كان العالم يعيش مستقرا بنظام سياسى واقتصادى واجتماعى ثابت يسمى باختصار ديكتاتورية البرجوازية الطبقة الثرية المالكة ظهر الألمانى كارل ماركس ليدشن فكرة نظام جديد يسمى باختصار ديكتاتورية البروليتاريا الطبقة الفقيرة العاملة.
والغريب أن ألمانيا ورفاقها من البلدان الأوروبية المتحررة لم تأخذ بفكرته بينما تبنتها ما سميت بعد ذلك بالدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى.
وبينما كانت كرة القدم تهيم عشقا بالكرة الهجومية وتتحرر من قيود الالتزام فى الملعب فرضت إيطاليا طابعا جديدا وأطلقت نظريات الدفاع المتحفز للهجوم.. وظلت موضع احترام قارتها الأوروبية وحتى القارات الأخرى التى ظلت تعتبر الهجوم وحرية اللاعبين كأفراد فى استثمار مواهبهم ومهاراتهم.. وفى افريقيا زادت المواهب وعرفت نزوحا إلى أوروبا، إلا أن المسابقات والبطولات الافريقية ظلت متأثرة بما يقدمه اللاعب الافريقى من كثير من الفطرة وقليل من العقل والنشاط الذهنى.. وبمرور الوقت وكثرة الاحتكاك الافريقى بالكرة الأوروبية ضاقت الفجوة بين الفطرة والعقل وان ظل هناك فارقا كبيرا بين كرة الشمال الافريقى والكرة السمراء فى الجنوب.. ولعب المدربون الأجانب دورا كبيرا فى استئناس الكرة الافريقية ووضع مواهبها فى إطار تنظيمى فى الملعب..
لكن كان غريبا على المصريين أن يروا الخواجة كوبر مدرب المنتخب يبنى عقلية الفريق على التحفظ والتكتل والانخراط الكامل فى طريقة لعب دفاعية لا يحتاجها فريق دولة قديمة عريقة فى اللعبة إذا كان إطار منافساتها محصورا أولا فى قارة افريقيا وإذا كان الثراء فى المواهب موجودا بالفعل والاحاجة للتقوقع أمام من هم أقل منها.. وبدت أفكار كوبر كما لو كانت نظرية دفع بسببها ثمنا كبيرا من الانتقادات والهجوم المزمن حتى فاجأنا المونديال الروسى الحالى منذ البداية باعتماد مباشر على نظرية كوبر الذى بدا لنا وكأنه كارل ماركس المونديال الذى شكك فى ثوابت أقرها الخبراء بأن منتخبات هجومية مثل البرازيل والأرجنتين وألمانيا وفرنسا هى الفائزة حتما فى المباريات الصغيرة بدور المجموعات إلى ان تتقابل مع بعضها البعض أو مع من هو قريب من مستواها فيكون للنظريات شأن آخر.
وقف محاربو ايسلندا على حدود مرماهم وفرضوا على ميسى وجنوده التنازل عن الفوز والاكتفاء بالتعادل.. هى ضربة خاطفة وجهتها ايسلندا وانتهى الأمر.. ثم وقف مقاتلو سويسرا متعددو الجنسيات يدافعون عن حدود مرماهم أمام سحرة البرازيل بقيادة نيمار وأجبروهم أيضا بالتنازل والمصالحة باقتسام النتيجة والغنيمة.. وكله كوم وما فعله كاوبوى المكسيك مع ألمانيا الماكينة الرهيبة.. لم يكن الأمر مجرد المنع من اجتياز الحدود.. بل هجوم مضاد وانتصار تاريخى بكل المقاييس الكروية.. وهؤلاء الثلاثة الكبار كانوا ومازالوا فى طليعة المرشحين للمربع الذهبى لكأس العالم.. لكن ها هى نظرية كوبر تغزو المونديال لتؤكد أن «الدفاع خير وسيلة للدفاع.. هو مثل كارل ماركس.. أراد أن ينتزع سيطرة طبقة النبلاء من النجوم ويؤكد أن هؤلاء نبلاء الملاعب ربما يلعبون لأنفسهم ومصلحتهم أولا وهو نفس ما اعترض عليه كارل ماركس الذى كان مقتنعا بأن البرجوازية تسيطر من أجل مصلحتها أولا قبل مصلحة طبقة العمال.. وجاءت منتخبات ايسلندا والمكسيك وسويسرا بلا نجوم وبقدرات معنوية وحماسية وبنشاط ذهنى جماعى فتفوق العقل على الموهبة.. وهى أدق وأبرز أسرار جاذبية كرة القدم التى يمكن أن تمنح الفريق الأقل إمكانات أملا حقيقيا فى الفوز.. ليست هى ككل اللعبات تقدم فى الملعب ما يدونه الخبراء والمدربون على الورق.. هى أكثر اللعبات قبولا للمفاجآت والصدمات والأكثر تقليبا للمشاعر ولذلك فهى الأضخم شعبية.
هذا لا يعنى أننا غيرنا رأينا فى كوبر.. لكن على الأقل يجب الاعتذار له عن تكسير عظامه بعد كل مباراة لأنه يدافع ويلعب على المرتدة.. فقد ثبت أن ذلك ليس عيبا فى المونديال.. بل ربما يكون ميزة كبيرة إذا عرفت قدر نفسك عندما تواجه من هو أقدر منك.. فالواقعية تفوز غالبا على الخيال.. والهجوم على كوبر كان وظل بسبب انه لا يخرج عن نص نظريته فى كل الأحوال وبصرف النظر عن حجم المنافسين وقدراتهم.. كما لو كان قد حفظ منهجا دراسيا وراح إلى الامتحان ليضعه فى ورقة الاجابة دون أن يدقق فى شكل ومضمون و»تكات» الأسئلة.. هذا ما يغضبنا من كوبر وهو الآن يستطيع أن يرد علينا ويطلب منا أن نتأمل فى المونديال وكيف تستطيع فرق صغيرة ومتوسطة أن تحلم لكن بأرضية واقعية.
سيقول أحدهم الآن.. هل معنى ذلك أن منتخبنا سوف يرتدى نفس العباءة وهو يواجه منتخب روسيا اليوم.. هل سنراه كما رأيناه كل مرة ينتظر أمام مرماه وصول لاعبى روسيا أم سنراه يذهب واثقا إلى مرمى روسيا؟
أظن لو أن كوبر عاش فى جلباب أفكاره اليوم فسيكون متطرفا يلقى على الناس النصوص ولا يعرف معناها.. وأظن أن منتخبنا لن يقبل أن يعيش فى جلباب كوبر.. ولن يراه كارل ماركس بل سيراه كارل لويس.. رجل يدرب فى لعبة أخرى غير كرة القدم.. الجماهير المصرية تنتظر المنتخب بأزياء جديدة مبهجة وهو يرتدى زى الفرسان.. الجماهير لا تريده أن يتجمل فقط بزيادة بعض الفقرات الهجومية الشكلية التى تقف عند المحاولات ولا ترتقى للفرص.. الجماهير لا تريد المنتخب يظن أنه يواجه فعلا «الدب» الذى لا يملك الآن إلا الاسم بعد أن سقطت أنيابه فى هذا الجيل.. وحتى لو رأى فيه الأنياب فهى خادعة ليست لأنه يريد أن يفترس بل لأنه يلهث.
وربما يقول خبير أن الجماهير فعلا خائفة وقلقة بل ربما مرعوبة أن ينتهى المشوار مبكرا اليوم.. وبالفعل الخوف والقلق موجود لكنه ليس خوفا من الدرب الروسى، بل من الغزال المصرى الذى لنا معه تجارب فى فصوله الباردة وطبائع الغزال أحيانا فى حركات عشوائية ومزاج متقلب.. الجماهير تخاف من منتخبها بل ربما المنتخب يخاف من نفسه.. والجماهير تخاف من فكرة اننا انكشفنا وأصبحنا كتابا مفتوحا فيه نص واحد مكتوب ولا تتعدد فيه النصوص التى نسميها فى كرة القدم الحلول.. مدرب روسيا يعرف اننا ندافع وحياتنا كلها فى الهجوم المرتد خاصة لو بتنفيذ محمد صلاح.. وهو لم يخف ذلك لا هو ولا مساعدوه ولا لاعبوه ولا صحفه ووسائل إعلامه.. ولذلك علينا أن نفاجئه بما لم يتوقع.. علينا أن نربكه ونشتت أفكاره فيتشتت فريقه وهو لا بالخبرة ولا بالقدرات الفردية والجماعية قادر على أن «يلم شتاته».. علينا أن نبدأ بالتسجيل ونقاتل ألا يبدأ الروس بالتسجيل.. هذا مهم جدا.. إذا سجلنا أولا سوف يصل إلى مرمانا كثيرا لكنه لن يصل إلى الشبكة أبدا.. فهو لا يملك سواريز ولا كافانى ولا أى شبيه لهما.
ثم أن الجماهير تخاف من ترويج فكرة أن الفيفا ستساعد روسيا على البقاء فى البطولة أكبر وقت ممكن ولا سبيل إلى ذلك إلابإزاحة منتخب مصر.. لكن كيف تتم هذه المساعدة إذا كنا قد ركبنا المباراة ومنعنا الدب أن يكون ندا لنا.. وهى تخاف أيضا من فكرة الجمهور المتعصب المتحمس لمنتخب بلاده الذى سوف يشحن بطاريات لاعبى ونحن نعرف أن الشحن فى احيان كثيرة يفجر البطاريات ويوقف المحركات.. وأخيرا تبلغ المخاوف مداها أن يكون الروس قد نقلوا تكنولوجيا اختراق أوروبا والولايات المتحدة إلى المونديال فتعرض منتخبنا للاختراق فى محل إقامته.. الظنون تبلغ مداها أن يكون الروس وصلوا إلى غرفة اجتماعات الجهاز الفنى وسجلوا كل صغيرة وكبيرة عن تفاصيل طريقة اللعب.. هو الظن الأول فى تاريخ كأس العالم.. ظن التجسس المباشر للتأثير فى النتائج.. انه مونديال يبدأ غريبا ومدهشا وربما ينتهى أغرب وأكثر اندهاشا.. علينا الانتظار والنصر بإذن الله لمنتخبنا.