مقالات
إرادة الجزائريين تنتصر في الاستحقاق التّاريخي – مصطفى قطبي
في المفهوم الاستراتيجي وفي لغة العلاقات الدولية يقرأ إصرار الدولة الجزائرية على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها من قبل الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً على أنه بالدرجة الأولى إعلان رسمي من الدولة الجزائرية عن انتصارها سياسياً. وما يؤكد صحة وجدية هذه القراءة هي نتائج الانتخابات الرئاسية في الجزائر حيث جاءت لتعبر عن الإرادة الحية للشعب الجزائري الذي وجه صفعة قوية للقوى الاستعمارية وعملائها، معبرة عن أن الشعب الجزائري وحده من يختار رئيسه ويبني مستقبل الجزائر بعيدا عن أي تدخل خارجي .
فالذي حدث يوم الجمعة 13 ديسمبر/كانون الأول، له دلالات عميقة. فهو يعني الوحدة الوطنية التي شكلت حجر الأساس في صمود شعبنا ضد أعتى أشكال التآمر، وتالياً هو تعبير عن الاستقرار والعودة إلى الأمان. إنّ إقبال الجزائريين على صناديق الاقتراع في داخل الجزائر أو في بلاد الاغتراب وانتخاب السيد الرئيس عبد المجيد تبون في انتخابات ديمقراطية وفي جو من الحرية والشفافية كشف حقيقة النفاق الغربي الذي سعى منذ بداية الحراك الشعبي على تضليل الرأي العام الدولي من خلال وسائل الإعلام المأجورة وبث الإشاعات وتلفيق الأخبار وتزييف الحقائق لما يجري في الجزائر.
هي تلك الموجة العارمة من ارتدادات حدث الاستحقاق الرئاسي التي ضربت على الفور الدول الغربية والتي ظهرت في وسائلها الإعلامية الموجهة، على شكل ارتباكات سياسية وردات فعل عشوائية تجلت بسلسلة من التصريحات السياسية والتصرفات الخارجة عن التقاليد والأصول السياسية والدبلوماسية التي بدت متخبطة ومتعثرة تارة و هوجاء ومتسرعة إلى درجة الحماقة تارة أخرى.
وعلى هذا الأساس تبدو قراءة ما بين السطور واجبة وضرورة استراتيجية بكل دقائقها وتفاصيلها وأفعالها وردات فعلها التي قد تضرب في أماكن غير متوقعة لكنها حتماً لن تخرج عن السياق الطبيعي للحدث وتداعياته، وهذه الضرورة الاستراتيجية توجبها تلك الحركة لصيرورة الأحداث من بدايتها سواء في الجزائر أو في بعض ما يسمى بدول ”الربيع العربي”، والتي تحكمها صراعات دولية بحتة على خلفيات وقواعد وأطماع استعمارية لا تزال تتحكم بالمشهد الدولي من جهة ولا تزال تسيطر على عقلية بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا.
القراءة الغربية لإصرار الدولة الجزائرية على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها هو بلا شك اعتراف ضمني بالهزيمة من قبل تلك الدول التي تترفع حتى هذه اللحظة عن الإخبار أو الإجهار به وهو أمر غير وارد بالعلاقات بين الدول لاعتبارات قد تؤثر على ديمومتها ووجودها وبنيتها كالخوف من تصدع مؤكد وفي أحيان كثيرة انهيار محتمل لمنظومة الدولة جراء الإحباط الذي يضرب كل أركانها بدءاً من القاعدة وحتى رأس الدولة. ومن هذا المنطلق يقرأ التغير في مواقف بعض الدول جراء ما يجري في الجزائر خلال الأيام الماضية على أنه يصب في نفس السياق الاستراتيجي لطبيعة العلاقات بين الدول لجهة الأخذ بعين الاعتبار كل تبدل أو تغير أو تطور مهما كان صغيراً أو كبيراً لان ذلك يعني بلغة الاستراتيجية وبلغة العلاقات الدولية موقفاً معيناً أو مدلولاً ما لموقف قد يتخذ أو يحدث قريباً أو على وشك الحدوث.
وانطلاقاً من ذلك تبدو مشاركة الجزائريين في هذا الاستحقاق الوطني وبعيداً عن كونها حقاً دستورياً وواجباً أخلاقياً وشرعياً ووطنياً في هذا الظرف الاستثنائي الذي يعيشه الوطن… تبدو في منظورها الأوسع والأشمل رسالة إلى كل العالم بأنهم وحدهم من يقررون مصيرهم ويرسمون مستقبلهم ويصنعون غدهم ولا يمكن لأي قوة في هذا العالم مهما بلغت من جبروت وطغيان أن تجبرهم على ما لا يريدون أو أن تنوب عنهم في هذه المهمة التي تحدد مصيرهم ومستقبلهم، وهو ما يفتح الباب على الهدف الأسمى من وراء إصرارهم على ممارسة حقهم في انتخاب رئيسهم وهو الحفاظ على تاريخهم الناصع الذي يفيض بنضالاتهم وتضحياتهم من أجل حريتهم وديمقراطيتهم وكرامتهم التي يحاول أعداء اليوم امتهانها وقتلها في نفوس كل الجزائريين.
ومن الطبيعي أن يسقط هؤلاء من عيوننا، وأن نرى في كل واحدٍ منهم صورة دجّال وكذاب ومفتر وسفيه، فليثرثروا ما شاءَ لهم غيُّهم أن يثرثروا، وليعبّروا عمّا شاءَ لهم شيطانهم أن يعبّروا، وليفسقوا وليفجروا إلى أقصى حدود الفسق والفجور، فإن ظلامهم لا يمكن أن يؤثر على ما يضيء صدورنا وعقولنا من نور، ونورنا لا يمكن أن يدحره ما يسلطونه علينا من ديجور. وهم ـ مهما تكالبوا وتألبوا ـ لن يستطيعوا تخليص أنفسهم من وصمة العار، وممّا لحق بهم وبعملائهم من شنار. فلقد بات من الثابت الآن أنهم مجرّد عصابة من الأشرار .
حين قال شعبنا الجزائري في الانتخابات كلمته، واختار الرئيس الذي يثق به ليقوده في مواجهة التحديات موجهاً إلى وجوه أعدائه لطمته، كان يثبتُ بما لا يدعُ مجالاً للشك أنه يمتلكُ إرادته وهمّته، وأنه مصمّمٌ على مواجهة الأوغاد، الذين طغوا في البلاد، وأشاعوا الفساد، وأنه مستعدٌ لمنازلتهم في كلّ وادٍ وناد. وما نحنُ على ثقة منه أنّ هذه الإرادة الحرّة، هي جزءٌ من مجموع إرادة الأمّة، وهي تواجه ما يرادُ لها من غُمّة، وأن مشروع “الفوضى في الجزائر” ساقطٌ بكلّ تأكيد، وأن جماهير هذه الأمة لن تتراجع عن أهدافها في التحرر والوحدة والعدالة ولن تحيد. فما قاله شعبنا في الجزائر، مثلما يقوله الآن شعبنا العربي في شتى أقطاره وهو يواجه أخطبوط العصر، هو القول الفصلُ الذي يقطع الطريق على كلّ وغدٍ ونذل. فليأخذ الأوغادُ الاستعماريون عملاءهم في أحضانهم، وليلبسوا عليهم ما شاؤوا من أباطيلهم، فلقد جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
لقد تكشفت خيوط المؤامرة على الجزائر، واتضح كلّ ما جند في خدمتها من التضليل والبهتان، وباتت أدواتها معلومة، وأساليبها مفهومة، وهذا يعني أن كلّ ما ادّخروه من زادٍ للمؤامرة ناله العطب، وتحوّلت الخشب المسندة التي اعتمدوها إلى حطب ملتهب. وهذا هو رماد وقود مؤامرتهم تذروه الرياح. وها هم عملاؤهم الذين اتخذوا منهم عصيّاً يتكئون عليها يتحوّلون إلى مجرّد أشباح. وبوسع شركائهم أو عملائهم المنافقين أن يترقبوا النهاية الطبيعية لكل مؤامرة تكشفت أبعادها بعد أن كانت في البداية مضمرة مخفيّة. ولن يلحقهم جميعاً من وراء ما ارتكبوه من أفعال خسيسة سوى العار والشنار، وغير الخزي والفشل والاندحار.
ما سبق ربما وإلى حد بعيد يفسر هذا الرعب الذي يعتري نفوس كل الذين لا يزالون يراهنون على انهيار الدولة ومؤسساتها وتفكك واحتراب مكونات الشعب الجزائري وأطيافه لأن نجاح الاستحقاق الرئاسي يعني بالدرجة الأولى انكشاف الغطاء عن أعداء الشعب الجزائري الذي يدعون خوفهم وحرصهم على حريته وديمقراطيته والذي صدعوا رؤوسنا بأحاديثهم المعسولة تلك، وهو الأمر الذي وكما يعتقد الكثيرون سيكون لهم الضربة القاضية لأنهم كانوا باختصار يخشون صناديق الاقتراع التي تكشف كذبهم وزيف ادعاءاتهم من جهة والتي تكشف من جهة أخرى حجمهم الحقيقي على الأرض الذي لا يكاد يكون موجوداً إلا حيث تسود لغة الفوضى وامتهان الإنسان والإنسانية.
لقد أثبت الجزائريون أن إرادتهم فوق أي رئيس فقد عرفوا طريق الميادين وكيفية التظاهر فيها بطريقة سلمية تجبر أي رئيس على تنفيذ مطالبهم حتى ولو كانت التخلي عن كرسي الرئاسة… على العموم نتمنى أن يتمكن الرئيس عبد المجيد تبون من حل مشكلات الشعب المزمنة وأن يتغلب على التحديات والعقبات التي تقف في طريق التنمية وفي مقدمتها الديون وعجز الميزانية وبصفة عامة تحسين الوضع المعيشي، وتحريك عجلة الاقتصاد الجزائري وتوفير فرص عمل، فضلًا عن الشأن السياسي الداخلي والمواءمة والمصالحة بين مكونات الشعب الجزائري وأحزابه السياسية وبناء دولة مؤسسات تقوم على الشراكة الحقيقية بين كافة المكونات الممثلة بالأحزاب، إلى جانب العلاقات الدولية التي تربط الجزائر بدول العالم، فهذه التحديات من الممكن أن يُذيبها الشعب الجزائري ويتغلب عليها وينجح في وضع قدمه الأخرى، بعد أن نجح في وضع قدمه الأولى بإجراء انتخابات رئاسية تاريخية، نزيهة وبريئة من التزوير والفساد، فهم في النهاية في مركب واحد وليسوا في مراكب متعددة.