طالما ارتبط مفهوم الرمز/الفرد بفترات النضال الوطنى، مثل تجربة نيلسون مانديلا فى جنوب أفريقيا، ومهاتما غاندى فى الهند، أو النظم السلطوية التى تعلِّى شأن القائد الزعيم، وتنبرى أبواق الدعاية السياسية فيها لتمجد صفاته وقدراته على حماية الوطن ورعاية الشعب، وعلى الرغم من تراجع آليات الدعاية القديمة، وبروز أنماط أكثر تفاعلية وحداثة من الاتصال السياسى، فإن الإعلام ظل يلعب دورًا – بوعى أو دون وعى – فى بناء الصورة الذهنية للقياديين السياسيين، والتركيز على سماتهم الفردية، بما عزز واتسق مع الاتجاه المتنامى لتراجع التأثير الأيديولوجى والحزبى أمام صعود التأثير الشخصى فى النظم السياسية المعاصرة.. ونسعى فى هذا المجال إلى مناقشة تأثير الإعلام فى الطريقة التى ندرك بها الواقع السياسى، وشخصياته، ودوره فى التركيز على السمات الشخصية للقيادات السياسية واختزالها، وصناعة الأيقونات، ثم مناقشة العوامل الرئيسية المحددة لهذا الدور، وعرض الحالات الممثلة لكل منها.
«التمثيل الإعلامى» للسياسيين:
يناقش العديد من المداخل النظرية تأثيرات الإعلام فى إدراك الجمهور للواقع عبر مفاهيم التأطير والتمثيل والغرس، والتى تعنى فى مجملها بكيفية تأثير وسائل الإعلام فى الطريقة التى يدرك بها الأفراد الواقع الفعلى وتقييماته وأحكامه تجاه تلك الشخصيات والجماعات والأحداث التى أخضعتها الوسائل الإعلامية لعمليات متسلسلة ومتراكمة من الانتقاء والتنظيم والبناء، ليظل ما نقرأ ونسمع ونشاهد لا يعبر حقيقة عن الواقع الفعلى بقدر ما يقدم واقعًا معدلاً تداخلت فيه عوامل عديدة، منها تجاذبات علاقة الإعلام بالمجال العام، وكذلك مدركات وقيم وأولويات منتجى تلك النصوص ومقدموها.
وقد تعددت المداخل التى تناولت تأثير الإعلام فى كيفية تحديد رؤيتنا وفهمنا للعالم، مثل حراسة البوابة Gatekeeping، ووضع الأجندة AgendaSetting، والتى تركز على دور الإعلام فى تحديد أولويات الجمهور، ونظرية التأطير Framingالتى تطرح مفهوماً يقوم على أن الأحداث لا تنطوى على مغزى معين فى حد ذاتها، وإنما تكتسب مغزاها من خلال وضعها بشكل متعمد فى إطار يحددها وينظمها ويضفى عليها قدرًا من الاتساق، ونظرية الغرس Cultivationالتى تناقش تأثير تراكم التعرض المتكرر والكثيف للمضامين المصورة فى إدراك الجمهور للواقع الحقيقى، والذى يدركونه من خلال هذا الواقع المصور.
ومن أهم المداخل، التى يمكن استخدامها فى فهم كيفية بناء الإعلام لصور السياسيين، نظرية التمثيل الإعلامى MediaRepresentation، والتى تقوم على أن الرموز المصورة والصوتية والنصية المضمنة فى الرسائل الإعلامية على اختلافها (أفلام – صحف – إعلانات …) تبنى معًا Constructطريقة فهمنا للواقع وقضاياه، وتخلق صورًا Portrayalsلشخوصه تركز فيها على صفات بعينها، وتتجاهل أخرى بل وقد تختلق ثالثة، وهو ما يؤثر فى مجمله على الطريقة التى ندرك بها دور تلك الشخصيات وحجم تأثيرها، كقادة ناجحين، أو سياسيين ثوريين، أو غيرها من عمليات الأيقنة أو التمثيل.
وقد تم استخدام المدخل ذاته فى مجالات التسويق السياسى وصناعة العلامة التجارية الشخصية Self–Brandingof Politicians، والتى قدمت مفهوم التقديم الذاتى Self–presentation، الذى يركز على استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، خاصة من جانب الشخصيات العامة، فى تقديم صور عن الذات قد تكون مختلفة تمامًا عن الحقيقة، وهو المفهوم الذى يركز على الأفعال والممارسات التى ينقل من خلالها الفرد معلومات معينة عن نفسه للآخرين. هذه المعلومات ذاتها تتضمن تمثيلات ذاتية Self–representations1، مما يجعل التقديم يركز على فعل القائم بالاتصال (وتحديدًا فى وسائل التواصل الاجتماعى) فيما التمثيل يركز على المضامين الإعلامية والأكواد المضمنة فى الرسائل والمعانى والصور التى تبنيها.
هذه التمثيلات الإعلامية، بعِّدها رموز دالة ومقصودة، تفسر لنا الآلية التى يتم بها صناعة الأيقونات السياسية. فتكرار عرض صور أردوغان فى المساجد، وبين الفقراء، يبكى عند سماعه الخطب الإسلامية ويحتضن كبار السن، صنعت – فى فترة سابقة – صورة إيجابية له كزعيم إسلامى صالح، اعتمادًا على بث رموز بشكل مكثف ومتكرر، تستدعى تأويلات Interpretationsجاهزة، وتنتهى إلى تقييماتevaluationsعاطفية لدى الجمهور الذى يربط بين «الصلاة والخشوع»، و«الحكم الرشيد» رغم أنه فعليًا قد لا يكون بينهما أى رابط حقيقى، أو أن أحديهما يؤدى إلى الآخر.
على الصعيد نفسه، عكست الطريقة التى يتم بها «تمثيل» الرئيس الروسى فلاديمير بوتين كرجل رياضى، قوى البنيان، يمارس الألعاب الخطيرة ويرافق الحيوانات المفترسة، صورة قوية لزعيم لا يخشى شيئًا، وهو ما امتد إلى نشر فيديوهات له وهو يجتمع برجال الأعمال الروسيين فيوجه لهم الأوامر لحماية جموع العاملين من آثار الانهيار الاقتصادى فينفذوا أوامره صاغرين2، كلها مضامين إعلامية تضمنت تمثيلات Representationsتبنى صورة لزعيم قوى، ليس فقط داخل روسيا، وإنما خارجها أيضًا.
تطرح هذه المداخل تفسيرًا للآلية التى يتم بها بناء الصور الذهنية للسياسيين، وتدعيم صفات بعينها تعزز تأثيرهم الشخصى، وهى العملية التى لا تختلف من حيث تفاصيلها بين منظومة سياسية وأخرى، ولكنها تختلف من حيث العوامل المؤدية إليها وآلياتها، أو بمعنى آخر، كيف يتمكن السياسيون من بث تلك التمثيلات عبر وسائل الإعلام، ليس من خلال الرسائل الإعلانية والتسويقية المباشرة، مثل الحملات الانتخابية، ولكن الأهم من خلال المحتوى الإخبارى والترفيهى الذى يعد أكثر نجاحا فى بناء تلك الصور.
ويكشف البحث فى التجارب الدولية المختلفة، عن أربعة نماذج رئيسية يتم استخدامها– بشكل متقاطع – لتوظيف الإعلام فى بناء الصورة للشخصيات السياسية، تتمثل فى التقديم الذاتى، عبر وسائل التواصل الاجتماعى، والنفاذ عبر التوافق مع قيم الثقافة الشعبية، والإخضاع السياسى وأخيرًا الامتلاك الاقتصادى.
التقديم الذاتى عبر منصات الإعلام الاجتماعى:
وفرت وسائل التواصل الاجتماعى أدوات للتواصل المباشر بين القيادات السياسية والجماهير، يتم من خلالها تقديم صورة ذاتية للشخصية السياسية تركز على الأبعاد الإنسانية والشخصية، وتهتم بالتفاعل الفورى مع المستخدمين، والتجاوب مع الأحداث العامة، والتركيز على المحتوى المصور الملائم والقابل للانتشار وغيرها من تكنيكات استخدام تلك الوسائل الجديدة بما يلائم جمهورها.
وقد قدَّم الرئيس الأمريكى السابق «باراك أوباما» نموذجًا رائدًا فى هذا التقديم حتى أصبح أحد الرموز الرائجة والمحبوبة عبر الإعلام الاجتماعى SocialmediaIdol، وهو ما فتح المجال أمام دراسات عديدة ركزت على توظيف الإعلام الاجتماعى سياسيًا، أو ما يسمى سياسات الاندماج الرقمي3.
شهد العالم العربى أيضًا تجارب لاستخدام السوشيال ميديا فى التقديم الذاتى للسياسيين، ومن أبرزهم الشيخ محمد بن راشد فى الإمارات، والملكة رانيا بالأردن، واللذين أشارت دراسة عن استخدام تويتر من جانب الزعماء السياسيين أنهما الأكثر متابعة فى منطقة الشرق الأوسط4، وهو الاستخدام الذى لا يقتصر على تويتر فقط، وإنما يمتد لمنصات أخرى، مثل فيسبوك وانستجرام، ويعكس كل منها صورة مختلفة عن الآخر. إذ يظهر الشيخ محمد بن راشد فى صورة القائد المجدد، فيما تبدو الملكة رانيا فى دور المرأة التى تعتز بعائلتها، ولها دور فى مساندة شعبها بشكل يركز على الأبعاد الإنسانية والأسرية إلى حد بعيد.
ثمة مثال آخر على استخدام السوشيال ميديا فى تعزيز الصورة العامة للقيادة السياسية وهو رئيس وزراء الهند «ناريندرا مودى» الذى تحظى صفحته على فيسبوك بإجمالى 43٫2 مليون متابع، كما يحظى حسابه على تويتر بـ 41٫1 مليون متابع، ليحتل المركز الأول من حيث المتابعة وفق موقع سوشيال بيكرز لشهر مارس 2018 5، فيما سمته صحيفة التلجراف البريطانية «دبلوماسية السيلفى»، فى إشارة لاستخدامه وسائل التواصل فى بناء الصورة والتواصل الدولي6.
وتبدو تجربة ناريندرا مودى ملهمة فى مجال بناء الصورة السياسية والتسويق السياسى. ففى حملته الانتخابية عام 2014 استطاع فريقه الإعلامى بناء صورة جديدة له كزعيم قومى عصامى غير فاسد وذى أجندة اقتصادية، بدلاً من سياسى إقليمى يمينى فشل فى إدارة اضطرابات طائفية عنيفة خلال فترة ولايته لحكومة جوجارات، وهو ما كانت السوشيال ميديا وسيلة ناجعة فى تحقيقه، وفى النجاح فى بناء التواصل بين السياسى الستينى والشباب. وأوضحت الدراسة حالة نشرتها صحيفة بيزنس توداى الهندية إنه على الرغم من أن الترويج لزعيم ــ معين باعتباره قائدًا للتغيير ــ لا يمثل استراتيجية جديدة فى الهند، بل إن حزب بهاراتيا جاناتا – الذى ينتمى إليه مودى – سبق أن استخدمها مع مرشحين آخرين، فإن تلك التجار بالسابقة كانت تربط الترويج للأشخاص بالحزب بل وتخضعها له، فيما جاءت تجربة نارنديرا لتغير قواعد اللعبة وتستفيد من أساليب التسويق الشخصية أو ما يسمى بناء العلامة التجاربة للأشخاص PersonalBranding7، والتى لم تركز فقط على الأبعاد السياسية العامة، وإنما تضمنت أبعادًا إنسانية لحياته وصور طفولته، وصور له مع والدته، وتغريدات عن رياضة الكريكت، وغيرها من المضامين التى تتسق مع طبيعة الإعلام الاجتماعى من ناحية، كما تنزع إلى إبراز الأبعاد الشخصية لا العامة من ناحية أخرى.
وقد أشارت دراسة للباحثين أوشا ريدريجس، وميشيل نيمان من جامعة ديكين الأسترالية إلى ما سمياه «القوة الاتصالية» communicativepowerالتى أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعى للقيادات والجماعات السياسية، ليس فقط للتعبير عن توجهاتهم، وإنما أيضًا للتعرف على اتجاهات المواطنين وآرائهم، فى تحليل لتجربة ناريندرا مودى فى استخدام الإعلام الاجتماعى فى حملة «نظفوا الهند»8، والتى استخدم فيها أساليب إبداعية تضمنت نشر فيديو كرتونى لمودى، وهو يحمل مكنسة ويشارك فى التنظيف.
وفى السياق نفسه، أجرى فريق بحث من كلية المعلومات بجامعة ميتشجان دراسة تم نشرها عام 2017 للبحث عن عوامل شعبية مودى على تويتر، حيث أخضع الفريق تسعة آلاف تغريدة تم نشرها على حسابه خلال ست سنوات للبحث والتحليل، وتوصل إلى أن استخدام أساليب السخرية والدعابة هو أهم سبب لذلك الرواج الإلكترونى بما يحمله من مزايا التواصل المباشر مع الجماهير، وهى السخرية السياسية التى بات يوجهها لحزب المعارضة وقادته، عبر تغريدات لاقت انتشارًا واسعا9.
النفاذ عبر التوافق مع قيم الثقافة الشعبية:
يشير مصطلح الثقافة الشعبية PopularCultureبشكل عام إلى الممارسات والاتجاهات الرائجة، والأذواق السائدة بين غالبية المجتمع، لاسيما الشباب، وتنعكس فى الموسيقى، والإعلام، والأفلام، والنكات، وغيرها، وتعد مناقضة لمفهوم ثقافة النخبة EliteCultureالتى طالما كان السياسيون جزءاً منها.
إلا أن دونالد ترامب قدم نموذجًا مختلفًا أعاد تعريف المصطلح بما ينسجم تمامًا مع قيم الثقافة الشعبية الأمريكية، من حيث الإثارة والتعامل بشكل يشبه نجوم هوليود، بل إنه قدَّم مادة مسلية أقرب إلى عروض «تليفزيون الواقع»، وطرح معايير جديدة لما هو «مقبول رئاسيًا»10. وفى مقابل بناء كاريزما أوباما، عبر وسائل التواصل الاجتماعى، سيطرت شخصية ترامب على المسلسلات والأغانى والأفلام التى ظلت تردد جمله الشهيرة، وتحاكى حركاته وطريقته فى الملبس والكلام.
فقد بدا ترامب مختلفًا ومستقلاً حتى عن حزبه الجمهورى نفسه الذى صدَّر للواجهة الأمريكية أعنف الرؤساء الذين خاضوا حروبًا وصراعات ضد أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، حتى إن التركيز الساخر على «شعره»، وطريقته فى الكلام وتباهيه بامتلاكه كل شيء، كان لها تأثير فى منتجات الثقافة الشعبية الأمريكية، فبدت تحاكيه وتستخدم لزماته فى المسلسلات والأفلام والبرامج، والتى وجدت فى سمات «ترامب» الشخصية مادة خصبة للرواج والانتشار، والذى كان له تأثير فى لفت الأنظار للرجل، حتى وإن سادتها السخرية، ليقف العالم أمام صدمة نجاحه الذى طالما كان مادة خصبة لبرامج السخرية والفكاهة11.
وعلى الرغم من أن تلك التغطيات الإعلامية لم تكن إيجابية تمامًا، فإن ترامب نجح فى إلقاء «طُعم» الإثارة لجذب وسائل الإعلام حتى الإخبارية منها،والتى يعد «الصراع» قيمة رئيسية فى عملها، فاستطاع أن يلعب بنفس قواعد اللعبة، ويستحوذ على الشاشات دون ضغوط سياسية، أو إنفاق إعلانى، وإنما بشكل طوعى تمامًا.
ويمكننا فى هذا الشأن استعراض نتائج دراسة أجراها مركز شورينستن للإعلام والسياسة العامة بكلية كيندى بجامعة هارفارد للتغطية الإخبارية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى المئة يوم الأولى من توليه منصبه، والتى شملت تحليل التقارير الإخبارية بالنسخ المطبوعة لصحف نيويورك تايمز، ووول ستريت جورنال، وواشنطن بوست، وكذلك النشرات الإخبارية الرئيسية بقنوات سى بى اس، وسى إن إن وفوكس نيوز، وإن بى سى، وثلاث وسائل إعلامية أوروبية شملت صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية وبى بى سى، وشبكة إيه آر دى الألمانية.
وقد توصلت هذه الدراسة الموسعة إلى أن ترامب استحوذ على 41 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} من إجمالى التغطية الإخبارية التى تم رصدها، وهو ما يرتفع ثلاث أضعاف عن الرؤساء السابقين، كما أنه كان المتحدث الرئيسى فى 65 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} منها مقابل 11 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} من مسؤولى إدارته و4 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} من الحزب الجمهورى. وعلى الرغم من إن 80 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} من تلك التغطية اتسم بالسلبية فإنها فى مجملها وعند مقارنتها بالتمثيل المؤسسى (الإدارة الأمريكية – الحزب) تعكس سيطرة شخصية ترامب على مساحات البث المطبوع والمتلفز التى يستهلكها الجمهور الأمريكى.
هذا «الجنون» الذى بدا عليه ترامب توافق مع التركيز الدائم لوسائل الإعلام – وفق قيمها الإخبارية – على الأحداث السيئة، والتى تسببت فى حالة يطلق عليها «الاستكشاف بالإتاحة» Availabilityheuristic، والتى تعنى ميل الناس إلى توقع حدوث شيء معين، أو احتمالية تكراره كلما زادت سهولة استدعائه عقليًا، أى أن تركيز الإعلام على انتشار الكوارث يجعل الناس أكثر توقعًا لحدوثها بما قد يشوه الواقع الحقيقى، ويجعل الناس أكثر إيمانًا بجدوى التغييرالجذرى أو الثورى smash–the–machinechange، بخلاف وعود المتدرج، وهو ما جعل خطاب ترامب الناقد لكل شيء أكثر قبولاً12، الأمر الذى يفسر لماذا نجح ترامب رغم كل هذه التغطيات السلبية ضده، لأنها ببساطة أبرزت ثقته السياسية فى قدرته على انتشالهم من المخاطر المحيطة عبر حلول جذرية حتى وإن بدت «مجنونة».
الإخضاع السياسى للإعلام:
يطرح هذا النموذج الشكل التقليدى لتوظيف وسائل الإعلام، من خلال السيطرة على مؤسساته، عبر إخضاعه سياسيًا، سواء فى أنظمة إعلامية سلطوية يسودها سيطرة الدولة، مثل روسيا والصين، أو فى أنظمة تستخدم المخاوف الأمنية لفرض قبضتها على الإعلام، مثل تركيا.
ويمثل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان مثالاً واضحًا على النزعة الفردية فى الحكم. وعلى الرغم من أن الرجل ينتمى إلى حزب العدالة والتنمية الذى تأسس عام 1998، فإن السنوات الأخيرة شهدت اتجاهًا متناميًا نحو تعزيز سلطاته الرئاسية، الأمر الذى تجلى فى التعديلات الدستورية خلال أبريل 2017 الذى حوَّل البلاد إلى النظام الرئاسى ومنح أردوغان صلاحيات عديدة منها التعيين، والإقالة للقضاة، وفرض حالة الطوارئ، وإصدار المراسيم.
والحقيقة أن صورة أردوغان فى الإعلام شهدت مرحلتين متناقضتين تمامًا، إذ ظل الرجل منذ السنوات الأخيرة فى العقد الأول من الألفية يحظى بصورة إيجابية لم يروج إليها الإعلام التركى وحده، وإنما الإعلام العربى أيضًا الذى أسهم فى بناء صورة أردوغان بحسبانه زعيماً إسلامياً شجاعاً ورجل دولة «صالحاً»، وكانت المشادة الكلامية وانسحابه من جلسة جمعته بالرئيس الإسرائيلى الراحل، شيمون بيريز، عام 2009 سببًا رئيسيًا فى بناء صورة إيجابية له ليس فقط كرئيس تركيا، وإنما كزعيم إسلامى أيضًا.
ولكن مع التوترات السياسية التى أعقبت أحداث (ساحة تقسيم) فى مايو عام 2013 والموقف التركى من التغيرات السياسية بالمنطقة، خاصة فى مصر، لم تعد الصورة نفسها لرجل تركيا الصالح فى الإعلام الخارجى، واتجه الأخير إلى فرض هيمنته على الإعلام المحلى وإخضاعه فى سياسات جعلت من الإعلام التركى «أبواقًا حكومية» تروج لصورة القائد الأوحد، أو الزعيم الذى لا بديل له، وفق وصف الباحثة بريتا اوم BrittaOhmمن معهد الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة بيرن13.
وقد أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرًا فى عام 2016 بعنوان «إسكات الإعلام التركى» رصد ممارسات النظام التركى القمعية ضد الإعلام المحلى، بما فى ذلك محاكمة الصحفيين بتهم جنائية، واستيلاء أو إغلاق الحكومة لشركات الإعلام الخاص، وفرض الغرامات14، وحتى يوليو 2017 كانت تركيا قد أغلقت 4 وكالات أنباء و45 صحيفة و15 مجلة، و16 قناة تلفزيونية، و22 محطة إذاعية، و28 دار نشر مع مصادرة محتوياتهم.
وإلى جانب المؤسسات الإعلامية الحكومية، وفى مقدمتها مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التى تضم 14 قناة تليفزيونية، و10 إذاعات، و8 مواقع إنترنت، وكذلك وكالة الأناضول، يمتلك مقربون من أردوغان مؤسسات إعلامية ضخمة، فى مقدمتها مجموعة ترك ميديا، ومؤسستا كاليون وتشاليك، ومجموعة البايراك، ومجموعة جينار الإعلامية15، وهى المؤسسات التى تمتلك مجموعة من الصحف والقنوات والمواقع التى تروج لسياسات أردوغان وتدعم سيطرته ونفوذه والتأكيد على دوره كـ»حامى الأمة من الفوضى والديكتاتورية»16.
ولم تقتصر هيمنة النظام التركى على الإعلام التقليدى فحسب، وإنما امتدت إلى منصات الإعلام الجديد لاسيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، والتى استخدم فيها أردوغان تطبيق فيس تايم ليوجه فيديو يدعو فيه الشعب لمواجهة الانقلاب، إذ شهدت تركيا موجة من حظر مواقع تويتر وفيسبوك ويوتيوب،فضلاً عن حجب عدد من المواقع وسط أنباء عن اعتقالات بسبب تدوينات رقمية، مما تسبب فى شيوع حالة من «الرقابة الذاتية» بتجنب مستخدمى المنصات الاجتماعية نشر ما قد يعرضهم للمخاطر17.
تملك السياسيين لوسائل الإعلام:
على الرغم من أن النظم الإعلامية عرفت الملكية الحزبية لوسائل الإعلام، والتى يتم فيها توظيف تلك الوسائل بحكم ملكيتها، فإن هناك نموذج آخر للتوظيف السياسى بحكم الملكية الفردية، وليس المؤسسية، وذلك بامتلاك السياسيين وسائل إعلامية ملكية فرديةPolitician–OwnedMedia، ولكنهم يستخدمونها فى الترويج لأنفسهم وتياراتهم السياسية، وهو ما تمنعه بعض دول العالم مثل تونس التى يحظر فيها القانون الجمع بين المسؤولية الحزبية وإدارة مؤسسة إعلامية.
ويعد رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، سيلفيو بيرلسكونى، النموذج الأبرز على استخدام الملكية الخاصة لوسائل الإعلام فى الترويج لمالكها. فالسياسى العجوز الذى تقلد رئاسة وزراء إيطاليا ثلاث فترات انتهت آخرها عام 2011، يعد أكبر المستثمرين فى المجال الإعلامى، والذى دخله عام 1973 بتأسيس شركة صغيرة للتليفزيون الكابلى، حتى بات يمتلك مجموعة ميدياسيت للإعلام التى تضم أكبر ثلاث محطات تليفزيونية خاصة تستحوذ على نسب مشاهدة مرتفعة بين الجمهور الإيطالى،فضلاً عن شركات الإعلان والدعاية والنشر واستثماراته فى صناعة السينما والدراما.
وكان لتقلد القطب الإعلامى «بيرلسكونى» أعلى منصب سياسى فى إيطاليا تأثير كبير فى تحديد العلاقة بين السياسة والإعلام. ففى انتخابات أول فترة له عام 1994 تم رصد ترويج غير مباشر لحزب بيرلسكونى فى القنوات المملوكة له فى فترة الصمت الانتخابى، عبر لقاءات فى الشارع لاستطلاع آراء الجمهور، والتى كانت كلها باتجاه انتخاب حزبه، فيما سمى بالسياسة التى يقودها الإعلام media–drivenpolitics18، الأمر الذى هوى بتصنيف إيطاليا على مؤشر حرية الصحافة العالمى الذى تصدره مؤسسة «مراسلون بلا حدود» إلى ذيل دول الاتحاد الأوروبي19.
وعلى الرغم من أن تلك الإمبراطورية لم تنقذ بيرلسكونى فى الانتخابات الأخيرة التى أجريت فى مارس 2018 وحل بها ثانيًا بعدما ظلت الفضائح الجنسية والمالية تلاحقه، فإنه لا يمكن تجاهل تجربته الطويلة كثالث أطول خدمة لرئيس الوزراء منذ توحيد إيطاليا، والتى جسدت توظيف الملكية الفردية للإعلام فى خدمة المالك/السياسى، وتحقيق مصالحه، ليس سياسيًا فقط، وإنما أيضًا فى غسل سمعته والتغطية على فضائحه20. وقد وصف عالم الاجتماع بجامعة ميلان «جيانبيترو مازولينى» تأثير بيرلسكونى بأنه أضفى طابعًا إعلاميًا على السياسة media–isationofpoliticsحتى باتت السياسة تابعة للإعلام21.
إن تملُّك السياسيين لوسائل الإعلام وتوظيفهم لها فى التسويق السياسى لأنفسهم بات شائعًا فى دول أخرى، مثل أوكرانيا، حيث يتجه السياسيون من رجال الأعمال الذين يمتلكون وفرة مالية هائلة إلى استغلال المنابر الإعلامية التى يملكونها فى الأغراض الانتخابية، على غرار تجربة بيرلسكونى فى إيطاليا22. كما تشهد الهند هى الأخرى ذات التجربة من حيث امتلاك السياسيين لقنوات إعلامية خاصة يتم توظيفها فى عمليات التسويق السياسى لملاكها. وقد وضعت صحيفة بيل بوست الهندية قائمة بأبرز سبع قنوات تلفزيونية رائجة يمتلكها سياسيون وعقبت على ذلك بالقول أن السياسيين. بدلا من أن يدفعو الأموال لوسائل الإعلام نظير نشر أخبار عنهم، قاموا بإنشاء قنواتهم الخاصة ليأخذوا التحالف بين الإعلام والسياسة إلى مستوى جديد 23.
وفى لبنان، تمتلك عائلة الحريرى تلفزيون المستقبل (52 {2c289d7b2659ab6207670dd8e4d34cd2c245bfab6e6da19450a4f50a7bbfcf10} من الأسهم)، والذى تم تأسيسه على يد رئيس الوزراء الراحل، «رفيق الحريرى»، عام 1993 ليروج إلى لبنان ما بعد الحرب الأهلية، وهى المحطة التى لم تروج لتلك السياسات فحسب، وإنما لشخص الحريرى نفسه، وهو ما انعكس بقوة عقب حادث اغتياله عام 2005 وهو العام الذى شهد الذكرى الثلاثين للحرب الأهلية اللبنانية ليقدم تليفزيون المستقبل فيضًا من الفيديوهات للحريرى صارت تؤكد على أن «استمرار الحريرى» يعنى استمرار لبنان24، ليتولى نجله المنصب نفسه بعد سنوات، وتواصل المحطة سياساتها الداعمة للعائلة، بل إنه فى أزمة استقالة «سعد الحريرى» نهاية عام 2017 استخدم محطة المستقبل لبث لقاء تليفزيونى من مقر إقامته فى العاصمة السعودية يعرض فيه وجهة نظره.
هذه النماذج الأربعة، التى تحاول توصيف آليات توظيف الإعلام سياسيًا لصالح خطاب يعلى الصفات والمميزات الفردية، لا يمكن مناقشتها فى انعزال عن السياق والعوامل المؤثرة فى تلك الآليات، وفى مقدمتها التغيرات الجذرية فى المشهد الإعلامى العالمى، الذى بات يتسم بقدر هائل من تعظيم قدرات الفرد/المستقبل وقدرته على التفاعل والنفاذ لمصادر متنوعة، ما قد يحد من تأثير الخطاب الإعلامى الذى تنتجه تلك الآليات الموجهة من ناحية كما إنه يستبعد تمامًا العودة إلى نماذج الدعاية القديمة التى شهدها القرن الماضى من ناحية أخرى، الأمر الذى يستدعى التوزان فى تقييم أثر حملات التسويق السياسى وكذلك أثر الخطاب الإعلامى الموجه – بفضل قوى الإخضاع السياسى أو الاقتصادى – فى بناء الصورة الذهنية للسياسي/الفرد، والتى لازالت بحاجة لجهد بحثى منظم يؤطرها ويحللها فى ضوء معطيات الواقع السياسية والتكنولوجية والاقتصادية.