أخبار من أمريكا
سياسة , جريمة, ومعمار.. طبقاتٍ من التاريخ جعلت من حديقة ساحة “ماديسون سكوير جاردن” تشكل هوية مدينة نيويورك
المساحات الخضراء البالغة 6.2 أفدنة في قلب مدينة مانهاتن الأميركية، التي تحدها جادة ماديسون والجادة الخامسة، وشارع برودواي، والشارعان 23 و26، تضم طبقاتٍ من التاريخ جعلت من حديقة ساحة ماديسون سكوير غاردن تشكل هوية نيويورك طوال عقود.
وفرت حديقة ماديسون سكوير مؤخراً مساحةً للأعمال الفنية الجريئة، وساحات الطعام المؤقتة، ومساحات العمل الخارجية. لكن ما تشتهر به الحديقة بين الناس هو أنَّها موقع أولى مطاعم Shake Shack.
وفي «عصرها الذهبي» بين عامي 1870 و1910، كانت ساحة ماديسون سكوير غاردن مركزاً لأفخم الفنادق والمطاعم في نيويورك. كانت مهد رياضة البيسبول كما يعتقد البعض، والحديقة التي نشأ فيها الرئيس تيودور روزفلت والكاتبة إديث وارتون، وتمشَّى فيها العظماء هيرمان ميلفيل ومارك توين وويليام بورتر، وموقع عرضي سيرك يقدمان الحيوانات العجيبة وسباقات عربات الخيل والمصارعين الرومانيين.
ومسرح جريمة قتل المهندس المعماري ستانفورد وايت على يد الزوج الغيور لإيفيلين نيسبيت، الفنانة والعارضة لرسومات فتاة جيبسون الأصلية المُجسِّدة للجمال الأنثوي المثالي، وقد كان مقتله من أشهر الفضائح في تاريخ المدينة.
وحتى الآن، إن جلست على مقعد ونظرت عبر الأشجار وسط زحام الموظفين العابرين خلال الحديقة أو العائلات المتجهة إلى ساحة اللعب المكتظة، يمكنك رؤية صفوف المباني المحيطة المبنية بالأحجار السمراء، التي وصفتها إديث وارتون في رواية The Age of Innocence بأنَّها «تغلف نيويورك مثل صوص الشيكولاتة البارد».
هذه التحولات السريعة والمتهورة في بعض الأحيان، التي شهدتها المنطقة من أرضٍ نائية غير قابلة للسكن إلى منطقة عقاراتٍ فخمة عرفت مرحلةً تلو الأخرى من تاريخ نيويورك، هي نموذجٌ مصغر لما يحبه أهل نيويورك ويكرهونه في مدينتهم.
عام 1686: أرض المستنقعات
لم تكُن قطعة الأرض التي صارت فيما بعد ساحة ماديسون سكوير غاردن أفضل بقاع مانهاتن، فقد كانت مليئة بالمستنقعات والطين الرملي، يمر بها من غربها إلى شرقها جدول سيدار، الذي عُرف لاحقاً بمجرى ماديسون. أُعلنت قطعة الأرض في 1686 أرضاً عامة، وتغير استخدامها تباعاً من أرضٍ للصيد، إلى مقبرة للمجهولين، إلى ساحة استعراضات عسكرية، إلى مخزنٍ للذخيرة، إلى مركز رعاية للأحداث.
كانت مليئة بالمستنقعات يمر بها من غربها إلى شرقها جدول سيدار
من 1800 إلى 1850: المدينة تتوسع
تقول ميريام بيرمان، مؤلفة كتاب Madison Square: The Park and its Celebrated Landmarks، إنَّ المخطط المعماري لمانهاتن ربَّما وُضِع على ضفاف جدول سيدار. وتقول الرواية الشائعة إنَّ أعضاء لجنة الطرق والشوارع كانوا يتجولون في عصر أحد أيام عام 1810، يناقشون التصميمات المحتملة لطرق مدينة نيويورك الجديدة.
كان أعضاء اللجنة قد رفضوا بالفعل خطةً تحافظ على الحدود الطبيعية للجزيرة وتصميم المربعات السكنية الذي اعتمدته ولاية فيلادلفيا. ورأى أحد أعضاء اللجنة الشمس تُلقي بظل مستطيل عبر منخل الرمل الخاص بأحد العمال، ومن هنا نشأ المخطط الأولي لجادات مانهاتن الواسعة والشوارع الضيقة المتقاطعة.
وبعد عشرين عاماً تقريباً، كانت المنطقة المحيطة بماديسون سكوير نائية، لدرجة أنَّ محطة ماديسون كوتيج التي تخدم عربات السفر بالخيل القادمة والمغادرة بقيت مفتوحة. وكان على الضيوف الالتزام ببعض القواعد الموجودة على اللافتات، مثل «لا ينام على السرير الواحد أكثر من خمسة أشخاص»، وفقاً لكتاب لويد موريس Incredible New York: High Life and Low Life of the Last 100 years.
منشأ لعبة البيسبول
شكك كثيرٌ من المؤرخين في أسطورة أنَّ آبنر دابلداي هو مخترع النسخة الحديثة من البيسبول في بلدة كوبرزتاون بولاية نيويورك، ويذهب ظنهم الآن إلى أنَّ مهدها كان على الأرجح مدينة نيويورك بالولاية نفسها.
في عام 1842 أو نحوه، خرجت مجموعة من رجال الأعمال الشباب وطلبة الطب في الهواء الطلق على أرضٍ رملية ستصبح لاحقاً تقاطع الشارع السابع والعشرين مع جادة ماديسون. لعبت المجموعة عدداً من ألعاب الكرة الإنكليزية، من ضمنها لعبة تشبه البيسبول، وشكلوا فريقاً تحت اسم نادي نيكربوكر لكرة القاعدة، وهو مصطلحٌ يُطلق على أهل نيويورك ويعود إلى المستوطنين الهولنديين الأصليين بالمنطقة.
أسهم قائد الفريق أليكساندر كارترايت في وضع قوانين اللعبة، ليصنع لعبةً تشبه رياضة البيسبول الحديثة، غير أنَّ الكرات الملتقطة بعد ارتطامها بالأرض مرةً واحدة كانت تُعَد ملغاة، ولم يكن مسموحاً سوى برمي الكرة مع إبقاء اليد تحت مستوى الكتف.
وحين أزال مطورو المدينة الأرض الرملية، انتقل فريق نيكربروكر إلى هوبوكين بولاية نيوجيرسي، حيثُ خسروا أول مباراة مسجلة في رياضة البيسبول في عام 1846 أمام فريق نيويورك ناين، بثلاثة وعشرين نقطة مقابل نقطة.
من 1850 إلى 1900 : المدينة المزدهرة
بعد الافتتاح الرسمي لساحة ماديسون سكوير غاردن في عام 1847، بدأت حركة تطوير متسارعة في المنطقة. جاء الطوب الرملي الناعم المستخدم في مئات المباني المبنية بالطوب الأسمر التي تراصت سريعاً في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر من ولايتي نيوجيرسي وكونيتيكت.
هذه المنازل المصففة الجديدة كانت مكتظة معتمة، مقارنةً بالمساكن الأرستقراطية جنوبي واشنطن سكوير، وكانت التصميمات متشابهة مفتقرة إلى الإلهام، وفقاً للمؤرخين المعماريين مثل لويس ممفورد في كتابه The Brown Decades المنشور عام 1932. كتب ممفورد أنَّ هذه المباني كانت أضيق من سابقتها، بغرف صغيرة متكدسة.
ومع ذلك، بدأت المتاجر والمطاعم الفخمة مثل مطعم Delmonico’s في الانتشار بطول شارع برودواي والجادة الخامسة، وافتُتِحت نوادٍ خاصة مثل Union وAthenaeum وLotos. لكن ينقل كتاب Gotham: A History of New York City to 1898 أنَّ العشرات من «صالونات المرافقة» بدأت في الظهور، وهي أماكن شبقة مهدت لظهور النوادي المشابهة لبلاي بوي، تنضم فيها «نادلاتٌ» بتنوراتٍ قصيرة وأحذية حمراء طويلة مزينة بالشُّرَّابات إلى مرتادي المكان لتناول المشروبات والترفيه عنهم في قاعة الموسيقى، قبل الانتقال إلى غرفٍ مغلقة أو مواخير قريبة.
ويزعم بيرمان أنَّه في صالون اللوفر، أكثر صالونات المرافقة أناقة في ماديسون سكوير، كان «من يجد نفسه في حالة عابرة أو منفصلة عن العالم يمكنه الاستمتاع بفن المتعة الحقيقية».
أغضب القبح المتنامي في المنطقة المحيطة بالحديقة د. تشارلز بارخرست، قس الكنيسة المشيخية بماديسون سكوير، لدرجة أنَّه في 1892 استهجن من منبره الوعظي الفساد الأخلاقي بالمدينة. ثم تنكر في ثيابٍ قذرة، ولطخ شاربه بمنظف الملابس، ليقود مجموعة من المحققين في مهمة جمع أدلة على «الفساد» المستشري في 254 صالوناً في أنحاء المدينة. واقترحت مجموعة من السكان الممتنين لجهوده أن يتغير اسم المدينة إلى «بارخرست».
ثمَّ جاءت عروض السيرك
في 1852، هُدِمَت محطة ماديسون كوتيج أخيراً، ليحل محلها سيرك أنطونيو فرانكوني. كان السيرك عبارة عن حلبة ضخمة تتسع لعشرة آلاف متفرج، وقدم عروضاً للفيلة والجمال وسباقات عربات الخيول في مضمارٍ عرضه 40 قدماً. لكنَّ السيرك خسر الأموال، وأُغلِق بعد موسمين.
وبعد عشرين عاماً، شيد فينياس تايلور بارنوم السيرك الجيولوجي الكلاسيكي للوحوش في الركن الشمالي الشرقي للحديقة وحول حظائر القطارات التي كانت جزءاً من محطة قطارات نيويورك وهارلم في السابق. وبحلول عام 1880 جدَّد مالك الحظائر ويليام فاندربلت (حفيد رجل الأعمال الشهير كورنيليوس فاندربلت، الملقب بالعميد) المنطقة، وغير اسمها إلى ساحة ماديسون سكوير غاردن.
أضاف بارنوم إلى عروض السيرك التقليدية عجائب من «متحفه» بوسط المدينة، وكذلك الرجال الموشومين ورعاة البقر والهنود الحمر. وفي أوقات انقطاع عروض السيرك، كان فاندربلت يؤجر الساحة لسباقات دراجات مدتها ستة أيام، وعروضاً للأحصنة والكلاب، إضافةً إلى «محاضرات مصورة عن الملاكمة بالأيدي العارية» (كان قد صدر قانون بحظر ممارسة رياضة الملاكمة في 1856)، تضمنت مباراة من أربع جولات بين جون سوليفان وتاج ويلسون حضرها عشرة آلاف مشجع وفقاً لبيرمان. لكنَّ سيرك بارنوم لم يحقق أرباحاً هو الآخر، وبعد أن حضر العروض بضع مئات من المشاهدين في أثناء العاصفة الثلجية التي هبت على المدينة في 1888، أغلق بارنوم السيرك، ومات قبل أن يفتتحه مرةً أخرى في الحديقة الجديدة الموسعة في الموقع نفسه التي فتحت أبوابها عام 1890.
ومع أنَّ الجانب الغربي من الحديقة أزيل في 1870 لتوسيع شارع برودواي وإفساح المجال لأماكن انتظار عربات الحنطور، أعيدَ تصميمها على يد ويليام غرانت وإغناتس بيلات، أحد مساعدي المهندس المعماري فريدريك لو أولمستيد، لتضم النوافير والطرق الملتفة. ومنذ ذلك الحين بقيت الحديقة على تصميم غرانت وبيلات فيما عدا تعديلاتٍ قليلة.
بناء التماثيل
بصفتها المكان المفضل لتواجد الكثيرين في القرن التاسع عشر، حصلت ساحة ماديسون سكوير غاردن على حصتها من الشخصيات المشهورة.
هناك مثلاً روسكو كونكلينغ، عضو مجلس الشيوخ الأميركي المتأنق ومن الشخصيات النافذة في الحزب الجمهوري، الذي كان يرتدي «معطفاً أسود رسمياً مفتوحاً من أسفل الوسط»، وفقاً لسكوت غرينبرغر في كتابه The Unexpected President: The Life and Times of Chester A. Arthur (كان كونكلنغ من مساعدي تشستر آرثر قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية). يقول غرينبرغر «وكان يرتدي معها عادةً صدرية وبنطالاً فاتحي اللون، وربطة عنق باللون الأحمر أو الأزرق الفاقع، وجراميق إنكليزية بأزرار فوق حذائه المدبب اللامع». ووصف غيديون ويلز وزير البحرية في ذلك الوقت كونكلينغ بأنَّه «متبختر مغرور».
وفاة كونكلنغ جزء من تاريخ ماديسون سكوير
غادر كونكلنغ مكتبه في وول ستريت وسط العاصفة الثلجية عام 1888، وأشار بيده لعربة حنطور طلب سائقها 50 دولاراً أجرة توصيله إلى أعلى المدينة. رفض كونكلنغ عرضه بلغته البذيئة المعتادة، فقد كان ملاكماً هاوياً في الثامنة والخمسين من عمره، وقرر السير ثلاثة أميال إلى جناحه بماديسون سكوير.
لكنَّ العاصفة التي تركت ثلجاً سمكه 40 بوصة على أسطح المدينة في غضون 36 ساعة كانت أقوى حتى من رجل مثلٍ كونكلنغ. وبعد ساعات من بدئه السير، انهار جسده على مرمى البصر من ناديه الخاص، ومات بعدها بأسابيع.
ومع أنَّ حلفاءه السياسيين طالبوا بوضع تمثاله في ميدان الاتحاد، فقد رأت إدارة المتنزهات أنَّ كونكلنغ ليس بنفس مقام واشنطن ولنكولن ليوضع تمثاله إلى جانب تمثاليهما. لكنَّ مؤيديه نجحوا في إقناع الإدارة بوضع تمثاله المصنوع في 1893 في الركن الجنوبي الشرقي من ساحة ماديسون سكوير غاردن بالقرب من مكان سقوطه.
ومع أنَّ العديد من المنحوتات مرت بالحديقة ورحلت عنها (مثل الذراع الحاملة للشعلة من تمثال الحرية، التي بقيت معروضةً هناك ستة أعوام لجمع التبرعات لاستكمال بناء التمثال)، فقد بقيت أعمال أخرى جديرة بالإشارة إليها.
منها قبر الجنرال في الحربين السيمينولية والمكسيكية ويليام جنكنز وورث، الذي تعلوه مسلة، ويوجد عند تقاطع شارع برودواي والجادة الخامسة في الشارع الخامس والعشرين. وُضِع القبر هناك في 1857، وهو الضريح الأثري الوحيد في المدينة بخلاف قبر الجنرال غرانت.
ويطل تمثال عملاق من البرونز لويليام هنري سيوارد، وزير الخارجية في عهد الرئيسين لنكولن وجونسون، الذي هندس عملية شراء ولاية ألاسكا في عام 1867، عند تقاطع الجادة الخامسة والشارع الثالث والعشرين منذ عام 1876. وهناك شائعة تقول إنَّ النحات راندولف روجرز حاول الالتزام بالميزانية المخصصة للتمثال عبر وضع رأس سيوارد على تمثال برونزي مصبوب للرئيس إبراهام لنكولن.
وأقيم في عام 1881 نصب تذكاري للأدميرال ديفيد غلاسغو فاراغوت (بطل القوات البحرية في الحرب الأهلية الشهير بعبارة «اللعنة على الطوربيدات، فلننطلق بأقصى سرعة»). صنع التمثال نجمان ساطعان في عهدهما، هما ستانفورد وايت والنحات أغسطس سان غودا، اللذان صنعا لاحقاً تمثال ديانا العارية ليوضع فوق برج ساحة ماديسون سكوير غاردن الذي صممه وايت. ويمكن إيجاد التمثال وقاعدته الجميلة المصنوعة بالنحت الغائر بالقرب من تقاطع الجادة الخامسة مع الشارع السادس والعشرين.
أشباح الفنادق والساحات التي رحلت
هناك ثلاثة مبانٍ كبرى ميزت ماديسون سكوير في أيام عزها، واحدٌ منها ما زال موجوداً واثنان أُزيلا منذ وقتٍ طويل.
كان فندق الجادة الخامسة المُشيَّد في 1859 مقامرةً خطرة من مالكه آموس إينو، لدرجة أنَّ الفندق سُمِّي «حماقة إينو». لكن المتشككين أخطأوا حساباتهم. فقد أصبح الفندق بغرفه الـ600 وأول مصعد لحمل الركاب في التاريخ قبلةً سياسية فنية مالية. وكان من بين المترددين عليه رجال أعمال كبار مثل جاي غولد وجيم فيسك، وفنانين مثل مارك توين والممثل إدوين بوث. ومكث فيه كل رؤساء الولايات المتحدة من جيمس بوكانان (1857-1861) إلى ويليام ماكينلي (1897-1901) عند زيارتهم المدينة.
اشتهر الفندق بـ «ركن آمين»، وهو مقعد في بهو استقبال الفندق اعتاد أعضاء الحزب الجمهوري الجلوس فيه ووضع استراتيجيتهم. واتخذ ثيودور روزفلت، الذي نشأ في مبنى من الأحجار السمراء في الشارع العشرين، الفندق مقراً لأعماله عندما ترشح لمنصب العمدة في 1886 وخسره، وأيضاً عندما ترشح لمنصب الحاكم في 1898 وفاز بالمنصب، وفقاً لبيرمان.
ويُحكى أنَّه في ليلة إغلاق الفندق في 1908، دفع مرتادو حانة الفندق المخلصون مبلغاً ضخماً يصل إلى 7 آلاف دولارٍ مقابل آخر مشروباتهم.
أما الثاني فقد كان مبنى على الطراز المورسيكي الفينيسي من عصر النهضة، صممه ستانفورد في 1890. وإضافةً إلى الساحة الرئيسة التي استضافت آلاف المشاهدين، ضم المبنى قاعة مسرح وقاعة حفلات وممر تسوق وحديقة على السطح.
حجز وايت عدة طوابق لنفسه في البرج المجاور، وفي هذا المكان أو بالقرب منه أغوى الفتاة الاستعراضية الشابة إيفيلين نيسبيت. ودعم وايت إيفيلين ووالدتها لبعض الوقت مقابل موافقتها على الجلوس والاسترخاء شبه عارية إلا من بعض الحلي والجواهر على أرجوحة باللون الأحمر المخملي.
ثم تزوجت بعمر العشرين من المليونير هاري ثاو، الذي كان يحقد على وايت لأعوام. وفي يوم الخامس والعشرين من يونيو/حزيران 1906، أخرج ثاو مسدسه وأطلق النار على وايت على سطح المبنى، ليُحاكم بعدها في محاكمة القرن.
ومع أنَّ شهادة إيفيلين في المحاكمة أنقذت ثاو من حبل المشنقة، إذ نجا منها بادعائه الجنون، فهي لم تتجاوز وايت أبداً، وكانت تصفه بأنَّه «أروع رجلٍ عرفته في حياتها».
أما بالنسبة لزيارات المتعة القصيرة التي جرت في برج وايت وناقشتها المحكمة والصحافة، قالت إيفيلين: «لا تنسوا أنَّني كنتُ في الخامسة عشرة من عمري، وكنتُ أحب التأرجح».
بعد أعوام، كتب الروائي الأميركي إدغار لورنس دكتورو عن اغتيال ستانفورد وايت، وجعل إيفيلين نيسبيت إحدى الشخصيات الرئيسية في روايته Ragtime المنشورة عام 1975.
1900 إلى 1918 : «المسخ» ينهض، والهجرة تبدأ
من بين كل المباني المبهرة القريبة من ماديسون سكوير، لا يُضاهي شيء مبنى فلاتيرون ذا الإطارات الحديدية المطل على الشارع الثالث والعشرين. لاقى المبنى إعجاب العامة فور الانتهاء من تشييده عام 1902، لكنَّ آراء النقاد تباينت. شبَّهته صحيفة New York Tribune بـ «قطعة الكعك الهزيلة»، ووصفته صحيفة New York Times بأنَّه «مسخٌ بشع»، في حين اعتبره المصور ألفريد ستايغليتز «صورة لأميركا الجديدة الجاري إعدادها».
بحلول الحرب العالمية الأولى، انتقلت أغلب أعمال التشييد إلى أعالي المدينة. ملأت القصور الضخمة الجادة الخامسة، وبدأت ماديسون سكوير تفقد بريقها. لقد صارت مركزاً تجارياً، وبنت شركتا التأمين New York Life وMetLife ناطحات سحاب في مواضع المباني المحببة لستانفورد وايت، مبنى غاردن ومبنى الكنيسة المشيخية بماديسون سكوير. (وفقاً لكتاب بيرمان، تحسر ناقدٌ على هدم الكنيسة، التي جمعت بين الأعمدة الكورنثية والقبة المستلهمة من آيا صوفيا في إسطنبول، قائلاً إنَّ الكنيسة «استغرق الوصول إلى تصميمها خمسة آلاف عام، وهدموها في أسبوع».
1918 إلى 2018 : ألعاب أطفال، وعلوم، وفنون، وبرغر
مع هروب الطبقات الثرية، اشتهرت المنطقة بمصنعي الأزياء، ثم بألعاب الأطفال. في 1926، عرضت شركة Lionel أول مجسم قطارات في مقرها بماديسون سكوير، وافتتح ألفريد كارلتون غيلبرت، مخترع لعبة الإنشاءات والتركيب الشهيرة، قاعة العلوم، التي عرضت مجسمات قطارات من طراز American Flyer. وبعدها استحوذت شركة ليونيل على شركة A.C. Gilbert، منافستها العتيدة في 1967. واستضاف المبنى الذي أنشئ في موضع فندق الجادة الخامسة عدداً من صناع ألعاب الأطفال، وأصبح في النهاية مركز الألعاب الدولي. وقد كان معرض ألعاب نيويورك يُقام هناك لأعوام، لكنَّه بِيع في 2006. والآن صار المبنى وجهةً سياحية مرةً أخرى، إذ افتُتِح فيها مطعم من سلسلة المطاعم الإيطالية الكبرى Eataly.
وكانت هناك إضافات أخرى جديرة بالملاحظة في المنطقة في القرن العشرين. فنجد متجر Eisenberg للشطائر في الجادة الخامسة بالقرب من الشارع الثاني والعشرين، الذي يتباهى بأنَّه «يزيد مستوى الكوليسترول لدى سكان نيويورك منذ 1929». ربما يكون المطعم هو أقدم المطاعم المتبقية حتى الآن في المدينة.
بدأت عملية تجديد كبرى في 1999 ما أدى إلى إعادة إحياء الحديقة
وفي 1990 أُضيف النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست الذي صنعته هارييت فايغنباوم، الذي يصور معتقل أوشفيتز من الجو، إلى حائط إدارة الاستئناف بالمحكمة العليا لولاية نيويورك عند تقاطع الشارع الخامس والعشرين وجادة ماديسون.
بحلول نهاية القرن العشرين، صارت بعض المباني المحيطة بماديسون سكوير نصف فارغة، وفقدت الحديقة نفسها شعبيتها. ومن ثمَّ بدأت عملية تجديد كبرى، خاصةً في الجانب الجنوبي، في 1999 من قِبل جهة صارت فيما بعد هيئة حفظ حديقة ماديسون سكوير، ما أدى إلى إعادة إحياء المنطقة.
اقترح مالك المطاعم داني ماير إضافة كشك لبيع شطائر الهوت دوغ (واستخدام مطبخ مطعم Eleven Madison Park) في عام 2000. اكتسبت المبادرة رواجاً وشعبية، لدرجة أنَّ الكشك صار دائماً، ليصبح الأول من سلسلة مطاعم Shake Shack في أنحاء العالم.
ويقول كيتس ماير، المدير التنفيذي لهيئة حفظ حديقة ماديسون سكوير: «استمرت شراكتنا في النمو، وقد كانت رؤية داني وطعامه أساسيين لجعل حديقة ماديسون سكوير على ما هي عليه اليوم».
اليوم، تطل الشقق الفاخرة على حديقة تتلقى عنايةً جيدة، زاخرة بالمعارض الفنية والحفلات الموسيقية، وتخطط على مدار 60 عاماً لزراعة أنواع نباتية من نباتات الجزيرة الأصلية التي كانت موجودة حين وضع هنري هادسون قدمه على الجزيرة.
وحين احتاج المخرج مارتن سكورسيزي، ابن نيويورك، موقعاً يبدو مثل ماديسون سكوير في فيلمه المقتبس عن رواية The Age of Innocence، كان عليه السفر إلى مدينة تروي بولاية نيويورك من أجل العثور على مبانٍ من الأحجار السمراء لم تطلها يد الهدم بعد.