أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الكثير من السخط حينما صرح قائلاً: “نريد مهاجرين من دول مثل النرويج وليس من (بالوعات المجاري القذرة) كدول في إفريقيا وهايتي” (والأخيرة كان قد وصف مهاجريها في السابق بأنهم جميعاً مصابون بالإيدز).
لا شك في أنه تصريح صادم وباعث على الغضب؛ مما دفع الكثيرين إلى اعتقاد أن ترامب إن أصرَّ على التفكير والعمل بهذه الطريقة، فسيضطر الأميركيون في يوم ما إلى التماس طرق اللجوء والهجرة، فمثل هذه التصريحات تعيد إلى ذاكرة العالم شبح خطابات أدولف هتلر المشؤومة عشية الحرب العالمية الثانية وما جرته علي الألمان والعالم من نكبات. ومما لا شك فيه أن المجتمع الأميركي شديد التنوع والتباين في كل شيء ذي حساسية مفرطة تجاه مثل هذه التصريحات المحرضة على الانقسام.
من واقع الأوضاع الحالية، لا أعتقد أن هنالك نرويجياً عاقلاً سيضحي برغد العيش في دولة الرفاه الاجتماعي من أجل الهجرة إلى بلاد العم سام برأسماليتها التي لا تلقي بالاً للكثير من الالتزامات الاجتماعية؛ ليتوسل في نهاية المطاف السيد ترامب للإبقاء على برنامج “أوباما كير” للرعاية الصحية أو ما سواه من برامج الدعم والرعاية الاجتماعية، الشحيحة أصلاً في الولايات المتحدة بالمقارنة مع وصيفاتها من الدول الأخرى.
كما يتضح من خلال هذا التصريح، أن ذاكرة السيد ترامب بحاجة ماسة إلى إنعاش حتى تواكب المتغيرات؛ إذ لم تعد النرويج هي ذاك الرافد الأكبر الثاني بعد إيرلندا الذي رفد الولايات المتحدة بالمهاجرين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين نتيجة للتردي الاقتصادي والمجاعات التي حلَّت بالنرويج حينها؛ إذ يتربع الشعب النرويجي الآن على رأس القائمة العالمية لأكثر الشعوب سعادة، ويتقدم على شعب الولايات المتحدة بأشواط في مضمار جودة الحياة.
ينسجم تصريح ترامب هذا مع مطالباته اللحوحة بإلغاء برنامج هجرة التنوع “اللوتري” وأوامره التنفيذية العجلى للحد من والتشديد على الهجرة واللجوء عموماً، ويتوافق مع سياق طرحه لبديل الاستعاضة عن برنامج اللوتري بنظام الهجرة القائم على النقاط وتحديد الكفاءة كما هو الحال في كندا وأستراليا.
لكن هذه المطالبات تنطوي في الوقت ذاته على مغالطات عميقة، لا بد من أن تعصف بها في نهاية الأمر، فسوق الكفاءات والعمل عموماً خاضعة بطبيعة الحال لقوانين العرض والطلب والمزايا؛ ومن ثم عندما نقارن الأوضاع في الولايات المتحدة مع الجارة الشمالية كندا كمثال، وما توفره السوق الكندية من إغراءات تفتقدها سوق العمل والحياة عامة في الولايات المتحدة- يتبين خطل فكرة نقل النموذج الأسترالي الكندي بحذافيره وتطبيقه على سوق العمل الأميركية، كمثال لمجافاة ما يطرحه ترامب للواقع.
إنه عندما تم التضييق على المهاجرين غير الشرعيين بعد وصوله إلى البيت الأبيض، أدت تلك السياسات إلى نقص حاد في الأيدي العاملة، مما أثر على القطاع الزراعي الأميركي، وهي حالة مشابهة للأوضاع الحالية في كندا، التي يبشر ترامب باحتذاء تجربتها في إصلاح نظام الهجرة؛ مما دفع حكومتها إلى إعلان الرغبة في استقبال مليون مهاجر في غضون السنوات الثلاث القادمة لإنقاذ القطاعات الإنتاجية المهدَّدة بالتوقف من جراء النقص في الأيدي العاملة؛ لذا يجب وضع الهيستريا التي تنتاب ترامب عند تعاطيه مع ملف الهجرة في موضع الاستفهام.
ومن أكثر المغالطات إدهاشاً كذلك، تزامن انتهاج سياسة تشديد إجراءات الهجرة، بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، مع إعلان أبطال العالم في التصدير “الألمان” اعتزامهم فتح الباب لاجتذاب المزيد من الأيدي العاملة المهاجرة كضرورة لتلافي التباطؤ في النمو المتوقع حدوثه جراء نقص الأيدى العاملة المحلية بفعل انخفاض معدلات الولادة، فعلى الرغم من أن ألمانيا كانت غارقة قبل مدة قصيرة تحت موجات اللجوء التي أفرزها الربيع العربي، فإن هذه الموجات -كما يبدو- لم تكن كافية لغمر سوق العمل الألماني الأصغر حجماً عند مقارنته بسوق العمل الأميركي.
إذن، هل من المعقول تصوُّر أن الاقتصاد الأميركي الأضخم عالمياً سيكون بمنأى عن كل هذا، أم أن ما يروِّج له السيد ترامب يهدف من ورائه إلى إرضاء قاعدته الانتخابية ذات التوجهات العنصرية ولو على حساب القيم الأميركية العظيمة، القائمة على الانفتاح والتنوع والتي جعلت أميركا على ما هي عليه الآن من عظمة وريادة، فضلاً عن المعطيات الاقتصادية الأخرى الماثلة؟
دائماً ما يلجأ الخطاب اليميني المتطرف، والصاعد هذه الأيام، إلى الكذب وتزييف الحقائق والأرقام والتعمية بإثارة المخاوف والهلع كوسيلة أساسية لتمرير أجندته العنصرية، الرامية إلى الانغلاق والتباعد، كما هو الحال مع السيد ترامب، الذي يتغاضى عمداً عن حقيقة أن هذه الدول التي نعتها بـ”الأوكار القذرة”، فضلاً عن أنها تزخر بالموارد الطبيعية اللازمة لتشغيل مصانع الغرب الصناعي وتتقاسم معه في الحين ذاته أضرار انبعاثاتها دون أن تحصل على عائد أو تعويض يُذكر- فإنها تشكل كذلك المورد الرئيس للأيدي العاملة في عالم اليوم.
تصريح ترامب، الذي وصفه المتحدث الرسمي للأمم المتحدة بكونه “تصريحاً عنصرياً يناقض الأرقام والحقائق”، فوفقاً للتقرير الصادر من “معهد أبحاث سياسات الهجرة بواشنطن” عن المهاجرين من إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى (أي الدول التي وصفها ترامب بالحثالة)، نجد أن نسبة حاملي درجة البكالوريوس بين المهاجرين القادمين من هذه الدول، تبلغ 41{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}، بينما تبلغ نسبة المهاجرين القادمين من النرويج نفسها على قلّتهم (في حدود 19 ألف شخص) والحاصلين على الدرجة ذاتها 38{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}، ولا تتجاوز نسبة حاملى البكالوريوس من جملة السكان المولودين في الولايات المتحدة 32{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}، أما من جملة المهاجرين عموماً، فتبلغ 30{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}.
كذلك، نجد أن نسبة حمَلة الماجستير من المهاجرين الأفارقة تبلغ 16{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}، بالمقارنة مع نسبة المولودين بالولايات المتحدة التي تبلغ 11{2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10}، وفضلاً عن ذلك يسهم القادمون من دول إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى بضرائب سنوية تناهز 10 مليارات دولار وقوة شرائية تفوق 40 مليار دولار سنوياً.
يبدو أن شعار “فلنجعل أميركا عظيمة” تتم ترجمته في ذهن ترامب ومناصريه من دعاة تفوُّق العِرق الأبيض والجماعات اليمينية الأخرى- إلى “فلنجعل أميركا بيضاء”، فالعظمة تقترن في أذهان هذه الجماعات بالعِرق الأبيض دون غيره من الأعراق، ولا تمثل لهم القيم الأميركية التي تشدد على التنوع والانفتاح، إلا محاولة يسارية بائسة لتلطيخ أميركا البيضاء.
لذا، يسعى السيد ترامب إلى تطبيق مضمون هذه التصورات من خلال جملة تدليسات ومغالطات، تمهد الطريق لسنِّ قوانين هجرة عنصرية في جوهرها، تقوم على اللون والانتماء العرقي لا أكثر.