بقلم: هشام المغربي
وصلت الطائرة القادمة من لوس انجلوس إلى مطار هونولولو عاصمة والية هاواي بعد خمس ساعات طيران متصلة وهو مطار صغير نسبياً مقارنة بمطارات باقي الولايات.
تعد هونولولو أكبر جزر هاواي التسع عشرة وهاواي تعد الولاية رقم 50 في عدد الولايات الأمريكية وتعد أيضاً آخر والية ضمت إليها .
يوم وصولنا كان قد مر شهرين على الاحتفال بالعيد ال 89 على انضمام هاواي إلى الولايات الأمريكية في 14 يونيو 1900، وكانت بعض مظاهر الاحتفالات لازالت آثارها باقية في المحلات العامة وفي محلات التذكارات في صورة أكواب وبوسترات وملابس البحر وغير ذلك.
أغلب السكان هنا من أصول آسيوية قادمين أو مقيمين من دول عديدة ربما كان أغلب سكان هونولولو خاصة من هايتي ويندر بها الأمريكان من ذوي البشرة البيضاء أو البشرة السوداء، ظلت هاواي تحت التاج البريطاني لفترة طويلة قبل أن تضم رسمياً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت هاواي هدفاً لهجوم الإمبراطورية اليابانية علي ميناء بيرل هاربر عام 1941 مما أجبر الولايات المتحدة على الدخول في الحرب العالمية الثانية.
لم تغير أي من بريطانيا أو أمريكا أي شيء في الولاية ظلت أسماء الميادين والشوارع والأحياء والشواطئ كما هي بأسمائها الآسيوية ولم تفكر يوماً الحكومة البريطانية أو الأمريكية بعد ذلك أن تحذف أو تغير أو تستبدل أي منها بأخرى إنجليزية ولم تقترح يوماً أن تكرم أحد أبنائها أو شهدائها على حساب تشويه وتزوير ومحو التاريخ لإيمانها العميق أن تاريخ الدول لا يمحى ولا يزيف وأن الشوارع والميادين هي جزء من ذاكرة الشعوب، ليس كما يحدث في دولنا بكل أسف بل وعلى أيدي أبناء البلد.
الشوارع والميادين هنا تحمل الأسماء الآتية على سبيل المثال:
Kewao-Ala Moana- Waikiki- Moilili- Kahala
سألت بعض المختصين عن ماهية هذه الأسماء وعرفت أن أغلب هذه الأسماء من إحدى لغات بولينيزيا التي تتحدثها دول مثل تاهيتي في جنوب شرق آسيا وهي مشتقة من لغات الملايو – الفلبين ولغة هاواي مندمجة مع لغات المهاجرين وأغلب مفرداتها من تاهيتي على الأخص.
كان قد تم الحجز لنا لهذا المؤتمر المقرر عقده بتلك الولاية في فندق (هيلتون هاوايان فيلدج) وهو مجموعة أبراج فاخرة تطل جميعها على مياه المحيط الهادئ أطلقت الإدارة أسما مستقلا لكل برج على حدى فهذا برج الزهور وذاك برج الشمس المشرقة وهكذا، يفصل بين كل برج وآخر حدائق كبيرة تشبه الغابات المفتوحة زرعت أغلبها بأشجار جوز الهند, وهي تلك الثمرة التي تمثل مع ثمرة الأناناس الثمرتين الأكثر شعبية هنا في هنولولو حيث تجدهما في كافة الأسواق والمحلات وعلى المقاهي أما في الحدائق التي تذخر بهما فتجد بعض الثمرات متساقطة تحت الأشجار ويمر عليها السائرون دون أن يعيروها أدنى اهتمام.
Aloha
بعد استلامنا للغرف المبهرة من حيث المطلات والأحجام والمفروشات الفارهة نزلنا نستعلم عن البرنامج الخاص بالمؤتمر وجداول المواعيد وأماكن القاعات وغير ذلك، تعلمنا كلمة يرددها السكان الأصليين دائما قبل الدخول في أي مناقشة أو حوار مع أي شخص وهي (ألوها) وتعني السلام والمحبة التعاطف، فهي ملخص لهذه المعاني جميعاً، يرددها الناس لبعضهم البعض أو تسمع النادل يقولها لك عند قدومه إليك وسرنا نردد (ألوها) إثناء مرورنا على الغرباء في الشارع أو داخل ممرات الفندق أو عند السؤال عن شيء.
ثم جلسنا في أحد المقاهي داخل هذه القرية الهونولولية الساحرة وشربنا مشروبهم الأشهر بيناكوالدا (وهو خليط من عصير الأناناس مع حليب جوز الهند) وهذا يسمى سوفت بيناكوالدا، وهناك أيضاً الهارد بيناكوالدا، الذي يضاف عليه الجبن والتونيك.
في أحد أروقة الفندق ألتقينا ببعض الأصدقاء القادمين من دول أخرى مباشرة إلى هاواي لحضور المؤتمر حيث لدى هذه الشركة الأمريكية الكبيرة وكلاء في أكثر من خمسين دولة حول العالم وكان من بينهم رئيس الشركة في مصر الذي تعذر سفره معنا من بداية الرحلة واتفقنا أن نلتقي مباشرة في هاواي، حضر لتوه من القاهرة بعد توقف قصير في باريس، وهو شخصية ذات حضور وكاريزما تحسب له، تولى بعد ذلك منصباً سياسياً هاماً سأرمز له باسم مستعار هو(مؤنس) وهو صديق قديم أيضاً عملنا معاً لعدة سنوات قبل توليه رئاسة هذه الشركة، يتميز بخفة ظل شديدة وذكاء إجتماعي حاد، وقدرة على اكتساب صداقة أي شخص في وقت قياسي، تبادلنا أرقام الغرف وأسماء الأبراج مع بعضنا البعض ليسهل علينا التواصل فيما بيننا.
(لم تكن الهواتف المحمولة قد عرفت بعد في ذلك الوقت)
في أول يوم للمؤتمر قمت بتناول الإفطار سريعاً في السابعة صباحاً في مطعم البرج الرئيس المطل مباشرة على الشاطيء ثم صعدت مسرعاً إلى غرفتي لأستبدل مالبسي وأرتدي البدلة ورابطة العنق والحذاء الكالسيكي، ونزلت أهرول لألحق بأول محاضرة من محاضرات المؤتمر والتي سيلقيها الرئيس التنفيذي للشركة الأمريكية الداعية لنا مستر (جون فرير).
وأنا على باب القاعة راعني أن كل الحاضرين يرتدون المايوه أو شورت قصير وتي شيرت أبيض في البداية ظننت أنني أخطأت القاعة ثم تبينت أنها القاعة المحددة فعلا، بل تعرفت على بعض وجوه الحاضرين ثم نظرت لمالبسي الرسمية وتملكني شعور بالخجل والضحك معا، عدوت إلى حجرتي سريعاً واستبدلتها بملابس البحر وقبل أن أعود للقاعة مجدداً نظرت في برنامج المؤتمر وتبينت أن كود المالبس في هذا اليوم كان (مالبس شاطئية) وتخيلت لو أنني دخلت القاعة بتلك الملابس الرسمية كنت سأصبح رئيس مجلس إدارة البحر ! ربما كانت هذه أغرب ملابس لمؤتمر حضرته في حياتي.
في اليوم التالي وأثناء أستعدادي لمغادرة الغرفة سمعت صوت نقرات على باب غرفتي… صحت من بعيد من الطارق؟ فلم أسمع صوتاً لأحد… اقتربت من الباب ونظرت من العين السحرية،فلم أرى سوى بصمة إصبع تمنع رؤية من على الباب! وكانت تعليمات الفندق للدواعي الأمنية أن لا نفتح أبواب الغرف إلا بعد التأكد من شخصية الطارق، صحت بصوت مسموع مرة ثانية من الطارق؟
فلم يجب…. ثم عاود النقر مجدداً !
بحثت في الغرفة فلم أجد سوى مزهرية معدنية صغيرة أمسكتها وأخفيتها خلف ظهري، ووقفت في وضع استعداد وتأهب لما يمكن أن يحدث ثم فتحت الباب فجأة وإذا بالطارق هو (مؤنس) فانفجرنا نضحك سوياً وكان يريدني أن أذهب معه إلى أحد الأسواق بعد محاضرة اليوم.
برنامج المؤتمر كان مزدحماً وحافلاً بالمحاضرات وورش العمل والندوات، أما المساء فكان يترك حراً أحياناً أو أن يدعى لحفل جماعي لكافة الوفود في مكان خارج الفندق، كمطعم كبير أو مسرح يقدم فنون استعراضية أو حفل جاز أو غيرها.
في أحد الأيام بعد عودتنا من الحفل المسائي لم أرد أن أصعد لغرفتي فلم تزل الساعة العاشرة مساءً ونحن لم نعتد النوم مبكراً فجلست في أحد مقاهى الفندق وإذا بمؤنس أيضاً جالساً لم يذهب لغرفته بعد، فاقترح أن نخرج خارج الفندق لعدة ساعات لنرى حياة مختلفة في هذه المدينة المثيرة فلم نأت هنا للندوات والمحاضرات والأكل والنوم فقط (على حد قوله) .
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، قبل أن نخرج قررنا أن نترك كافة متعلقاتنا الشخصية من ساعات أو أموال أو خواتم ذهبية أو بطاقات الدفع الإليكتروني أو غير ذلك ولم نترك معنا إلا أقل القليل من بعض الأموال ما يكفي السهرة بالكاد، تحسباً لما يمكن أن يحدث لنا في مثل هذا الوقت من الليل .
استقلينا سيارة أجرة وطلبنا من السائق أن يذهب بنا إلى أقرب ملهى ليلي لقضاء بعض الوقت.
على باب الملهى كان يقف أحد الحراس قوي البنية ذو عضلات بارزة وقسمات وجه قاسية، وقد
رسم على زنديه وشماً كبيراً باللون الأزرق والأحمر، رحّب بنا وقام بتسلمينا إلى زميل له بالداخل، أجلسنا على طاولة كبيرة تسع لأربعة أشخاص، جلسنا نشاهدعرضاً موسيقياً لفرقة مغمورة تعزف لحناً نشازاَ وسط تصفيق وتهليل الحضور الذين لعبت الخمر برؤسهم فكانوا يصفقون ويهللون على أي شيء فقط لاستجلاب الفرحة والمتعة لأنفسهم، جلسنا أنا ومؤنس متقابلين على الطاولة التي أعدت لنا نظرنا حولنا فجأة فوجدنا فتاتين قد جلستا بجوارنا دون أن نشعر بهما، وبعد أن جلستا بالفعل قالا هل تمانعان أن نجلس معكما ؟
نظرت إلى مؤنس الذي قال لهما لا بأس ليس لدينا مانع، بعد فترة قصيرة قامت كل فتاة بوضع يدها على كتف من بجوارها !
أنزلت يدها من فوق كتفي وكذلك فعل مؤنس، وبعد فترة قصيرة أخذت الفتاه تعبث بشعر رأسي وتسند رأسها فوق كتفي، وهنا نظرت لمؤنس وقلت له بالعربية (شكلهم مش حيعتقونا الليلة دي) أنا شكلي حسيبك وأمشي !
ضحك مؤنس وقالي (اصبر بس ما تقلقش) ونظر إلى النادل الذي أجلسنا وقال له: أرجو أن تطلب منهما مغادرة الطاولة فوراً والبحث عن شخص آخر نحن لا نريد فتيات معنا.
أشار النادل إلى حارس خاص آخر يقف داخل الصالة وطلب منه أن يحضر إلينا كان لا يقل ضخامة وقوة عن الحارس الواقف أمام الباب، عند مشاهدته قادماً نحو طاولتنا انتابني الرعب نظرت لمؤ نس وقلت له ضاحكاً (احنا مش حناخد في إيده غلوة … ده دراعه بس أطول مني)
قال مؤنس دعني أتحدث معه أولًا وقفنا أنا ومؤنس واستحضرنا قدراً من الشجاعة والعبوس لنتحدث معه, فقلت له (ألوها) قال لي مؤنس بالعربية تفتكر ده ينفع معاه (ألوها) معتقدش وقبل أن نكمل كلمة واحدة نظر للفتاتين نظرة فهما منها أن يتركانا وشأننا، فانصرفتا على الفور .
شكرناه وعدنا إلى طاولتنا نشرب العصائر التي طلبناها ونحمد الله على السالمة، بعد فترة قصيرة أطفئت أنوار القاعة كلها وبقيت فقط أضواء الشموع على الطاوالت وعزفت الموسيقى لحناً سريعاً ضجت بعده القاعة بالتصفيق الحاد وكان هذا إيذانا بدخول فتاة االستعراض المنتظرة على خشبة المسرح وأضيئت مع دخولها كل الأضواء مجدداً .
قامت بالرقص على نغمات الموسيقى وبين كل فقرة موسيقية كانت تخلع قطعة من مالبسها وتلقي بها على خشبة المسرح، ظلت كذلك حتى لم يتبقى فوق جسدها سوى قطعة واحدة تستر بها عورتها وهنا قامت باستقبال النقوط من الحضور تنظر إلى النقود ضاحكة لن أخلع القطعة الباقية حتى أرى تقديراً منكم وصفقت القاعة وقام كثيرين بدفع المزيد من النقوط.
نظرت إلى الحضور في سعادة قائلة: وها أنا أفي بوعدي وخلعت آخر قطعة من مالبسها ووقفت ترقص كما ولدتها أمها!
قمنا معاَ نعدو نحو الباب لمغادرة الملهى وكان العديد من سيارات الأجرة تقف أمام الباب فاستقلينا أحدها وعدنا إلى الفندق نضحك ونتذكر ما حدث معنا ولحظات القلق التي سيطرت علينا عند قدوم الحارس الخاص نحو طاولتنا، ونتذكر محاولة رسم العبوس على قسماتنا ثم نحاول أن نتخيل سيناريو ماذا لو أن الحارس حاول استعمال العنف معنا أو أن يفرضهما علينا رغماً عنا، ماذا لو ؟
عند وصولنا إلى الفندق قلت لمؤنس (ألوها) وتركته وصعدت إلى غرفتي حتى الصباح الذي لم يكن باق عليه سوى ساعتين أو أكثر قليلا.
كان في برنامج المؤتمر أن العشاء في هذا اليوم على الشاطيء (عشاء باربيكيو) يبدأ في السابعة مساءً وكتب بالبرنامج كود اللبس الذي كان (سمارت كاجوال) ، أُعد المكان على الشاطيء بشكل رائع على شكل نصف دائرة وعلى مقربة من الطاوالت جلست فرقة موسيقية ومعهم آلاتهم الكهربائية المختلفة تعزف أثناء العشاء العديد من المقطوعات الموسيقية العالمية أتخذنا أماكنا على الطاولات التي حجزت بأسمائنا وقد حرصت إدارة المؤتمر أن تجلس على كل طاولة أفراد لا تعرف بعضها البعض من دول مختلفة لتكون فرصة لتبادل المعلومات والخبرات بينهم وأن لا يجلس شخصان من ذات الدولة معاً.
أثناء العشاء وما أن بدأنا تناول بعض المأكولات، إذا بالماء ينهمر فوق رؤسنا مرة واحدة كانت سيولًا منهمرة بلا توقف، أغرقت كل شيء فوق الطاولات وأخذت الفرقة الموسيقية تلملم آلاتها بسرعة وتهرب سريعاً إلى الداخل، أغرقت المياة مالبسنا وأصبحنا كالخارجين من مياه البحر، ورحنا نركض إلى الداخل فالسيول لم تترك شبراً واحداً على الشاطيء دون أن تغرقه (سيول في شهر أغسطس ودرجة الحرارة فوق الثالثين) .
صعدنا إلى الغرف لاستبدال مالبسنا وعدنا مرة أخرى، وكان الفندق قد نقل كل شيء إلى داخل إحدى القاعات الداخلية أكملنا سهرتنا وكأن شيئاً لم يكن رغم استمرار السيول بالخارج حتى الصباح .
في اليوم التالي وهو اليوم الأخير للمؤتمر صعدنا إلى غرفنا فوجد كل منا حقيبة صغير باسمه فتحت الحقيبة، فوجدت بها قميصاً مشجراً بألوان زاهية هي الألوان المميزة لهونولولو وبنطالا قصيراً من نفس اللون وخطاب كتب فيه أنه بمناسبة اليوم الأخير للمؤتمر يسعد الشركة أن تدعوا كافة الوفود إلى حفل ساهر في قاعة من قاعات الفندق أعدت خصيصاً لذلك وتدعوا الجميع
لارتداء هذا الزي الموحد لنا جميعاً لقضاء سهرة جماعية سنتذكرها جميعاً لسنوات كثيرة قادمة .
مرت أيام المؤتمر بسرعة فلم نشعر بالوقت حتى اليوم الأخير الذي ودعنا فيه بعضنا البعض بعد اكتساب المزيد من الخبرات والمعلومات والثقافات والصداقات من دول عديدة حول العالم، وغادرت هذه المدينة الساحرة عائداً إلى لوس أنجلوس مجدداً ولهذه قصة أخرى.