مركز الدراسات
دولة عربية واحدة تعيش بهدوء وسط اضطرابات من حولها
تتشارك سلطنة عُمان حدودَها مع اليمن، وهو بلد في حالة حرب، فضلاً عن أنَّها تقع جغرافياً بين خَصمين قويَّين: المملكة العربية السعودية وإيران. أمَّا خليج عُمان فهو جزء من طريق رئيسي لشحن النفط في العالم، والمكان الذي تعرَّضت فيه ناقلات نفط للهجوم خلال الأسابيع الماضية، فكيف استطاعت عُمان إمساك العصا من الوسط، وتحقيق دبلوماسية التوازنات في المنطقة، وسط هذا كلِّه؟
الوسيطة بين الجميع والصديقة للجميع
تمكَّنت عُمان من البقاء في منأى عن هذا كلّه. في بقعة منكوبة من بقاع العالم من جرَّاء الحروب، برزت هذه السلطنة الصغيرة، التي يبلغ إجمالي عدد سكّانها 4.6 مليون نسمة، باعتبارها وسيطاً هادئاً للحوار. وبوصفها دولة صديقة للعديد من الأطراف المتخاصمة، احتلَّت سلطنة عُمان موقعها بين الصراعات دون أن تنغمس فيها.
يقول محمد بن عوض الحسان، المندوب الدائم الجديد للسلطنة لدى الأمم المتحدة، متحدثاً في مقرِّ وزارة الخارجية في العاصمة مسقط، لموقع الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية NPR: «إننا لا نتحدّث كثيراً بل نتحرك كثيراً، أحياناً نضطلع بدور الوسيط عندما نعتقد أن بإمكاننا المساعدة، ولكن بشرط عدم وجود وسائل إعلام، لأن الهدف هو السلام وليس الدعاية».
سعت سلطنة عُمان إلى تهدئة الصراع في اليمن، وساعدت على تأمين عملية إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين من العاصمة اليمنية صنعاء، ومن إيران أيضاً.
وقد سمحت علاقتُها الوثيقة مع كلٍّ من إيران والولايات المتحدة -بحسب ما يقول الحسّان: «تجمعنا صداقة بكلا البلدين»- بأن تستضيف مسقط أول اللقاءات السرية المنعقدة بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين، في مناقشات أدَّت في نهاية المطاف إلى صفقة إيران النووية، التي تُعرف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015.
هل تتدخل مسقط مجدداً لإنهاء الأزمة بين إيران وأمريكا؟
أمّا الآن، ومع انهيار تلك الصفقة، فيأمل البعض في إيران وفي الولايات المُتحدة الأمريكية أن تتدخّل مسقط مرّة أخرى.
وقد التقى دبلوماسيون عُمانيون مسؤولين إيرانيين في الأسابيع الأخيرة. والتقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالقائد العُماني، البالغ من العمر 78 عاماً، السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد انسحاب الولايات المُتحدة الأمريكية من صفقة إيران.
وزار برايان هوك، مبعوث الولايات المتحدة الخاص لإيران، مسقطَ خلال الشهر الماضي، في جولة بالمنطقة، في أعقاب إسقاط إيران طائرةً أمريكية بدون طيار في مضيق هرمز. وخلال حديثه مع NPR الأمريكية، حذَّر هوك بأنَّ إيران عليها أن تأتي إلى طاولة المفاوضات، أو «تُراقب اقتصادها ينهار» من خلال عقوبات أمريكية أكثر صرامة.
ومع عدم رغبة أيٍّ من الطرفين في التنازل، أعرب الدبلوماسيون الأوروبيون عن تنبؤات قاتمة للمستقبل، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للحسان، فباعتباره دبلوماسياً عُمانياً يقول إنه يرى دائماً فرصاً للسلام، سواء بين إيران والولايات المتحدة أو في أي مكان آخر. وبينما يرى الآخرون الصراعات، يُسلِّط هو الضوءَ على الأمور بحسٍّ أكثر هدوءاً.
على سبيل المثال يقول الحسان واصفاً النزاع الإقليمي بين السعودية وإيران، الذي جعل الطرفين يساندان طرفين متعارِضَيْن في سوريا واليمن: «لا توجد نزاعات في واقع الأمر بين المملكة العربية السعودية وإيران، بل هناك توترات عندما يتعلق الأمر بخوف كلٍّ منهما من تأثير الآخر».
لعُمان تفسيراتُها السياسية الخاصة بها
ولدى الحسّان أيضاً تفسيرٌ لسياسة الرئيس ترامب الخارجية، أكثر سخاءً مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى في المنطقة. بينما يرى آخرون أنَّ تصرفات الولايات المتحدة -مثل قرار نقل سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس- متهورة وخطيرة، يقول الحسّان إنَّه يجب فَهم هذه الأعمال في سياق «الإرث»، حسب تعبيره.
إذ يقول: «نعتقدُ أنَّ الرئيس ترامب يرغب في الحصول على إرث حقيقي في المنطقة، ولهذا السبب عيَّن صهره (جاريد كوشنر) لمحاولة إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن ثَمَّ، فإننا نرى هذه بمثابة فرصة، من شأنها مساعدة ترامب على فَهم الصورة الأكبر. لَسْنَا خائفين من أن نكون صرحاء بشأن نصيحتنا».
وحين تطرَّق الحديثُ إلى إيران، قال الحسّان: «لدى الإيرانيين تاريخ يدعو للفخر يمتد لآلاف السنين، ولن يقبلوا الترهيب. من المهم أن يعترف كلا البلدين بالحقوق المشروعة للجانب الآخر، وأن يؤمِنَا بأنَّ استخدام القوة ليس أفضلَ وسيلةٍ لحلِّ الخلافات».
وفي نهاية المطاف، يرى الحسّان أنَّ عمل الدبلوماسية العُمانية يدور حول بناء صداقات وتبنِّي منظور متفائل، فيقول: «نحن نركز دائماً على الإيجابيات وليس السلبيات، فعندما تركِّز على هذا، تصبح فرصُ السلام واضحةً تماماً».
الوضع الداخلي امتدادٌ للسياسة الخارجية أيضاً
تعتبر سياسة عُمان الخارجية امتداداً لنهجها الداخلي؛ فعلى النقيض من ضوضاء ووهج العواصم الأخرى في الشرق الأوسط -مثل ازدحام حركة المرور الهائل في القاهرة وناطحات السحاب الخاطفة للأبصار في دبي- تتسم مسقط بالهدوء والسكون.
تسير السيارات في شوارع واسعة تتحرَّك بسلاسة، وعلى جانبيها مروج خضراء تُروى في هذه البيئة الصحراوية برشاشات مياه تعمل بالمؤقِّتات. وتمتاز المدينة بفيلاتها المنمَّقة ناصعة البياض، خلف أسوار تُكلِّلها الورود، حتى إن سوق مسقط المحلي الصاخب يخلو من الفوضى المعتادة لمثل هذه الأسواق. إذ إن المتسوقين هناك يتحدّثون بهدوء مع الباعة، وتفوح في الهواء رائحة البخور الذي تُنتجه عُمان.
ويُنظر إلى أي نزاع أو سلوك عدواني أو خلاف هناك باعتباره أمراً مستهجناً للغاية. يُحكم البلدُ بنظام ملكيٍّ مطلق، وهناك قيود صارمة على حرية التعبير. فضلاً عن أن قليلاً من العُمانيين على استعدادٍ للتحدث علناً بشأن الأمور السياسية، ما لم يكن حديثهم ثناءً واضحاً على حاكمهم.
المعارضة تحت السيطرة
ليس لدى عُمان نفس سجل القمع العنيف الموجود في دول أخرى في المنطقة؛ مثل المملكة العربية السعودية أو سوريا، لكن أجهزة الأمن نشطة في البلاد، وتراقب عن كثب نشاط الإنترنت.
فيما تبقى المعارضة تحت السيطرة، نتيجة للهيكل الاجتماعي الصلب في البلاد. تحدَّث أحد العُمانيين بشرط عدم الكشف عن هويّته خوفاً من أن يكون الموضوع مُثيراً للجدل، وقال: «ليس بالضرورة أن يُزجّ بك في السجن، ولكن (أمن الدولة أو غيره) سيذهب وسيتحدّث إلى والدك أو عائلتك أو قبيلتك. وسوف يستخدمون نقاط الضغط هذه لإرغامك على التأدُّب».
لذا فإن الطريقة المثلى التي تتَّبعها، بوصفك مواطناً عُمانياً، هي أن تظلَّ ودُوداً مع الجميع. يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين متهكِّماً: «من المُرهق أن تكون مواطناً عُمانياً؛ فعليك أن تبني علاقات باستمرار، وأن تتأكد من أنك على صلة طيبة بالقبائل المختلفة في البلاد».
ثقافة وتاريخ عُمان ميَّزاها عن محيطها الملتهب
يساعد تاريخ عُمان والمذهب السائد أيضاً في تميُّزها عن البلدان المحيطة بها، حيث يعتنقُ العديدُ من العُمانيين الإباضية، وهو مذهب صغير من الإسلام، ومن ثمّ لا ينخرط العُمانيون في الصراعات الطائفية في المنطقة. وعلى الرغم من أن عُمان دولة عربية، فقد خضعت لتأثيرات من الهند وشرق إفريقيا وأجزاء أخرى من العالم، لأنها دولة تجارية تطل على البحر.
يقول زكريا محرمي، الكاتب العُماني في شؤون السياسة والثقافة: «في الواقع، إنه تاريخ عُمان وثقافة عُمان؛ كل هذه العوامل تشكل الشعب العُماني والتقاليد».
ويعزَّز كل هذا عن طريق رؤية السلطان قابوس للبلاد، باعتباره مكاناً مُسالِماً هادئاً، وسط منطقة تعجُّ بالاضطرابات. وقد أرسى السلطان نمطاً راقياً في عُمان؛ يقول محرمي إن العُمانيين كبروا وهم يستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، التي يتم تشغيلها في أوقات الذروة على التلفزيون والإذاعة الحكومية.
وتعتزُّ مسقط بدار الأوبرا السلطانية، التي نالت عروضها شهرةً دوليةً. ويجمع مشروع الأوبرا، وهو أحد المشروعات المفضّلة لدى السلطان قابوس، بين التأثيرات من جميع أنحاء العالم، فقد بُنيَ من الحجر الرملي العُماني والرخام الإيطالي، وأُعدَّت سقوفه من خشب الساج القادم من ميانمار.
يقول ناصر الطائي، مستشار مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية في مسقط، إن المسرح الكبير هو تعبير مرئي عن رؤية السلطان لسلطنة عُمان وسياستها الخارجية.
ويضيف الطائي: «عندما افتتحنا دار الأوبرا في عام 2011، قال جلالة السلطان إن عُمان طالما اضطلعت بدورٍ بنّاءٍ في خدمة السلام، لذا فقد اعتقد أن مسرحاً معاصراً للفن والموسيقى هو أحد أفضل الطرق للترويج لهذا، ولمواصلة بثِّ هذه الرسالة. إنها طريقة لجمع شمل الناس، لأن الموسيقى تعبيرٌ عن القيمة الإنسانية، والذكريات العاطفية، والحنين إلى الماضي، والحب والعاطفة. سواء كانت موسيقى كلاسيكية أو موسيقانا التقليدية، فهي وسيلة لجمع شمل الناس».