مركز الدراساتمشاهير

مواجهة الديستوبيا: “أبو الإنترنت” يطرح خطة عالمية د. رغدة البهي

أطلق العالم البريطاني “تيم بيرنرز لي” المعروف باسم “أبو الإنترنت” (الذي طرح في 1989 مشروع الشبكة العالمية www من خلال المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن CERN”، وطور في عام 1990 أول متصفح إنترنت) رسميًّا خطة عمل عالمية، تُعرف باسم “العقد من أجل الويب”، في 25 نوفمبر الماضي، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ العالمية الهادفة إلى إنقاذ شبكة الإنترنت من التلاعب السياسي، والأخبار المزيفة، وانتهاكات الخصوصية، وغيرها من الأمور الخبيثة التي تهدد بإغراق العالم في “الديستوبيا”.

دوافع متعددة

تُعرف “الديستوبيا” بأنها العالم الرقمي المرير، وهي المجتمع الخيالي الفاسد أو المخيف أو غير المرغوب فيه. وهي أيضًا المجتمع غير الفاضل الذي تسوده الفوضى. وفي هذا السياق، صرح “تيم بيرنرز لي” بقوله: “خوف الناس من حدوث أشياء سيئة على الإنترنت أصبح أكبر وأكبر وعلى نحوٍ مبرر.. إذا تركنا الشبكة كما هي، فهناك عددٌ كبيرٌ جدًّا من الأشياء التي سوف تسوء. ويمكن أن ينتهي بنا المطاف إلى الديستوبيا إذا لم نغير الأمور. لا نحتاج إلى خطة مدتها 10 سنوات للشبكة، بل نحتاج إلى تحويلها الآن”.

وفي هذا السياق، قالت مديرة السياسة في مؤسسة الإنترنت “إيملي شارب”: “إن شبكة الإنترنت تتعرض لتهديداتٍ عدة. ويطالب الناس بالتغيير. نحن مصممون على تشكيل هذا النقاش باستخدام الإطار الذي يحدده العقد”. وأضافت: “في النهاية نحتاج إلى حركةٍ عالميةٍ لشبكة الإنترنت مثلما لدينا الآن حركات مماثلة للدفاع عن البيئة، بحيث تكون الحكومات والشركات أكثر استجابة للمواطنين مما هي عليه اليوم. العقد يضع الأسس لهذه الحركة”.

ولهذا، وضع “تيم بيرنرز لي” عقدًا للإنترنت “لحماية الشبكة العالمية. وهو العقد الذي قام بإعداده نحو 80 منظمة منذ أكثر من عام. ويتأسس هذا العقد على تسعة مبادئ رئيسية مقسمة إلى ثلاثة مبادئ للحكومات، وثلاثة مبادئ مماثلة للشركات، وثلاثة مبادئ أخرى للأفراد. وهي المبادئ التي تتطلب في مجملها تقيد الحكومات والشركات والأفراد بالتزاماتٍ ملموسة لحماية الشبكة العالمية من سوء الاستخدام وضمان استفادة البشرية منها.

المبادئ الحاكمة

يتضمن العقد تسعة مبادئ أساسية يتعين على الحكومات والشركات والأفراد الالتزام بها بشكلٍ فعليٍ من أجل حماية الإنترنت من سوء الاستخدام وضمان استفادة البشرية منها، بما في ذلك ضمان الوصول للإنترنت بأسعارٍ معقولة، واحترام الخطاب المدني، والكرامة الإنسانية.

مبادئ العقد تتطلب من الحكومات بذل كل ما في وسعها لضمان احترام رغبات الأفراد في الاتصال بالإنترنت، جنبًا إلى جنب مع احترام خصوصيتهم. وعلى الحكومات أيضًا أن تضمن بالمثل حقوق الأفراد في الوصول إلى البيانات الشخصية التي تتعلق بهم على اختلاف الجهات التي تقوم بمعالجتها. ويحق للأفراد أيضًا الاعتراض على معالجة تلك البيانات بل والانسحاب منها.

وتُلزم مبادئ أخرى الشركات بإتاحة الإنترنت للجميع، فضلًا عن تطوير خدمات الإنترنت للأشخاص ذوي الإعاقة، والمتحدثين بلغات الأقليات. ولبناء الثقة عبر الإنترنت، تُجبر مبادئ العقد الشركات على تبسيط إعدادات الخصوصية من خلال توفير لوحات تحكم، حيث يمكن للأشخاص الوصول إلى بياناتهم وإدارة خيارات الخصوصية في مكانٍ واحد. بجانب تنويع القوى العاملة، والتشاور قبل وبعد إصدار منتجاتٍ جديدة، وتقييم مخاطر نشر التكنولوجيا الخاصة بهم حال نشر معلوماتٍ مضللةٍ أو الإضرار بسلوك الأشخاص أو رفاهيتهم الشخصية.

وتدعو المبادئ الثلاثة الأخرى الأفراد إلى إنشاء محتوى غني وملائم لجعل شبكة الإنترنت مكانًا ذا قيمة، وبناء مجتمعات قوية على الإنترنت، يشعر فيها الجميع بالأمان والترحيب. وأخيرًا، القتال من أجل الشبكة، بحيث تظل مفتوحة للجميع في كل مكان.

وفي السياق ذاته، يقول “أبو الإنترنت” إن “القوى التي تأخذ الشبكة في الاتجاه الخاطئ كانت دائمًا قوية للغاية.. سواء كانت شركة أو حكومة، فإن التحكم في الويب هو وسيلة لتحقيق أرباح ضخمة، أو وسيلة لضمان بقائك في السلطة. ويمكن القول إن الأشخاص هم الجزء الأكثر أهمية في هذا الأمر، لأنهم سيحاسبون الآخرين”.

ويتضمن العقد -بجانب مبادئه التسعة- 72 بندًا، تشكل في مجملها رؤية مشتركة كي يطبق العقد على أرض الواقع، بالإضافة إلى خارطة طريق تتضمن أدواتٍ لمحاسبة الشركات والحكومات إذا أخلت به. وعلى داعمي العقد أن يثبتوا تطبيق المبادئ التي ينص عليها، ويعملوا على إيجاد حلولٍ للمشكلات والتحديات الخطيرة. ودون ذلك، تتم إزالتهم من قائمة المؤيدين.

ردود الأفعال

حظي العقد -الذي نشرته مؤسسة “شبكة بيرنرز لي”- بدعم ما يزيد عن 150 مؤسسة. كما حظيت المبادرة عند إطلاقها بدعمٍ واسعٍ من شركات التكنولوجيا الأبرز، مثل: مايكروسوفت، وجوجل، وفيسبوك، بجانب مجموعاتٍ غير ربحية، مثل مؤسسة الحدود الإلكترونية. كما وقعت ألمانيا، وفرنسا، وغانا على مبادئه. وفي المقابل، لم تصدق شركتا أمازون وتويتر عليه.

وطبقًا لصحيفة “الجارديان”، غابت شركتا أمازون وتويتر عن قائمة الداعمين للعقد منذ البداية، وإن ظهر شعار تويتر على الصفحة الرئيسية للعقد، اعتبارًا من 25 نوفمبر الماضي، وبخاصة في أعقاب الدور المتزايد لتويتر في الخطاب السياسي مؤخرًا، بعد أن اختارت الشركة حظر الإعلانات السياسية على منصتها، بالنظر إلى التحديات التي يواجها الخطاب المدني، الذي يدعو الحكومات إلى ضمان اتصال الجميع بالإنترنت، وإبقاء الإنترنت متاحًا طوال الوقت.

السياق والخلفيات

يأتي إطلاق العقد في الوقت الذي تواجه فيه كبرى الشركات التكنولوجية (مثل: جوجل، وفيسبوك) ضغوطًا متزايدة بسبب كمية البيانات التي تجمعها عن المستخدمين، بل وطرق جمعها. وجدير بالذكر، أن عقد الويب يتضمن مجموعةً من المبادئ المصممة خصيصًا للحيلولة دون ذلك، لتشترط احترام الشركات خصوصية المستخدمين وبياناتهم الشخصية. وفي حال تجاهل تلك الشركات تلك الأهداف تُحذف تلقائيًّا من قائمة الشركات والدول المؤيدة للعقد.

كما يأتي العقد على خلفية التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية، ليتهم جوجل وفيسبوك بإلحاق أضرار جمة بحقوق الإنسان على نطاقٍ عالميٍ واسعٍ، بعد أن تم الكشف عن حصول جوجل على السجلات الصحية الشخصية لنحو 50 مليون أمريكي دون موافقتهم. وعلى خلفية ذلك، ناشدت منظمة العفو الدولية كلًّا من الاتحاد الأوروبي والحكومة الألمانية اتخاذ إجراءاتٍ حيال ذلك. كما طالب الأمين العام للمنظمة في ألمانيا “ماركوس إن بيكو” بوضع حد للنشاط الذي تقوم به تلك الشركات دون مراقبة.

ويتأسس موقف منظمة العفو الدولية على سيطرة شركتي جوجل وفيسبوك على أهم القنوات التي يستخدمها مليارات الأشخاص عبر الإنترنت؛ إذ تسيطر فيسبوك على أبرز تطبيقات التواصل مثل واتساب وماسنجر، فضلًا عن منصة الصور إنستجرام. كما يُعد اليوتيوب جزءًا من شركة جوجل. ويتم تطوير نظام التشغيل السائد في الهواتف الذكية “أندرويد” بواسطة الأخيرة.

ووفقًا للمنظمة، يسفر استخدام خدمات فيسبوك وجوجل عن الكشف عن بيانات المستخدمين. إذ تعتمد الشركتان على المراقبة المحكمة في كافة الأماكن التي يتردد عليها المستخدمون. ولذا، طالبت منظمة العفو الدولية بمنع الشركات من ربط إمكانية الوصول لخدماتها بموافقة المستخدمين على جمع واستخدام بياناتهم الشخصية لأغراضٍ دعائية.

وانتقدت المنظمة أيضًا استخدام شركتي جوجل وفيسبوك بيانات المستخدمين لتحقيق مصالح كلٍّ منهما بمساعدة الخوارزميات، بهدف إضفاء الطابع الشخصي على الدعاية. وحذرت المنظمة من أن هذه الخوارزميات يمكن أن تخل بحرية الرأي وقد تؤدي إلى التمييز.

دلالات العقد

يمكن تشبيه العقد بالوثيقة العالمية التي تهدف لحماية حقوق المستخدمين. ويمكن تشبيهه أيضًا بالدستور العالمي الذي يُلزم الدول والأفراد والشركات بالتزاماتٍ محددةٍ لحماية الإنترنت، لضمان استفادة البشرية منه بهدف الوصول إلى عالمٍ رقميٍ مستقلٍ ومحايد، إذ يحدد العقد جملةً من الإجراءات الملموسة التي يمكن للحكومات والدول وحتى الأفراد اتخاذها للوصول لشبكةٍ عالميةٍ آمنة وشاملة؛ إذ تشمل المشكلات الحالية للإنترنت الفجوة المتزايدة في الوصول إلى الشبكة والاستخدام المتزايد لها للتدخل في الانتخابات والتضليل.

وقد سبق أن دعا “بيرنرز لي” لأول مرة إلى وثيقة لاستخدام الإنترنت في قمة الويب في عام 2018 في لشبونة بالبرتغال. وفي إطارها، نشر سلسلةً من المبادئ التأسيسية. وفي العام الماضي أيضًا، قادت مؤسسة World Wide Web Foundation ائتلافًا يضم أكثر من 80 خبيرًا لإنشاء العقد. وتعمل الآن مع مختلف الشركاء لتقييم التقدم على صعيد أهدافها الأساسية وتعزيز الحلول لتحقيق ذلك.

وتهدف المؤسسة إلى تمكين جميع سكان العالم من الوصول إلى الإنترنت في أي وقت، وتأمين حماية بيانات الأشخاص الخاصة، وتقليل الكراهية عبر الإنترنت، وتعزيز بناء المجتمع. وفي هذا السياق، صرح “بيرنرز لي” قائلًا: “إن قوة شبكة الإنترنت في تغيير حياة الناس وإثراء المجتمع والحد من عدم المساواة هي واحدة من الفرص المحددة في عصرنا، ولكن إذا لم نتصرف الآن ونعمل معًا لمنع إساءة استخدام الويب من قِبل أولئك الذين يرغبون في استغلال الفجوة وتقويضها، فنحن في خطر تبديد هذه الإمكانات، ويمنحنا عقد الويب خريطة طريق لبناء شبكة أفضل، لكن ذلك لن يحدث إلا إذا التزمنا جميعًا بالتحدي”.

ودون تعزيز القوانين واللوائح الخاصة بالعصر الرقمي لن تتحقق الأهداف المرجوة. ولتحقيقها، يجب على الشركات تحقيق أرباحها المادية دون أن يتحقق ذلك على حساب حقوق الإنسان والديمقراطية. كما يجب على المواطنين مساءلة من هم في السلطة، والمطالبة باحترام حقوقهم الرقمية، وتعزيز الاستخدامات الصحية عبر الإنترنت.

وتتجلى أهمية العقد في كونها المرة الأولى التي تجلس فيها مجموعة متنوعة من الفاعلين، ذات الاهتمامات المتمايزة -بل والمتضاربة في كثيرٍ من الأحيان- لوضع معايير للويب، وهي خطوة مثمرة تدفع صوب تعاون مختلف الفاعلين لتغيير الطريقة التي يتم بها تطوير التكنولوجيا وتنظيمها واستخدامها.

خلاصة القول، إن عقد الويب لا يعدو كونه بداية حركةٍ عالميةٍ تدشن شبكة إنترنت تخدم البشرية جمعاء، وإن ظلّت جدواه محلًّا للشكوك، في ظل إحجام الغالبية العظمى من الدول عن تأييده حتى الآن، جنبًا إلى جنب مع بعض شركات التكنولوجيا العملاقة. ودون قواعد ملزمة وعقوبات رادعة، سيتحول العقد إلى ميثاقٍ معنويٍ، لا يرتب أي جزاءاتٍ قانونيةٍ على مخالفيه، ولا يحقق الأهداف المرجوة منه.

رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق