الحرب على غزةالعالم العربيتحليلات سياسيةعاجلمركز الدراسات
أخر الأخبار

هل تسبب موقف الرئيس محمود عباس تجاه المقاومة المسلحة في ضياع القضية الفلسطينية؟!

وكالات – خاص: رؤية نيوز

لم تتغير أبدًا وجهة النظر الرافضة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، أبو مازن، للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وذلك إذا اعتبر أنه رجل المفاوضات مع الدولة العبرية، حتى أنه يُلقّب بـ”رجل أوسلو”.

أبو مازن يرأس السلطة الفلسطينية منذ 18 عاماً ويتمتع بعلاقات شائكة مع فصائل المقاومة وعلاقات “دافئة” مع سلطات الاحتلال.

بدأ أبو مازن مسيرته السياسية من خلال مفاوضات مبكرة مع الاحتلال الإسرائيلي في مسعى لإيجاد حل دبلوماسي يضمن للفلسطينيين ولو بعضا من حقوقهم على أرضهم المحتلة، لكن مسيرة نصف قرن تقريبا من التفاوض لم تضمن لهم شيئا.

تسعى أمريكا الآن إلى بث الروح في السلطة التي يرأسها محمود عباس كي تتولى مسؤولية إدارة قطاع غزة، رغم استمرار العدوان الغاشم منذ عملية “طوفان الأقصى“، التي قلبت موازين الصراع رأساً على عقب، فكيف يريد “رجل الاتفاقيات” العودة إلى المعادلة القديمة ومسار التفاوض ذاته؟

من هو أبو مازن؟

ولد محمود رضا عباس يوم 15 نوفمبر عام 1935 في مدينة صفد في فلسطين التي كانت خاضعة وقتها للانتداب البريطاني، ولم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل من الأساس.

عانت أسرة عباس، شأنها شأن غالبية الشعب الفلسطيني، من التهجير بعد إعلان زرع الكيان الإسرائيلي في فلسطين عام 1948. هجرت أسرة محمود عباس إلى سوريا، وهناك تلقى تعليمه الثانوي ثم الجامعي في جامعة دمشق. كما درس عباس القانون في جامعة القاهرة المصرية، وحصل على رسالة الدكتوراه من جامعة الصداقة الروسية في موسكو عام 1982.

أما عن حياته الأسرية، فقد تزوج عباس من السيدة أمينة الفانوس عام 1958 وأنجبا ثلاثة من الأبناء هم مازن عباس، الذي توفى عام 2002 إثر نوبة قلبية. أما الابن الثاني فهو ياسر عباس، وسمي على اسم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسس حركة فتح. أما الابن الثالث فهو طارق عباس، ويصنف هو وأخوه ياسر على أنهما رجلا أعمال ويتمتعان بثروة طائلة.

عمل محمود عباس مدرساً في دمشق بعد حصوله على الشهادة الإعدادية، وكان القانون السوري وقتها يسمح لحملة الإعدادية بالعمل، ثم أكمل دراسته الثانوية من المنزل وبعد ذلك التحق بجامعة دمشق حيث حصل على بكالوريوس في القانون عام 1958.

وانتقل إلى قطر حيث عمل مديراً لشؤون الموظفين في الإدارة المدنية، واستقطب مدرسين من الأراضي الفلسطينية للعمل في وزارة التعليم والتعليم العالي بالدوحة.

حصل أبو مازن على الدكتوراه من جامعة صداقة الشعوب في العاصمة الروسية موسكو عام 1982، وكان عنوان الرسالة “العلاقة بين قادة النازية وقادة الحركة الصهيونية”. وله أيضاً مؤلفات أدبية عديدة منها: اللاجئون الفلسطينيون اليهود (1981) وتذكرة سفر بلا عودة (1982) والاستقطاب الديني والعرقي في إسرائيل (1998).

محمود عباس والعمل السياسي

في سوريا، أسس عباس مع زملائه تنظيماً سرياً، ثم تواصل مع حركة فتح وكان عضواً في لجنتها المركزية الأولى، لكنه كان بعيداً عن دائرة صنع القرار في منظمة التحرير في ذلك الوقت، حيث كان مقر المنظمة في بيروت.

ومنذ عام 1968 عمل عضواً بالمجلس الوطني الفلسطيني، حيث ركز أبو مازن مسيرته على العمل السياسي ولم يكن له أي نشاط تقريباً في العمل النضالي أو المقاومة المسلحة.

عندما بدأ أبو مازن مسيرته السياسية، جاء ذلك من خلال مفاوضات مبكرة مع الاحتلال الإسرائيلي في مسعى لإيجاد حل دبلوماسي، وأدت تلك المفاوضات مع الجنرال الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد إلى إعلان مبادئ السلام على أساس الحل بإقامة دولتين، والذي تم الإعلان عنه غرة يناير عام 1977.

بطبيعة الحال لم يؤد هذا الإعلان إلى نتائج عملية من أي نوع بالنسبة للفلسطينيين، لكنه كان باكورة علاقات تفاوضية بين محمود عباس والإسرائيليين، نتج عنها عدد كبير من الاتفاقيات، منها أوسلو وغزة وأريحا وغيرهما. ماذا حققت تلك المفاوضات والاتفاقيات وإعلان السلام “خياراً استراتيجياً” للشعب الفلسطيني للحصول على حقوقه المشروعة؟ يظل هذا السؤال قائماً حتى اليوم!

علاقة محمود عباس مع ياسر عرفات

ينتمي عرفات وعباس إلى حركة فتح وعملا معاً منذ البداية، لكن الاختلاف بين خيارات كل منهما يبدو واضحاً ولا يحتاج إلى كثير من التحليل، حسبما يرى فريق من المراقبين. فعرفات لم يظهر سوى بالبدلة العسكرية بينما يحرص عباس منذ البداية على البدلة المدنية ورابطة العنق، انعكاساً للاختلاف بين مساري مقاومة الاحتلال والمفاوضات معه.

هذه النقطة عبر عنها ناجي شراب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة، بقوله “عرفات لم يخلع البدلة العسكرية، ولهذا دلالات سياسية كثيرة أهمها إعطاؤه الأولوية للخيار العسكري الذي هو جوهر الفرق بينه وبين الرئيس أبو مازن”.

وبحسب الأكاديمي الفلسطيني، “نستطيع القول إن عرفات مثل القيادة الثورية، فيما عباس أقرب إلى الرجل السياسي منه إلى الرجل الثوري، ويتمسك بالمفاوضات والمقاومة الشعبية كخيارين وحيدين في التعامل مع إسرائيل”.

ويرى فريق آخر أن عباس لم يكن ليخطو أي خطوة تفاوضية مع الإسرائيليين دون موافقة ياسر عرفات بطبيعة الحال، وذلك خلال المراحل المتعددة لتلك المفاوضات، والتي توجت باتفاق أوسلو وعودة قيادات منظمة التحرير إلى الأراضي المحتلة في يوليو 1995 وتأسيس السلطة الفلسطينية.

لكن غالبية المراقبين يرون أن ياسر عرفات لم يتخل عن خيار المقاومة المسلحة بشكل كامل، مدللين على ذلك باندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى عام 2000)، وكيف أن موقف الرئيس الفلسطيني الراحل هذا كلفه حياته وجعل الإسرائيليين وحلفاءهم الأمريكيين يسقطونه من حساباتهم كـ”شريك” في عملية السلام، ويختارون عباس بديلاً.

الخلافات بين الرجلين تظهر جلية في مسيرة كل منهما أيضاً، فبينما كان عرفات رمزاً للكفاح المسلح وتعرض لمحاولات اغتيال عديدة من جانب الإسرائيليين، اختار عباس المسيرة الدبلوماسية منذ البداية، إذ شغل منصب عضو اللجنة الاقتصادية لمنظمة التحرير منذ أبريل 1981، كما تولى حقيبة الأراضي المحتلة بعد اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد).

وبدأ عباس محادثات سرية مع الإسرائيليين من خلال وسطاء هولنديين عام 1989، ونسق تلك المفاوضات أثناء مؤتمر مدريد. ثم أشرف على المفاوضات التي أدت إلى اتفاقات أوسلو عام 1993، كما قاد مفاوضات جرت في القاهرة وأصبحت تعرف باتفاق غزة أريحا.

كان اختيار عرفات لمحمود عباس كي يشغل منصب أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير عام 1996 قد جعل أبو مازن عملياً الرجل الثاني في الهيكل القيادي للسلطة الفلسطينية، لكن الرئيس الراحل كان متردداً في اختيار عباس رئيساً للوزراء عندما اشتدت الخلافات مع إسرائيل، على خلفية عدم احترام الأخيرة للاتفاقيات الموقعة، والتي كان من المفترض أن تشهد ميلاد دولة فلسطين المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 في غضون 5 أعوام من توقيع اتفاقات أوسلو، أي في موعد أقصاه مايو 1999.

تأزمت علاقات عرفات مع الإسرائيليين والأمريكيين، خصوصاً مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، واتخذ قرار وقف التعامل مع الرئيس الفلسطيني وأسفرت الضغوط عن تشكيل أبو مازن حكومة فلسطينية برئاسته وذلك في مارس 2003.

سبق تشكيل أبو مازن تلك الوزارة، التي لم تستمر سوى 6 أشهر، خروج الخلافات بينه وبين ياسر عرفات (أبو عمار) للعلن ربما للمرة الأولى. وبات واضحاً في تلك المرحلة الخلاف الجوهري بين الرجلين فيما يتعلق بالموقف من المقاومة والعلاقة مع إسرائيل وحليفتها أمريكا.

إسرائيل تفسح المجال أمامه لخلافة عرفات

أصبح البحث عن بديل لعرفات يكون “أكثر براغماتية ومرونة”، من وجهة النظر الإسرائيلية، الهم الأول للاحتلال، الذي وجد ضالته في أبو مازن، رجل المفاوضات والاتفاقات. ومن ثم سعت تل أبيب لإفساح المجال أمام رجلها المفضل، فقامت باعتقال أو إبعاد أو قتل باقي المرشحين المؤهلين لخلافة عرفات، مثل مروان البرغوثي. وبعد أن تمت المهمة وتولى عباس رئاسة السلطة خلفا لعرفات، تكفل أبو مازن بإبعاد المنافسين الآخرين داخل منظمة التحرير، مثل فاروق القدومي وناصر القدوة.

وافق عرفات، على مضض، على فكرة تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة محمود عباس، لكن الرئيس الراحل احتفظ لنفسه بمنصب وزير الداخلية حتى لا يضع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة تحت سيطرة أبو مازن، المعروف عنه رفضه لفكرة المقاومة المسلحة والتزامه بالتنسيق الأمني مع الاحتلال. وتسبب هذا الموقف من جانب عرفات في تقديم محمود عباس استقالته في سبتمبر من نفس العام، أي بعد 6 أشهر فقط من توليه الوزارة.

برر محمود عباس استقالته بعدم التعاون من جانب الإسرائيليين والأمريكيين، إضافة إلى ما سماه “الانقسام” داخل السلطة الفلسطينية. وبعد وفاة عرفات في نوفمبر 2004، رشحت حركة فتح محمود عباس للانتخابات الرئاسية التي أقيمت في التاسع من يناير 2005.

اغتيال عرفات و”التحقيق الغائب”

اغتالت إسرائيل ياسر عرفات بالسم، سواء في معجون الأسنان الخاص به أو في قهوته، بحسب التقارير والشهادات المتعددة، لكن من المسؤول أو المسؤولين عن هذه الجريمة؟ هذا هو السؤال الذي لا يزال مطروحا على الساحة الفلسطينية بعد ما يقرب من 20 عاما دون إجابة. ولم تفتح السلطة، بعد أن تولى أبو مازن رئاستها تحقيقا في سبب وفاة عرفات، واستمر التحقيق سنوات دون أن يخرج بنتيجة حاسمة تتعلق بالمشتبه به/ المشتبهين بهم وإن أقر التحقيق “بشبهة الوفاة بالسم”.

وفي عام 2009 أصدر فاروق القدومي وثيقة اتهم فيها محمد دحلان ومحمود عباس بالمشاركة في اغتيال ياسر عرفات، وهو ما أصر عباس على نفيه. لكن حتى اليوم لا تزال الحقيقة غائبة!

علاقة محمود عباس بفصائل المقاومة

دعا عباس، المرشح لرئاسة السلطة الفلسطينية، إلى وقف ما سماه “العنف الفلسطيني” خلال الانتفاضة الثانية، مطالباً بالعودة إلى “المقاومة السلمية ومسار المفاوضات”. وتلخص هذه الدعوة علاقة أبو مازن بالنضال الفلسطيني المسلح بأشكاله وبفصائل المقاومة ككل، وليس فقط كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس).

ويبرر عباس موقفه ذلك بأن المفاوضات مع إسرائيل بوساطة الولايات المتحدة هي السبيل الوحيد لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وتأسيس دولة فلسطين. وموقف عباس هذا ليس سراً، بل هو موقف معلن ومعروف منذ بدايات الرجل في العمل السياسي الفلسطيني.

وخلال الحملة الانتخابية لرئاسة السلطة، قامت إسرائيل باعتقال وتقييد حركة المرشحين المنافسين لمحمود عباس، الذي حظيت حملته الانتخابية بالتغطية الإعلامية الوحيدة تقريباً. وفي ظل مقاطعة حركة حماس لتلك الانتخابات، فاز عباس كما كان متوقعاً وأصبح رئيساً للسلطة الفلسطينية، في ولاية انتهت دستورياً يوم 8 يناير عام 2009، لكنه ما زال رئيساً للسلطة حتى اليوم.

أمام حشد من الفلسطينيين في رام الله بالضفة الغربية، دعا عباس بعد فوزه بالرئاسة الفصائل الفلسطينية مرة أخرى إلى “إنهاء استخدام السلاح ضد الإسرائيليين”، بينما كان هتاف المحتشدين “مليون شهيد”، في مؤشر واضح على رفض الدعوة.

لكن عباس واصل مسيرته “السلمية” ووسع عمليات التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية برئاسته وبين جيش الاحتلال وشرطته، وهو ما وضعه على مسار تصادمي مع فصائل المقاومة بطبيعة الحال، في ظل مواصلة الاحتلال إجراءاته العدوانية بحق الفلسطينيين وعدم احترامه لأي من الاتفاقيات أو التي وقعها أو القوانين الدولية والإنسانية.

وبعد انتخاب عباس رئيساً بأيام قليلة، شنَّت حركة الجهاد الإسلامي عمليّة هجوميّة استهدفت جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة في 12 يناير 2005 وأسفرت عن مقتل جندي إسرائيلي واحد وجرح ثلاثة عسكريين آخرين، وفي اليوم التالي نسقت كتائب شهداء الأقصى وعز الدين القسام ولجان المقاومة الشعبية هجوماً استشهادياً استهدف معبر كارني (المنطار) أسفر عن مقتل 6 إسرائيليين.

عباس وتصفية انتفاضة الأقصى

كان السبب الرئيسي لاغتيال عرفات هو رفضه جميع محاولات إسرائيل وأمريكا والغرب لوقف الانتفاضة الثانية. ثم قطعت الحكومة الإسرائيلية برئاسة أرئيل شارون علاقاتها مع السلطة برئاسة محمود عباس، واشترطت أن يقوم الأخير بقمع فصائل المقاومة ومنع أي هجمات مسلحة ضد جيش الاحتلال. على إثر ذلك، التقى عباس مع شارون في قمة شرم الشيخ في مصر في فبراير 2005، وكان هدفها إنهاء الانتفاضة الثانية وهو ما أعلنه عباس بالفعل مقابل إفراج شارون عن 900 أسير فلسطيني من بين أكثر من 7500 أسير في معتقلات الاحتلال. ولاحقاً أجبرت عمليات المقاومة شارون على الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيه بشكل كامل، كما انسحبت إسرائيل من بعض مدن الضفة الغربية المحتلة.

كانت الانتخابات العامة الوحيدة التي أجريت في الأراضي الفلسطينية عام 2006 نقطة مفصلية في علاقة عباس بأكبر فصائل المقاومة حماس. نالت حماس أغلبية كبيرة في تلك الانتخابات تسمح لها بتشكيل حكومة فلسطينية، وهو ما رفضته إسرائيل وحليفتها أمريكا، رغم أنها إرادة الشعب الفلسطيني الحرة. وبدلاً من أن يحترم رئيس السلطة الفلسطينية إرادة الشعب، تبنى موقف الاحتلال ورفض أن تشكل حماس الحكومة؛ ليبدأ فصل مرير من الصراع على الساحة الفلسطينية!

علاقة عباس مع إسرائيل

فلسطينياً، ينظر إلى أبو مازن على أنه الأكثر قرباً من إسرائيل وأمريكا وأنه رجل التنسيق الأمني ضد المقاومة. وحظي رئيس السلطة بالدعم من جانب تل أبيب وواشنطن منذ البداية، فهو “رجل أوسلو” ورجل الاتفاقيات.

ففي عام 1999، توقع الشيخ أحمد ياسين، في مقابلة مع قناة الجزيرة القطرية، أن يتولى عباس رئاسة السلطة خلفاً لياسر عرفات: “هناك أسماء مطروحة في الدّاخل، منها محمود عبَّاس وأحمد قريع، وأنا في رأيي أنّ الّذي يخلفه هو الأكثر طواعية في يد أمريكا ويد إسرائيل، والراجح أنّ المُراهنة تمشي بأن يكون محمود عبَّاس هو الخليفة، لأّنه صاحب اتفاقية أوسلو ورجل الاتفاقات والمحادثات؛ فهم مطمئنون أن يظل في الطّريق الّذي يُريدونه”.

تحققت تلك النبوءة للشيخ الراحل ومؤسس حماس، الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي عام 2004، وأكد عباس قولاً وفعلاِ على أنه عدو المقاومة، ففي تعليق له على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على إسرائيل، قال رئيس السلطة الفلسطينية ذات مرة في اجتماع للمجلس المركزي لحركة لحركة فتح: “وأقول للمخابرات أي واحد بشوف أي واحد حامل صاروخ يضربه يقتله يطخة منيح هيك!”.

وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التوجه هو الصدام الذي وقع بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وبين فصائل المقاومة التي رفضت بشكل قاطع أن “تستجدي” الحقوق المشروعة للفلسطينيين من الاحتلال مغتصب تلك الحقوق. ومصطلح “الاستجداء” جاء على لسان مروان البرغوثي، أحد قيادات حركة فتح المعتقلين في السجون الإسرائيلية منذ ما يزيد عن 20 عاماً.

البرغوثي، الذي اعتقلته إسرائيل وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة أثناء انتفاضة الأقصى، قال إن “المفاوضات مع الاحتلال دون مقاومة ما هي إلا استجداء للحقوق من مغتصبيها”، وهذا بالتحديد ما حدث ويحدث دون أن يتوقف الاحتلال عن سياساته الهادفة إلى ابتلاع جميع أراضي فلسطين التاريخية وتهجير أهلها، ودون أن يغير عباس من قناعاته ولا طريقة تعامله مع إسرائيل.

ظل رئيس السلطة الفلسطينية ملتزماِ بما يسميه “التنسيق الأمني” مع إسرائيل منذ توليه الرئاسة وحتى اليوم، بينما ظلت إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة تواصل تهويد القدس الشرقية وتغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى وبناء المستوطنات في الضفة الغربية، وفرض حصار مطبق على قطاع غزة.

وحتى عندما اتخذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قراراته الهادفة إلى تصفية قضية فلسطين بشكل نهائي، من خلال نقل سفارة أمريكا إلى القدس والإعلان عن “صفقة القرن”، التي تقتل عملياً حل الدولتين وتشرعن ضم إسرائيل غالية أراضي الضفة الغربية المحتلة، قرر عباس وقف “التنسيق الأمني” مع إسرائيل لفترة قصيرة ثم تراجع عن تلك الخطوة الرمزية!

وعندما شكل بنيامين نتنياهو الحكومة الحالية، والتي توصف أمريكياً وغربياِ بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، تراجع عباس عن خطوة رمزية تمثلت في استصدار قرار من الأمم المتحدة بإدانة مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية إرضاء للرئيس الأمريكي جو بايدن، وقال عباس إنه تلقى وعداً أمريكيا بأن نتنياهو سيجمد قرارات بناء مستوطنات جديدة، رغم أن نتنياهو نفسه نفى ذلك التجميد.

عباس وتصفية المقاومة في الضفة

في عام 2007، أصدر محمود عباس مرسوما قرر فيه، بصفته رئيسا للسلطة الفلسطينية حظر “كافة المليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية أو شبه العسكرية غير النظامية أيا كانت تبعيتها”، وهو ما أثار غضبا عارما بطبيعة الحال، فوصف “ميليشيات” وصف إسرائيلي بالأساس!

ورفضت الفصائل الفلسطينية المرسوم، بينما أعلنت كتائب “شهداء الأقصى” رفضها القاطع وصفها “بالمليشيات”. وكتائب شهداء الأقصى تعتبر الجناح المسلح لحركة فتح، كانت قد ظهرت على الساحة مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، واتهمت إسرائيل ياسر عرفات ومروان البرغوثي بتشكيلها وتمويلها.

وبعد إصدار عباس مرسومه، تعرض المنتمون لكتائب شهداء الأقصى، في الضفة الغربية تحديدا إلى مطاردات واعتقالات وتصفيات أيضا من جانب الأجهزة الأمنية للسلطة، وبالتنسيق التام مع جيش الاحتلال.

استمرت عمليات الاعتقال والمطاردة لشباب المقاومة في الضغة الغربية من جانب أجهزة الأمن التابعة لسلطة أبو مازن طوال السنوات الماضية. ومنذ عملية “طوفان الأقصى” وتعرض الضفة الغربية لمداهمات يومية من جانب جسش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه، لم تتوقف أجهزة الأمن التابعة للسلطة عن مطاردتها للمقاومين والتنسيق مع الاحتلال.

إذ فككت أجهزة الأمن الفلسطينية 3 عبوات ناسفة كبيرة الحجم وصادرت مجموعة من القنابل محلية الصنع، يوم 25 ديسمبر 2023، في بلدة عزون قرب قلقيلية، حيث عثرت عناصر أمنية على العبوات مجهزة ومخبأة في مكان داخل البلدة، استعدادا للتصدي لأي اقتحام لجيش الاحتلال، وبعد قيام الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بدورها، اقتحم جيش الاحتلال المكان، وأجرى عمليات تفتيش دقيقة!

اتهامات الفساد

أحاطت اتهامات الفساد السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس منذ توليه المسؤولية، لدرجة أن الفساد أصبح العنوان الأبرز لتلك السلطة على مدى السنوات الماضية. ففي عام 2015، نشرت على الإنترنت منظمة أهلية فلسطينية تسمى “عباس لا يمثلني”، مستندات تخص السلطة كشفت تورط ياسر عباس، نجل أبو مازن، في معاملات مالية خاصة بشراء شقق في مجمع سكني فاخر في الضفة الغربية، بحسب تقرير لصحيفة تايمز أوف إسرائيل.

ومع تواصل نشر التقارير التي توجّه اتهامات لنجلي عباس بالتربح من منصب والديهما كرئيس للسلطة الفلسطينية، رفع ياسر عباس قضية تشهير ضد مجلة فورين بوليسي الأمريكية، التي كانت قد نشرت تحقيقاً عنوانه “الأخوان عباس.. هل يكوِّن نجلا الرئيس ثروة طائلة من النظام الذي يرأسه والدهما؟”. لكن محكمة أمريكية رفضت الدعوى التي رفعها ياسر عباس، الذي يحمل الجنسية الكندية، بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو الأمريكية.

ثم عادت قضية الفساد المنتشر في السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن إلى الواجهة بشكل قوي منذ عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، في ظل “الحديث” الأمريكي عن تولي سلطة عباس مسؤولية إدارة القطاع، رغم الفشل الذريع لجيش الاحتلال في كسر المقاومة أو الاقتراب من تحقيق أي من أهدافه.

ففي هذا الإطار، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً عنوانه “فاسدة وفاقدة للمصداقية.. هل يمكن إصلاح السلطة كي تدير قطاع غزة؟”، يرصد الحالة المتردية التي وصلت إليها السلطة الفلسطينية بسبب الفساد وفقدان المصداقية أو الشعبية لدى الفلسطينيين، وهو الوضع الذي يستحيل معه أن تضطلع بأية مهام في غزة، رغم إبداء عباس موافقته على هذا السيناريو.

عاد الدبلوماسيون الغربيون للحديث إلى السلطة الفلسطينية، التي تجاهلوها منذ سنوات، على أمل أن تملأ الفراغ السياسي في غزة، والذي من المرجح أن ينتج في حال نجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها هناك، لكنّ هؤلاء الدبلوماسيين يعرفون أن السلطة لا تتمتع بالشعبية، وينخر الفساد في عظامها، بحسب الصحيفة.

موقف عباس من “طوفان الأقصى”

“طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة حماس على العملية العسكرية الشاملة فجر السبت 7 أكتوبر 2023، رداً على “الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني”، أي إن هذه العملية العسكرية لم تحدث من فراغ، وهذا الوصف جاء في عنوان لتقرير استقصائي نشره موقع Vox الأمريكي.

وهذا ما فصلته الرسالة الصوتية لمحمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، والتي أعلن فيها “بدء عملية طوفان الأقصى”، حيث بدأ الضيف رسالته بسرد تفصيلي لما وصفها بأنها “الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وتنكره للقوانين الدولية، وفي ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي”.

فتحدث القائد العام عن الأوضاع غير الإنسانية التي يعاني منها الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، والتي أودت بحياة المئات منهم، ذاكراً كيف “رفضت حكومة الاحتلال مراراً عقد صفقة إنسانية لتبادل الأسرى وتحسين أوضاع الأسرى الفلسطينيين”.

وتطرق الضيف في رسالته إلى ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية من توسع في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي يعترف العالم كله بأنها أراضٍ محتلة، وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وبلداتهم في القدس والضفة الغربية الواقعتين تحت الاحتلال.

“في كل يوم تقتحم سلطات الاحتلال بيوتنا وقرانا وبلداتنا ومدننا على امتداد الضفة الغربية (المحتلة)، وتعيث فيها فساداً، وتداهم بيوت الآمنين، تقتل وتصيب وتهدم وتعتقل، حيث ارتقى المئات من الشهداء والجرحى في هذا العام جراء هذه الجرائم. وفي الوقت نفسه، تصادر الآلاف من الدونمات وتقتلع أهلنا من بيوتهم وأراضيهم ومضاربهم، وتبني مكانها المستوطنات، وتحمي قطعان المستوطنين وهم يعربدون ويحرقون ويسرقون ويهلكون الحرث والنسل، في الوقت الذي تستمر فيه سلطات الاحتلال بفرض الحصار المجرم على قطاعنا الأبي (غزة)”.

كما سرد الضيف ما يتعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات متكررة من المتطرفين في حماية شرطة وجيش الاحتلال ومسؤوليه ووزرائه، في إشارة إلى وزير الأمن الداخلي في الحكومة الإسرائيلية، إيتمار بن غفير.

“وفي ظل عربدة الاحتلال وتنكره للقوانين والقرارات الدولية، وفي ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي، فقد قررنا أن نضع حداً لكل ذلك بحول الله”، بحسب نص كلمة الضيف.

فماذا عن موقف رئيس السلطة الفلسطينية من طوفان الأقصى؟ اتخذ عباس موقفاً مثيراً للجدل من عملية طوفان الأقصى أثار استياء الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، فلم يدِن هجوم طوفان الأقصى، ما أغضب المسؤولين الإسرائيليين، بينما علّق على الهجوم قائلاً: “إن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني”، وهو ما أغضب كثيراً من الفلسطينيين.

ليس سراً أن عباس يرفض أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، وكان قد وصف من قبل صواريخ المقاومة بأنها “صواريخ عبثية”، وعداء رئيس السلطة لفصائل المقاومة عموماً، ولحماس خصوصاً، ليس سراً أيضاً.

والآن بعد أن أعادت عملية “طوفان الأقصى” إحياء قضية فلسطين وجعلها القضية الأولى ليس في المنطقة فقط ولكن حول العالم، وبعد أن أصبحت حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة مطلباً دولياً للحفاظ على ما تبقى من أي شرعية للنظام العالمي الحالي، يعلن عباس وسلطته الاستعداد الكامل لتنفيذ المخطط الأمريكي فيما يتعلق بقطاع غزة.

هل يضيع عباس الفرصة التاريخية؟

“السلطة الفلسطينية مستعدة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء حرب إسرائيل مع حماس، لكن ذلك سيكون فقط في إطار حل سياسي شامل يضم تأسيس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية”، بحسب ما قاله عباس عقب لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أوائل نوفمبر في رام الله.

ماذا يعني ذلك؟ في الوقت الذي تشنّ فيه إسرائيل عدواناً على قطاع غزة وصفه عباس نفسه بأنه “إبادة جماعية”، وفي الوقت الذي يتعرض فيه الفلسطينيون في الضفة الغربية لهجمات لا تتوقف ومداهمات وغارات يقوم بها جيش الاحتلال والمستوطنون، لا يزال رئيس السلطة الفلسطينية يرفع شعار “المفاوضات” مع الاحتلال ويرفض خيار المقاومة.

توجه عباس إلى الأردن للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، الداعم الأكبر لإسرائيل والذي جاء لزيارتها وسط الحرب تجسيداً لهذا الدعم، لكن جريمة استهداف الاحتلال لمستشفى المعمداني في غزة أفسدت هذا اللقاء وأجبرت عباس على العودة إلى رام الله.

تجمع الفلسطينيون أمام المقاطعة -مقر السلطة الفلسطينية في رام الله- للتعبير عن غضبهم من جريمة استهداف المستشفى، فهاجمتهم قوات الأمن التابعة لسلطة عباس بقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريقهم! صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً ميدانياً عما حدث في تلك الليلة تحت عنوان “ساندوا شعبنا.. ازدياد الإحباط تجاه قيادة فلسطين في الضفة”.

“من غزة إلى جنين” و”بالروح بالدم نفديك يا حماس”، كان هذا من بين الهتافات التي رددتها حشود كبيرة في الضفة الغربية تجمعت للترحيب بالأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم من السجون الإسرائيلية ضمن صفقة تبادل الأسرى التي نُفذت بين حماس وإسرائيل بوساطة قطرية، وذلك في مؤشر واضح على تصاعد شعبية حماس بالضفة.

ففي الوقت الذي يقدم عباس السلطة للغرب كبديل لحماس في حكم غزة، ترتفع شعبية حماس في الضفة الغربية وتتراجع شعبية فتح، منذ طوفان الأقصى، لكن هذا الصعود في شعبية حماس والتراجع في شعبية فتح بدأ قبل طوفان الأقصى، حسب تقارير إعلامية غربية.

فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تراجعاً حاداً في تأييد عباس الذي تمّ تهميشه بسبب الحرب، ولكن يُنظر إليه دولياً على أنه شريك في إحياء عملية السلام التي انتهت عملياً منذ فترة طويلة.

الرئيس الفلسطيني، الذي يتفاخر دائماً بالتزام السلطة تحت قيادته بالتنسيق الأمني ومحاربة المقاومة التي يصفها بأنها “إرهاب”، ما زال متحفظاً على فكرة المقاومة المسلحة، متمسكاً فقط بالتسوية السلمية كسبيل للحل، رغم أنها تسوية ماتت إكلينيكياً، فهل يريد عباس أن يضيع فرصة إحياء قضية فلسطين الآن كما أضاعها منذ توليه رئاسة السلطة؟!

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق