أخبار من أمريكا
هل يمكن أن ينسحب بايدن من الشرق الأوسط؟ الأمر ليس سهلاً لهذه الأسباب
إبان حملته الانتخابية جادل الكثيرون بأنه فور وصوله إلى البيت الأبيض سيشرع الرئيس الأمريكي جو بايدن في الانسحاب تدريجياً من الشرق الأوسط وسيزيد من اهتمام بلاده بمناطق أخرى مثل وسط آسيا لوقف نفوذ الصين وروسيا.
لكن يبدو أن هذا التكهنات اصطدمت بالواقع المرير في الشرق الأوسط والخلافات المتشابكة، مما يجعل فكرة خروج الرئيس الأمريكي الجديد من المنطقة أمراً في غاية الصعوبة وسيكلف واشنطن الكثير.
وليس بايدن وحده من تبخرت رؤيته المعنية بالخروج من المنطقة، فقبله الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي خلال فترته الرئاسية قرر أن يتجاوز الانخراط الأمريكي المعتاد في شؤون الشرق الأوسط، وأن يجعل القارة الآسيوية وقواها الصاعدة مدار تركيزه، لكن “الربيع العربي” والحرب الأهلية السورية وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والبرنامج النووي الإيراني كلها قضايا حالت دون غايته، وأبت إلا أن تسحبه إليها في كل مرة.
على النحو نفسه، وعلى الرغم من كل الضجيج الذي أثاره دونالد ترامب بشأن إنهاء “حروب أمريكا الأبدية”، فقد أوشك على إشعال حرب مع إيران، وأرسل 14 ألف جندي أمريكي إلى المنطقة، وفي النهاية، لم تحمل فترته الرئاسية تغييراً كبيراً فيما يتعلق بالالتزام الأمريكي بنشر قوات عسكرية على امتداد المنطقة مترامية الأطراف. والآن، يُبدي بايدن، أكثر حتى من أسلافه، إشارات إلى عزمه على خفض منزلة الشؤون الخاصة بالشرق الأوسط في قائمة أولويات أمريكا العالمية.
بايدن وتأخير التواصل مع زعماء المنطقة
على أثر ذلك، استغرق بايدن وقتاً طويلاً لإجراء أول مكالمة هاتفية له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لدرجة أن المتحدثة باسم الرئاسة الأمريكية، جين ساكي، شعرت بأنها مضطرة، رداً على أحد المراسلين، إلى إعلان أن بايدن لا يقصد إلى “تجاهل متعمد” (كما لو أن التجاهل غير المتعمد ليس أشد إهانة في بعض الأحيان). وأجرى بايدن المكالمة أخيراً، في 17 فبراير/شباط، أي بعد شهر تقريباً من توليه منصبه. وانتظر أسبوعاً آخر للاتصال بالعاهل السعودي الملك سلمان، قبل أن ترفع إدارته السرية عن تقرير يتهم نجله، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بالموافقة على جريمة القتل التي شهدت تقطيع أوصال الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
غير أن بايدن الذي تعهد خلال حملته بجعل السعودية دولة “منبوذة”، خيّب آمال العديد من أنصاره بعدم معاقبته ولي العهد. لكنَّ خبراء آخرين يقولون إنه لا يريد مزيداً من الاضطرابات في الشرق الأوسط بقرارات قد تنطوي على تهديد التحالفات الأمريكية القديمة، بل ما يريده هو أن يتلقى الحلفاء رسالة مفادها أن يتوقعوا معاملة جديدة أكثر موضوعية من الأمريكيين.
على هذا النحو، جمّد بايدن شحنة أسلحة هجومية كانت مقررة إلى السعودية وأمرَ بمراجعة صفقات الأسلحة المقررة إلى الإمارات. كما لم يبدِ كثيراً من الاهتمام بملاحقة أحلام الوصول إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الغاية التي لطالما سعى وراءها الرؤساء الخمسة الأمريكيون السابقون.
إضافة إلى ذلك، بدأ وزير الدفاع الأمريكي الجديد، لويد أوستن، إجراء مراجعة تقييمية لطبيعة وحجم القوات الأمريكية المنتشرة في الخليج بطريقةٍ تنم عن تحول تنصرف معه أمريكا عن التركيز على شؤون المنطقة. وهو ما دفع مارتن إنديك، مبعوث أوباما الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية والمسؤول في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، إلى القول: إن ما يحدث “كثيرٌ على أن يستوعبه الزعماء في المنطقة”، كما تقول مجلة The Economist البريطانية.
هل الشرق الأوسط يحتاج إلى هذا العناء؟
ومع ذلك، فإن الأمر ليس مفاجئاً، لا سيما إذا استحضرنا التحول الذي يعتمل في تفكير خبراء الشرق الأوسط من ذوي الميول اليسارية. ومن هؤلاء مارتن إنديك، الذي كان في يوم من الأيام سفير الولايات المتحدة في إسرائيل وكرّس جزءاً كبيراً من حياته المهنية للسعي لتحقيق السلام، إذ نشر مقالاً في صحيفة The Wall Street Journal العام الماضي، ولخّص في عنوانه إجماعاً ناشئاً في أوساط الخبراء الأمريكيين في شؤون المنطقة: “الشرق الأوسط لم يعد يستحق هذا العناء”.
يذهب هذا الرأي إلى أن مصالح أمريكا الجوهرية في المنطقة -حماية النفط السعودي وإسرائيل- لا تنفك تتراجع من جهة الأهمية.
وأسباب هذا التراجع عديدة، فالولايات المتحدة، وإن كانت لا تزال مهتمة باستقرار سوق النفط العالمية، فإن واقع الحال أنها تستورد نفطاً من المكسيك أكثر مما تستورده من السعودية، إضافة إلى الاحتياطي الكبير لديها. وإسرائيل، القوة النووية الوحيدة في المنطقة، لا تواجه أي خطر وجودي. علاوة على ذلك، فإن تمزق الشرق الأوسط الآن مرجعُه انقسامٌ سني شيعي أكثر منه صراع عربي إسرائيلي، لا سيما مع اصطفاف إسرائيل إلى جانب الدول العربية السنية، وعلى رأسها السعودية، ضد إيران.
وتأييداً لهذا الرأي، كتب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي لبايدن، في مجلة Foreign Affairs، العام الماضي، أن التحول في المصالح لا يعني أن أمريكا “ينبغي أن تترك المنطقة تماماً”، وإنما خلص إلى أن الدبلوماسية الحصيفة “ستسمح للولايات المتحدة في النهاية بإجراء تخفيضات عسكرية مستدامة” لقواتها في المنطقة.
ومع ذلك، فإن هناك عقبة مألوفة تمنع الخروج: وهي إيران. وهكذا جاء من ضمن أوامر بايدن الأولى فيما يتعلق بالأعمال غير المنجزة: كبح البرنامج النووي الإيراني، والتعامل مع وكلاء إيران في المنطقة، بدءاً من اليمن.
قالت إدارة بايدن إنها مستعدة لاستئناف المفاوضات حول “خطة العمل الشاملة المشتركة”، التي وقَّعها أوباما وانسحب منها ترامب، لكن في نهاية فبراير/شباط، رفضت إيران فكرة إجراء محادثات مباشرة مع الأمريكيين، ما لم يلتزموا مسبقاً برفع بعض العقوبات المفروضة على البلاد. ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية إن إيران يجب أن تعود إلى الانصياع لبنود الاتفاق قبل البحث في رفع أي عقوبات.
جميع الأطراف تناور
يعتقد كل جانب أن الآخر يريد استعادة الاتفاق، وكلاهما يناور لاكتشاف من يريدها أكثر من الآخر. ومع ذلك، قد تخلق الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو/حزيران بعض الضغوط المتعلقة فيما يتعلق بالمواعيد النهائية لعودة التفاوض أو رفع العقوبات، فأقل ما في الأمر أن تشكيل حكومة جديدة، من المتوقع أن تكون أكثر تشدداً، قد يفضي إلى قطع أو تأجيل أي مفاوضات بين الطرفين.
هذه القضايا تنبئ بفترةٍ مزدحمة بالتبادلات الدبلوماسية في شهور الربيع المقبلة. وبخصوص ذلك، يقول علي فايز، الخبير في الشؤون الإيرانية في “مجموعة الأزمات الدولية” (ICG)”، وهي منظمة غير حكومية مقرها في بروكسل: “لقد شاهدت هذا الفيلم من قبل”، وأشار فايز إلى أنه قبل الاتفاق الأصلي، أصرَّ كل طرف أيضاً على أن الطرف الأول يجب أن يبادر بالتحرك أولاً. وأضاف: “بالنظر إلى طاقم الشخصيات في هذه الإدارة، لا أتخيل أنهم سيتركون الاتفاقية تنهار أمام أعينهم”. ويستشهد فايز بأحد المفاوضين المخضرمين في الاتفاقية الأصلية، روب مالي، الذي عاد الآن ليصبح المبعوث الخاص لبايدن إلى إيران.
روب مالي، الذي كان حتى وقت قريب رئيس “مجموعة الأزمات الدولية”، أصدر قبل رحيله عنها تقريراً غير موقع يتناول فيه الخطوات التي يجب على أمريكا اتخاذها للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. وشملت هذه الخطوات التزاماً من إدارة بايدن بدعم قرضٍ طارئ من صندوق النقد الدولي لمساعدة إيران في مواجهة جائحة كورونا، ويلي ذلك جدول زمني تفاوضي لإيران للتراجع عن انتهاكاتها للاتفاق. ومقابل ذلك، تقدم أمريكا بعض التخفيف للعقوبات مع كل مرة تصدّق فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية على تراجع إيران عن انتهاكاتها للاتفاق، وذلك في عملية قد تستغرق من شهرين إلى ثلاثة أشهر.
بعد ذلك، وعقب أن يتولى رئيس إيراني جديد منصبه، يمكن لأمريكا وحلفائها متابعة التفاوض حول ما تسميه الإدارة الأمريكية اتفاق متابعةٍ “أطول مدى وأشد إحكاماً”. وقد يطرح هذا الاتفاق مقايضة التطبيع الاقتصادي مع إيران بضمانات طويلة الأمد من جانبها بالمحافظة على الطبيعة السلمية للبرنامج النووي، وفرض قيودٍ على صواريخها الباليستية وتطويرها.
وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين في إدارة بايدن كانوا قد مالوا في البداية إلى ضرورة العودة إلى الاتفاقية النووية كاملة أولاً، فإن الظاهر الآن أن هذا النقاش قد حُسم لصالح النهج التدريجي في التفاوض.
تسريع المفاوضات مع إيران أم الانتظار؟
من جهة أخرى، يعتقد مستشارو بايدن أن عودة المفاوضات الدبلوماسية النووية مع إيران ستخلق أساساً لأمريكا لتضغط عن طريقه من أجل إجراء محادثات بين القوى الإقليمية لإنهاء صراعاتها بالوكالة في المنطقة. ويريد الأمريكيون أن يبدأوا باليمن، حيث يقاتل المتمردون الحوثيون، المدعومون من إيران، قوات الحكومة المدعومة السعودية منذ سبع سنوات. وتثقل قضية اليمن ضمائر العديد من مسؤولي بايدن بسبب الدعم الذي قدمته إدارة أوباما لحرب السعودية في اليمن. وبطبيعة الحال كثّفت إدارة ترامب هذا الدعم، واليوم تعتبر الأمم المتحدة الأوضاع في اليمن أفظع أزمة إنسانية في العالم.
وقد عيّن بايدن بالفعل مبعوثاً للضغط من أجل اتفاق سلام في اليمن، وهناك مؤشرات على إحراز تقدم في التفاوض، على الأقل بين القوى الخارجية. ومع ذلك، فإن المقاتلين على الأرض لم يظهروا بعد اهتماماً كبيراً بمساعي وقف القتال.
يلفت جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، في مقاله المنشور في مجلة Foreign Affairs العام الماضي، إلى أن الشرق الأوسط هو “المنطقة الأشد وقوعاً تحت مخاطر نقص المؤسسات في العالم”، حيث لا يوجد شيء مثل “الاتحاد الإفريقي” أو “منظمة الدول الأمريكية” لمراقبة الالتزام بالأعراف والقواعد المتفق عليها.
وما زال الحال كذلك، بل إن الوصول إلى أي منظمة إقليمية فعالة لا يزال أمراً بعيد المنال. والواقع أن الأعضاء المفترضين في منظمة من هذا النوع ينزعون الآن أكثر من أي وقت مضى إلى السير في طريقهم الخاص. على سبيل المثال، قررت الإمارات العام الماضي تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وأرسلت الشهر الماضي مركبة فضائية في مدار حول المريخ، في حين اختفت مصر، المنهمكة في مشاكلها الاقتصادية، عن دورها القيادي التاريخي.
ومن جانب آخر، تمتلك كل من السعودية وإيران مصلحة قوية في استمرار العداء بين الولايات المتحدة وإيران، فالسعودية -حالها حال الإمارات وإسرائيل- تستفيد من الحماية المكلفة للقوات الأمريكية، أما إيران فيستمد نظامها شرعيته من مواجهته المستمرة مع الشيطان الأكبر [الولايات المتحدة]. وأضف إلى الأزمة في اليمن: الجرح المتقيح في سوريا، وهشاشة الأوضاع في العراق، والتصلب التركي، وكارثة إنسانية وحقوقية في إثيوبيا؛ كل ذلك سيجبر بايدن على إيلاء مزيد من الاهتمام، على خلاف ما كان يرغب.
إما أن يفعل بايدن ذلك، وإما سيضطر إلى تبني دور الواقعي الذي لا يعبأ بشيء، ويترك المنطقة لتصريف أمورها بنفسها. غير أن معاملته لولي العهد السعودي -بإشانته على أفعاله دون معاقبته، واحترام النظام لكن مع الدعوة إلى إصلاحه- كلها محاولات على ما يبدو لوضع حدٍّ فاصل.
يلخص السيناتور كريس مورفي، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، الأمر بالقول: إن الإدارات الأمريكية دائماً ما تجد أنه من الأسهل التحدث عن تحويل تركيزها عن الشرق الأوسط بدلاً من القيام بذلك عملياً. ويقول مورفي: “هناك دائماً أزمة. ودائماً ما يكون هناك شيء جديد ومثير للانتباه يحدث في الشرق الأوسط، في حين أن مسار الصين عادة ما يكون بطيئاً وهادئاً وثابت الوتيرة”.