنك تعمل في شيء شغوف به كثيرا، وأن تحيط نفسك بأشخاص شغوفين أيضا. فأصحاب الرسالة (المبشرون) يبنون منتجات أفضل. إذا خُيِّرتُ بين توظيف موظف صاحب رسالة وموظف آخر مرتزق (يركز على الأرباح فقط) فسوف أختار صاحب الرسالة فورا. المرتزقة يريدون أن يفعلوا أي شيء ليصبحوا أثرياء سريعا، بينما المبشرون همهم الحقيقي هو بناء منتج أو خدمة عظيمة. والمفارقة أنه دائما ما ينتهي الحال بأصحاب الرسالة إلى تحقيق أموال أكبر بكثير من المرتزقة في كل الأحوال. اِلتقِطْ شيئا أنت شغوف بالعمل عليه، وكوِّن فريق عمل من الشغوفين للعمل معك”.(7)
“إذا ضاعفتَ عدد التجارب التي تجريها كل عام فسوف تضاعف عدد الابتكارات التي ستحصل عليها”
– جيف بيزوس
في السنوات الأولى من إطلاق أمازون، بدأ المديرون التنفيذيون في الشركة بدراسة جدوى إطلاق سلسلة ترويجية عبر شاشات التلفاز الذي كان يعتبر وسيلة الدعاية الأساسية في التسعينيات قبل انتشار الإنترنت بشكل واسع عالميا. كان التحدي الأساسي هو مقارنة التكلفة التي ستُنفَق على هذه الإعلانات في مقابل المردود الذي سيحصلون عليه من إقبال الناس، في وقت كانت أمازون في بداياتها، ومن المهم الحرص على إنفاق موارد الشركة المالية في قنواتها الصحيحة.
كان الإجراء الذي اتخذته أمازون هو “التجربة”. درس المسوّقون اثنين من الأسواق المُستهدفة إعلانيا من خلال التلفزيون، وحددوا مدينتَي بورتلاند ومينيابوليس للتغطية الإعلامية التي أطلقوها لمدة 16 شهرا كاملة، وهي فترة أطول بكثير مما تجريه الشركات لاختبار المردود الإعلاني. كانت النتيجة أن الإعلانات ساعدت أمازون في تحقيق زيادة لا بأس بها في المبيعات، ولكنها لم تكن زيادة كافية تعادل التكاليف، وهو ما جعل بيزوس يتخذ قرارا بوقف هذه الإعلانات، وتعديل الإستراتيجية التسويقية لاحقا.
هل كان الإنفاق على حملة إعلانية غير مُجدية يعتبر فشلا؟ بيزوس يتحدث عن هذه التجربة باعتبارها مصدر تعديل وتوجيه الإستراتيجية التسويقية للشركة، وأنها “تجربة طويلة ومكلفة ولكن كنا نحتاج إليها بشدة لفهم أهمية هذا الأمر لشركتنا مرة واحدة وبشكل نهائي”.(8)
في عام 1997، وبعد إدراج شركة أمازون في البورصة، أرسل جيف بيزوس رسالة لحملة الأسهم يخبرهم بإستراتيجية الشركة الأساسية -التي كانت لا تزال صغيرة نسبيا تتعامل مع حوالي مليون ونصف مليون عميل- مؤكدا أن الهدف الأساسي ليس مجرد تحقيق أرباح ربع سنوية جيدة، ولكن أن تزداد قيمة الشركة نفسها بشكل كبير على المدى البعيد.
في عام 2005، أطلقت شركة أمازون خدمة “أمازون برايم (Amazon Prime)” التي تعتبر واحدة من أهم خطوات أمازون في هذا الصدد. الخدمة الجديدة قدّمت عرض اشتراك سنوي قيمته 79 دولارا مقابل خدمة توصيل مجانية لأي طلب من أي نوع مهما كان حجمه على مدار العام، بشرط أن يكون المنتج أو الخدمة المُشتراة تغطيها خدمة “Prime”، وألا تزيد الطلبات التي يغطيها الشحن المجاني عن طلبين يوميا.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذا العرض من الناحية الحسابية سيضرّ بأمازون كثيرا من حيث الإيرادات حتى لو كان في مصلحة العميل، فالعميل الذي يجد أمامه فرصة على مدار عام كامل للشراء بدون مصاريف شحن لطلبين يوميا، مقابل اشتراك زهيد قيمته 80 دولارا في السنة، بالتأكيد سوف يطلب عددا أكبر من الطلبات يفوق قيمة الاشتراك الذي دفعه، ما يبدو أنه سيعرّض أمازون للخسائر.
ولكن في حقيقة الأمر، وبناء على إستراتيجية أمازون بعيدة المدى التي تركز على النمو في السوق أكثر من الأرباح الفصلية، فإن هذا العرض أسهم في رفع قيمة الشركة في زمن قياسي. فمع هذا العرض المجاني للشحن، سوف يزداد إقبال العملاء على الشراء، ما يؤدي -بالتبعية- إلى زيادة عدد مُزوِّدي الخدمات عبر المنصة، وارتفاع إجمالي طلبات الشراء والتسليم. هذا الإقبال أسهم في رفع قيمة أمازون السوقية بشكل غطّى أي خسائر في مستويات الأرباح الفصلية، وكان أحد الأسباب الرئيسية في ارتفاع قيمة السهم بشكل مُطرد عبر سنوات طويلة.(7،8)
في النهاية، يمكن تلخيص أهم أسباب النجاح الذي حققه جيف بيزوس بما ذكره هو نفسه في عدة مناسبات، أنه يدقق بشدة في إحاطة نفسه بأشخاص ذوي كفاءة، لأن النجاح الضخم يحتاج إلى أشخاص مميزين، أو كما يقول بنفسه: “الحياة قصيرة جدا لنمضيها مع أشخاص ضعاف الإمكانيات”.(1)
—————————————————————————————————————–
المصادر
- 69 Of The Best Jeff Bezos Quotes
- Jeff Bezos steps down as Amazon boss
- At age 30, Jeff Bezos thought this would be his one big regret in life
- How Amazon’s Jeff Bezos Made One of the Toughest Decisions of His Career
- Working backwards: how Amazon innovates
- When Jeff Bezos’s 2-Pizza Teams Fell Short, He Turned to the Brilliant Model Amazon Uses Today
- 11 Lessons for Entrepreneurs From Jeff Bezos’s Tremendous Success
- 12 Business Lessons You Can Learn from Amazon Founder Jeff Bezos