تقمَّص الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان دور سفير الولايات المتحدة الأميركية لدى السعودية -الذي لم يتم تعيينه بعدُ- موجهاً رسالة إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن الأوضاع في المملكة قبل زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، المرتقبة إلى أميركا.
وقال فريدمان، في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، الثلاثاء 6 مارس/آذار 2018: “فخامة الرئيس، قبل زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كنت أود مشاركتكم بعض الأفكار.
وأضاف فريدمان: “إنَّها مسألة وقت قبل أن يُسلِّم الملك سلمان السلطة إلى ولي العهد، الذي يعد الحاكم الفعلي للبلاد الآن. إنَّ محمد بن سلمان ليس ديمقراطياً، إضافةً إلى أنَّه ليس مهتماً بتعزيز الديمقراطية؛ بل هو استبدادي عصري. أكثر ما يمكن أن نتوقَّعه منه هو تحديث الاقتصاد السعودي والهيكل الديني والاجتماعي. لكن نظراً إلى سوء حالة البلاد الاقتصادية، وما تعانيه من ركود نتيجة سنوات من الإصلاحات المؤقتة- فهذا أمرٌ بالغ الأهمية”.
وتابع الكاتب الأميركي: “لا شك في أنَّ محمد بن سلمان قائدٌ جريء، وليس بوسعي التفكير في أي شخصٍ آخر بالأسرة الحاكمة كان سيقيم الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية العميقة التي تجرَّأ هو على إجرائها، جميعها في الوقت ذاته؛ لكن ليس بوسعي أيضاً التفكير في أي شخصٍ آخر بتلك الأسرة كان من شأنه اتخاذ تلك المبادرات في السياسة الخارجية، والممارسات بالسلطة المحلية، والإسراف في شراء المتع الشخصية، مثلما تجرَّأ هو على فعله، جميعها في الوقت ذاته أيضاً. كلا الجانبين وجهان لعملة واحدة، وتكمن مهمتنا في مساعدته على كبح دوافعه السيئة، وتعزيز الدوافع الجيدة”.
دولة واحدة لها نظامان
وبحسب المقال، “يسعى محمد بن سلمان، بإمكاناته الواسعة، إلى إحداث تحوُّلٍ مجتمعي في المملكة العربية السعودية، ويمكن تسمية خطته تلك (دولة واحدة لها نظامان). بصورةٍ أوضح، بالنسبة لأولئك الذين يضعون التقوى، والمساجد، ومكة، والتعاليم الإسلامية، نصب أعينهم، فسيكون جميعها متاحاً وموقَّراً؛ إنَّما بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في تعليمٍ حديث، وحياةٍ اجتماعية طبيعية أكثر بين الرجال والنساء، وإتاحة مشاهدة الأفلام والموسيقى والفنون الغربية، فسيكون كل منها متاحاً وموفَّراً كذلك. لا مزيد من الهيمنة الدينية، وليس هذا بالأمر الهين.
وعندما أخذت الأسرة الحاكمة السعودية (التي شعرت بالحاجة إلى إبداء ميول أكثر تزمُّتاً بعد استيلاء الإسلاميين المتعصبين على المسجد الحرام في مكة المكرمة عام 1979) الإسلام السنّي إلى طريق أكثر تطرُّفاً، وفعلَ آيات الله الإيرانيون الشيء ذاته مع الإسلام الشيعي، تغيَّر وجه الإسلام وثقافته، ولم يكن هذا التغيير للأفضل. أغلق السعوديون جميع دور السينما، وحظروا الحفلات الموسيقية ووسائل الترفيه، وضيَّقوا الخناق على تمكين المرأة والتعليم الحديث، ونشروا -على نطاقٍ واسع- شكلاً للإسلام مناهضاً للتعدُّدية، وكارهاً للنساء، ومعادياً للغرب، مما وضع الأسس الأيديولوجية والمالية لهجمات 9/11، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والقاعدة، وطالبان”، بحسب فريدمان.
وقال الكاتب الأميركي: “فكِّر فقط في كم الدولارات التي أنفقناها لمكافحة التطرُّف الإسلامي منذ 11 سبتمبر/أيلول، وكيف أنَّها بلغت التريليونات! ومع ذلك، لدينا الآن زعيم سعودي لا يتحدَّث فحسب عن رفع الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارات؛ بل يرفعه فعلاً؛ ويمنح النساء المساحة للذهاب إلى الحفلات الموسيقية التي يقيمها نجوم الروك من العالم الغربي والعربي، والالتحاق بالجيش، وبدء الأعمال التجارية بسهولة أكبر؛ بينما يكبح نفوذ الشرطة الدينية ورجال الدين في الحياة اليومية بشدة، ويستورد أنظمة تعليمية ذات نمطٍ غربي، ويعيد فتح دور السينما، ويتعهَّد علناً بإعادة الإسلام إلى أصوله (المعتدلة)؛ وأخيراً، يبطل القانون الذي ينص على أنَّ المرأة السعودية التي طلبت الطلاق وذهبت للعيش مع والديها، مضطرة إلى العودة لزوجها في حال طالَبها بذلك.
حتى إنَّه جعل رجال الدين يبيحون إبداء (تعبيرات الحب) في عيد الحب لأول مرة!”.
إسلام أكثر اعتدالاً
وبحسب كاتب المقال، فإنه “إذا جرى تمكين المرأة السعودية (الأمر الذي سيكون فعَّالاً تماماً فقط عندما تُبطَل قوانين “وصاية الذَّكَر” عليها)، وأصبحت المملكة مجتمعاً أكثر طبيعية وترابطاً وإنتاجاً- فسيصير الإسلام السعودي، بطبيعة الحال، أكثر اعتدالاً وشمولية. وبالنظر إلى الطريقة التي تُحدِّد بها المملكة العربية السعودية اتجاه الإسلام على الصعيد العالمي، فسيعزل ذلك المتطرِّفين ويُعزِّز المعتدلين في كل مكان. وهذا، مرة أخرى، ليس بالأمر الهين.
إلا أنَّ هذه الإجراءات قد تستغرق وقتاً طويلاً حتى تُطبَّق، وحتى تتوقف المملكة عن توريد الكتب، والمدارس، ورجال الدين المتطرفين الذين تصدِّرهم إلى جميع أنحاء العالم، لكنَّ أحوال العالم كله ستتحسن جراء ذلك.
يتطلَّب النجاح في تحقيق ذلك، أن يتولَّى محمد بن سلمان مهامه بصورة غير معتادة، وأن يصاحبه فريق استثنائي، لكنَّ محمد بن سلمان تواجهه بعض المشاكل -للأسف- من هذه الناحية. مبدئياً، يأتي محمد بن سلمان من أفقر جناح في الأسرة الحاكمة؛ لم يكن والده سوى حاكم للرياض، وكان معروفاً بنزاهته. ونتيجة لذلك، نشأ محمد بن سلمان وداخله كثير من الاستياء والازدراء تجاه أبناء عمته الكسالى، الذين ازدادت ثروتهم مع الوقت، وازدادت معها ثروات كبار التجار المقربين منهم. لذا، كانت حملة مكافحة الفساد التي شنَّها تهدف إلى وقف موجة الكسب غير المشروع حقاً، لكنَّها لم تخلُ أيضاً من عناصر انتقامية، ورغبةٍ في الاستيلاء على السلطة والمال. ولا يزال محمد بن سلمان يضع 56 سعودياً ثرياً قيد الإقامة الجبرية”، بحسب المقال.
واستدرك الكاتب: “لكنَّه بحاجة إلى إطلاق سراحهم، وإنشاء محكمة دائمة وشفافة معنيَّة بمكافحة الفساد؛ للتعامل مع جميع القضايا، وإنهاء كل هذا. لا يستطيع محمد بن سلمان أن يحقق إصلاحاته الاقتصادية من دون مستثمرين عالميين. واليوم، هناك الكثير من المستثمرين الأجانب (والسعوديين) الذين يتساءلون: (إذا استثمرت أموالي في المملكة، أو تشاركت مع أحد السعوديين، فهل يمكن أن تجري مصادرة هذه الثروة دون سابق إنذار، في فندق ريتز-كارلتون؟).
سيادة القانون ضمان لاستمرار الاستثمارات
فمن دون سيادة القانون، لن يكون هناك ما يكفي من الاستثمارات أو الوظائف في المملكة العربية السعودية، ومن دون فرص العمل، ستتلاشى الإصلاحات الاجتماعية وسيجد التطرف الديني أرضاً خصبة للعودة”، هكذا يرى الكاتب الأميركي.
“في الوقت ذاته، نحن بحاجةٍ إلى أن نقول لمحمد بن سلمان إنَّه إمَّا بإمكانه أن يكون ملكاً فعالاً، بشرعيةٍ حقيقية، وإما بإمكانه شراء اليخوت، وصقور، ولوحات ليوناردو دافنشي، مثل أبناء عمته، لكن لا يمكنه أن يفعل كلا الأمرين معاً. عليه أن يفهم أنَّه أصبح شخصية مهمة على الساحة العالمية، وأنَّه يحتاج إلى اكتساب سمعة تشبه سمعة والده؛ نظيفة، ومتواضعة، وتصالحية”، بحسب فريدمان.
“وعلى الجانب الإداري، فإنَّ فريق محمد بن سلمان صغير جداً ويحتوي على اثنين من الوزراء المتسلطين بالقرب منه، قد أتاح لهما سلطات تفوق قدراتهما، واللذين يُبرزان أسوأ غرائزه ويقدِّمان له نصائح غاية في السوء، أدى بعضها إلى فشل تدخُّله في اليمن ولبنان وقطر. وبينما يعد محمد بن سلمان مبتكراً في توجهاته الإصلاحية، فله مزاج حاد للغاية، ويخشى معظم وزرائه تحدِّيه أو تقديم النصائح الصريحة التي يحتاج إليها”، بحسب كاتب المقال.
وأشار فريدمان إلى أنه “يمكن لهذه المسؤوليات أن تُقوِّض جميع إصلاحاته. لذلك، نحن بحاجة إلى أن نتشارك معه بانتظام في كل تلك القضايا عبر منحه مشورةً حكيمة. لكنَّ ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي، لا يحظى بمكانةٍ مرموقة في الرياض، وليس لدينا مساعد وزير خارجية دائم معنيٌّ بشؤون الشرق الأدنى، ولا حتى سفير. هل أنت مجنون؟! تحتاج إلى تعيين شخص كجيمس بيكر أو ديف بترايوس بصفته مبعوثك الخاص إلى الخليج العربي، شخص بإمكانه مساعدة محمد بن سلمان على نزع فتيل الأزمة اليمنية، وإنهاء الخلافات مع جيرانه، وتركيز جميع طاقاته على بناء المملكة العربية السعودية، التي تزدهر داخلياً وتُعجب بها الدول المحيطة كافةً. يُعَد هذا أفضل حصن ضد التوسع الإيراني.
مطاردة إيران في كل مكان
إذا اختار محمد بن سلمان مطاردة إيران في كل مكان، فإنَّ طهران ستستنزف كل قوته، وسيكون الأمر أشبه بالموت البطيء. نحن بحاجةٍ إلى أن نتواصل معه بانتظام عبر شخصٍ يحترمه، وألا نتركه لعصبته تلك، سواء كان صهرك، أو غيره من أمراء الخليج صغيري السن المنتشين بهرمونات الذكورة. إذا كنت تعتقد أنَّه يمكنك الثناء فقط على موقفه المناهض لإيران وإصلاحاته الدينية ليكون كل شيء على ما يرام، فأنت مخطئ”، بحسب فريدمان.
وختم فريدمان مستدركاً: “لكن يا فخامة الرئيس ترامب، إذا جاز لي التعبير، فإنَّ محمد بن سلمان لا يزال شاباً، بينما تبلغ أعمار ثلثي سكان السعودية أقل من 30 عاماً. إنَّهم يتطلَّعون إلى أميركا لما هو أكثر من مجرد أسلحتها، ويعتبروننا مثالاً يُحتذى به، ويراقبون ما نقدِّمه، لذلك باتت مواصلة تعظيم سيادة القانون واحترام المؤسسات والتسامح والتعدُّدية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. من المُؤكَّد أنَّ تعيين مبعوث أميركي خاص إلى المملكة العربية السعودية أمرٌ فائق الأهمية الآن، لكنَّ الحفاظ على كون أميركا مثالاً خاصاً يحمل قدراً أعلى من الأهمية. أنت تفهم ما أعني بالطبع.
يرجى وضع هذه الرسالة في عين الاعتبار.. سفيرك لدى المملكة العربية السعودية (إذا كان لديك واحد)”.