عندما تتصفح نيويورك تايمز وواشنطن بوست، يبدو لك الرئيس الأميركي دونالد ترامب كما لو أنه ثور هائج نطح كل من حوله حتى أدمى قرنيه وخارت قواه.
وبمشاهدة أي نشرة أخبار على شاشة سي أن أن لا بد أن تخرج بخلاصة أن الرئيس الأميركي قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فقد طوقته الفضائح وانفض الناس من حوله.
لكن العجوز الوافد على السياسة من فضاء الترفيه والتجارة لمّا يستسلم بعد، فما زال يواصل رحلة الخروج عن المألوف ويقاتل على أكثر من جبهة ليخلط أوراق خصومه ومؤيديه على حد السواء.
وبمرور أكثر من عام على العربدة في البيت الأبيض، يبدو من المهم البحث في نقاط الضعف والقوة لدى ترمب ليتبين ما إذا كان عزله مسألة وقت فقط، أم أنه باق ويتمدد في واشنطن.
من الواضح جدا أن ترمب ضاق ذرعا باستمرار واتساع التحقيق بشأن تواطؤه مع روسيا لتقويض حملة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وقبل أشهر أقال ترمب مدير الـ أف بي أي جيمس كومي، لأنه يريد وضع حد لمهزلة التحقيق في تدخل روسيا في الانتخابات، وفق تغريدة له على تويتر.
وفي يوم الجمعة الماضي، أشاد ترمب بإقالة أندرو مكابي نائب مدير أف بي أي، وهو أهم الشهود المتعاونين مع روبرت مولر الذي يتولى التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات وفيما إذا كان ترمب سعى لعرقلة العدالة.
وكلتا التهمتين؛ الخيانة وعرقلة العدالة، توفر سببا كافيا لتقديم طلب عزل الرئيس إلى الجهات التشريعية، وفق الدستور الأميركي.
يجرم نفسه
وفي مقال نشرته الواشنطن بوست بعنوان “كيف يجرّم ترمب نفسه بسهولة”، تضيء الكاتبة جينيفر روبن على تغريدات ترمب التي تؤكد تورطه في إقالة واستبعاد الأشخاص المعنيين بالتحقيق في تواطؤه مع الروس بشأن الانتخابات.
وإلى جانب التدخل الروسي، يواجه ترمب سخطا كبيرا في الوسط السياسي؛ جانب منه يعود لماضيه المستهتر والآخر لتعاطيه مع شؤون الحكم بأدوات ذلك الماضي.
ويبدو ترمب وكأنه يريد اقتلاع القيم السياسية في واشنطن، حيث يقود خطاب الكراهية ضد اللاجئين والأقليات، ويتحدث في شؤون الاستخبارات والاقتصاد، ويقيل الوزراء عبر تغريدات منفلتة على تويتر.
وخلال السنة الماضية طرد الرئيس الأميركي العديد من الشخصيات المهمة بعد أن اختارها بنفسه، بينما فضل آخرون المغادرة من إدارة تدار بوقاحة تلفزيون الواقع.
ومن الشخصيات المهمة التي غادرت إدارة ترمب مدير أف أبي أي ونائبه، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الصحة توماس برايس، ومدير الاتصالات بالبيت الأبيض أنطوني سكاراموتشي، ومستشار الأمن القومي مايكل فلين، والمرشد الروحي للشعبويين والمتطرفين ستيف بانون.
بيد أن التدخل الروسي وافتقار ترمب للرصانة وكذبه وسجله مع المومسات، أمور ليست بالضرورة تؤدي لطرده من الحكم، لأن منصب الرئيس الأميركي مصفّح أمام نيران العزل وكلمة الفصل في هذا المجال يملكها الساسة لا القضاة.
المنصب المصفح
ووفق الدستور الأميركي يجب تصويت مجلس النواب على طلب عزل الرئيس ثم ينقل إلى مجلس الشيوخ حيث يجب أن يحظى بأغلبية الثلثين.
وإذا كان من الممكن حصول طلب العزل على الأغلبية في مجلس النواب، فإنه من شبه المستحيل أن يحصل على الثلثين في الكونغرس الذي يهمين عليه الجمهوريون.
هذه التحصينات السياسية حالت دون سقوط الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في فبراير/شباط 1999 رغم تورطه في فضيحة أخلاقية وكذبه تحت اليمين.
ولعل سقوط الرئيس ريشارد نيكسون وإجباره على الاستقالة عام 1973حالة خاصة لا يمكن القياس عليها هنا، لأن الرجل استقال أصلا قبل بدء إجراءات العزل، وذلك بعد أن حاصرته فضيحة ووترغيت التي كانت جريمة جنائية مكتملة الأركان، ما كان بمقدوره الإفلات منها.
أما في حالة ترمب فيبدو الأمر مختلفا، وليست العقبات الدستورية هي وحدها نقطة قوته، إنما يحسب له انتعاش سوق العمل في الولايات المتحدة، حيث شهد 2017 استحداث مليوني وظيفة، واستقرت البطالة عند 4.1 وهو أدنى مستوى لها خلال 17 عاما مضت.
وعدا ما يمكن اعتباره نجاحات اقتصادية، فإن ترمب الطارئ على الحزب الجمهوري، هو في النهاية من يجلس في المكتب البيضاوي ممثلا لهذا الحزب ومدافعا عنه وعن مصالحه بعد ثماني سنوات من ولايتي الديمقراطي باراك أوباما حسبها هذا الحزب عجفاء تردت بحال أميركا وصورتها في العالم.
لا تهربوا
وفي مقال بنيويورك تايمز تحت عنوان “لا تهربوا من ترمب”، يقول الجمهوري جيف راو إنه ليس من الصواب أن يتخلى أعضاء الحزب عن الرئيس لأن القارب سيغرق بالجميع ويقودهم لهزائم تاريخية.
ويضيف راو -وهو مؤسس أكسيوم للاستشارات الاستراتيجية- أن على الجمهوريين خوض الانتخابات كحزب حاكم ويمكنهم توظيف إنجازات ترمب وفي الوقت نفسه الابتعاد عن فحوى تغريداته.
وإلى جانب أدائه الاقتصادي، يحظى ترمب بتأييد ثلث الأميركيين وتلامس خطاباته وجدان اليمين المتطرف المؤمن بتفوق العرق الأبيض والمعادي للمهاجرين واللاجئين.
وفي ظل المناخ الدولي المضطرب يمكن لترمب تنفيس الضغط الداخلي بشن حرب على دولة مسلمة أو عربية، أو الدخول في صراع تجاري مع الصين.
ولم يكن ترمب مجرد زعيم متعصب للمسيحية الصهيونية حينما قدم نفسه كأكثر قادة البيت الأبيض تأييدا لإسرائيل، بل كان يدرك أن اللوبي اليهودي يمكنه أن يفعل الكثير في واشنطن، ولذلك أقدم في ديسمبر/كانون الأول الماضي على اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
وقد هيأ الرئيس الأميركي المناخ لتصفية القضية الفلسطينية بطريقة تجاوزت حتى خيالات تل أبيب، وكل ذلك لن يجعله مجرد رئيس فرصة للإسرائيليين وللوبي اليهودي في أميركا، بل ربما يكون حصوله على ولاية ثانية في صلب اهتمامات هذا اللوبي وأهدافه.
كذلك، نجح ترمب في تخويف العرب بعضهم من بعض ومن جيرانهم الإيرانيين، مما درّ عليه مئات المليارات من خزائن الخليج، التي أعلن أنه سيخصصها لخلق وظائف للأميركيين.
وإن كان هذا كارثة على العرب فإنه في نظر الشركات الكبرى ومجموعات المصالح والمجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة يمثل إنجازا يحسب لرئيس قد يفتقر للكياسة والتقاليد التي اعتادها أسلافه، لكنه في النهاية يتناغم مع شبكات المصالح التي تصنع الرؤساء في أميركا بما تريد من مال وحروب وأزمات.