نشأت الولايات المتحدة في خضم ثورةٍ اندلعت ضد طغيان الملك جورج الثالث. ووُضع الدستور من أجل منع الاستبداد، على أساس نظامٍ من الضوابط والموازين، لكن يبدو أنَّ تلك الإجراءات الوقائية تنهار في عهد ترمب رئيس أميركا.
إذ يبدو أنَّ ترمب يتمسك بالاعتقاد النابع من هوسه بالعظمة بأنَّ أميركا يجب أن تخضع لحكمه هو فقط. يستخدم ترمب سلطته التنفيذية لتغيير السياسات والممارسات التي أرساها القانون والمعاهدات منذ زمنٍ طويل، دون رادعٍ من الجمهوريين في الكونغرس؛ إما لخوفهم وإما لتواطؤهم.
بعد أيامٍ من انعقاد القمة بين ترمب وبوتين، ما زالت التفاصيل طي الكتمان. لم يعلم أحدٌ الاتفاقات التي انتهى إليها الحاكمان المستبدان أو حتى ما تحدثا بشأنه، ولا حتى كبار مساعديهما، ولا الأجهزة الأمنية، ولا الكونغرس ولا حتى أي شخصٍ آخر. وفي أوج الضجة التي تلت ذلك، دعا ترمب بوتين إلى واشنطن دون إخبار كبير مسؤولي الاستخبارات أو معظم المسؤولين والمعاونين الرئيسيين الآخرين بالتأكيد.
قائمة الإجراءات التي يتخذها ترمب منفرداً آخذةٌ في النمو بدرجةٍ سريعة؛ إذ يفرض بمفرده مئات المليارات من الدولارات من الرسوم الجمركية، على السلع المستوردة من دول تُعد من كبار حلفاء أميركا، وعلى الصين كذلك، دون أي دعمٍ صريح أو ضمني من الكونغرس.
وألغى ترمب الاتفاق النووي الإيراني رغم الدعم الجماعي الذي يحظى به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهو في صدد فرض عقوباتٍ جديدة صارمة على إيران، من ضمنها قطع كل الصادرات الإيرانية من النفط، في معارضةٍ للاتفاق الدولي مع إيران ودون تصويت الكونغرس على ذلك، وهي محاولة ترمي -على الأرجح- إلى الإطاحة بالنظام الإيراني.
وكما هو متوقع، وربما ما كان مقصوداً، جلبت طبول حرب ترمب تحذيراً من جانب إيران لا تُحمد عقباه، ثم تصعيداً آخر من جانب ترمب، ليحوِّل المواجهة الخطرة مع إيران إلى استعراضٍ آخر لقدراته وحكمه المنفرد.
واستغل ترمب السلطة التنفيذية دون تفويضٍ من الكونغرس لفرض حظر السفر على العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة؛ ولإعلان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ رغم التزامات الولايات المتحدة بمقتضى المعاهدات ضمن اتفاقية الأمم المتحدة المبدئية بشأن التغير المناخي؛ ولتغيير الوضع الراهن فيما يتعلق بالقدس، ضد إرادة مجلس الأمن والجمعية العامة التابعين للأمم المتحدة. وقرر ترمب أيضاً تمديد بقاء القوات الأميركية في سوريا، دون إشراف الكونغرس أو موافقته.
يوثِّق علماء السياسة انجراف أميركا نحو الانصياع لحكم الرجل الواحد. وأجرت المؤسسة البحثية الأكاديمية بالسويد «V-Dem» تصنيفاً حديثاً للديمقراطيات حول العالم، وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الـ31 لعام 2017، وهو هبوط حاد من المكانة السابعة التي احتلتها عام 2015. ووفقاً للتقرير، هناك أدلة واضحة على الاستبدادية (التحرك نحو الخضوع لحكم الشخص الواحد)، استناداً إلى مؤشراتٍ عدة.
وأضاف التقرير: «ينبع المستوى المنحدر للديمقراطية الليبرالية في المقام الأول من إضعاف القيود المفروضة على السلطة التنفيذية».
وبالمثل، فإنَّ مؤشر الديمقراطية الذي أجرته وحدة الاستخبارات الاقتصادية يصنف حالياً الولايات المتحدة فقط على أنَّها «ديمقراطية معيبة».
ويجادل مؤيدو ترمب بأنَّه يستغل سلطته القانونية فحسب على أكمل وجه. لكنَّ الوضع أسوأ من ذلك. ببساطة عن طريق استخدام عبارة «الأمن القومي»، يمكن لترمب دفع الكونغرس والمحكمة العليا للسماح له بأي نطاقٍ من حرية التصرف. وجاءت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب (بموجب القسم 232 من قانون توسيع التجارة لعام 1962)، وحظره السفر، وإلغاء الصفقة النووية الإيرانية، كلها في إطار تعويذة الأمن القومي.
وأيدت المحكمة العليا، بأغلبية 5 إلى 4 من الأصوات، قرار حظر السفر؛ نظراً إلى أنَّ أغلبية الأعضاء رفضوا التفكير ملياً فيما يفعله الرئيس بحجة الأمن القومي. وتكاد ردود فعل الكونغرس تكون سلبيةً بخصوص المسائل التي يُعلن الرئيس أنَّها تخص الحرب والسلام.
ليس من المفترض أن يعمل الدستور بهذه الطريقة. فبموجب المادة الأولى، القسم 8، تقع صلاحية شن الحرب في يد الكونغرس، وكذلك صلاحية فرض الضرائب والرسوم الجمركية. ولكن ما يحدث أنَّه في كل قضية من تلك القضايا يستدعي رئيسٌ عدواني مسألة الأمن القومي؛ لمراوغة الكونغرس. وفشلُ الكونغرس المزمنُ، المتمثلُ في عدم الإشراف على أنشطة صناعة الحرب الرئاسية ونشر القوات فتراتٍ طويلة وإقامة القواعد الخارجية، وسواءٌ كان ذلك على يد الرئيس الحالي أو من سبقوه، أمرٌ معروف في الولايات المتحدة.
كذلك، لا يُغتفر فشل الكونغرس في التصدي لترمب بشأن مزاعمه التي تنطوي على أنَّ صادرات كندا من الألومنيوم والفولاذ أو صادرات المنتجات الاستهلاكية الصينية، تشكل «تهديداً للأمن القومي».
هناك اتجاهان طويلا الأمد ومؤثران، يستغلهما ترمب لتحقيق أهدافه بالاستيلاء على السلطة.
يتمثل الأول في النمو المتواصل لدولة الأمن القومي منذ الحرب العالمية الثانية، بإنشاء مئاتٍ من القواعد العسكرية الأميركية وممارسة أنشطة صناعة الحرب غير المتوقفة حول العالم، وضمن ذلك الحروب السرية وحملات التأثير التي تديرها وكالة الاستخبارات المركزية. ولأكثر من نصف قرن، منح الكونغرس والمحكمة العليا الرؤساء مطلق الحرية تقريباً في اتخاذ قرار بدء الحروب، التي تضبطها فيما بعد التعبئة التدريجية للمعارضة العامة.
أما الثاني، فيتمثل في زيادة نفوذ الشركات المؤثرة على السياسة الفيدرالية. في حين يضع الرؤساء أجندة الشركات حيز التنفيذ، يقف الكونغرس موقف المتفرج. وكذلك المحكمة العليا التي أُسست عام 1970 وما تزال تخضع لرئيس القضاة جون روبرتس، أيدت قوة الضغط التي تمارسها الشركات، ما أفسح للرئيس مجالاً واسعاً في تعزيز أجندة الشركات. ويتواطأ الكونغرس، الواقع في قبضة الشركات، بالسماح للرئيس منفرداً بتفكيك أنظمة حماية البيئة والمستهلك.
ولكن، لم يضع كل شيء؛ إذ لا يزال المستشار الخاص روبرت مولر والمحاكم الابتدائية تحاول الوقوف في وجه الرئيس، حتى وإن أصبحت المحكمة العليا تضم 5 مؤيدين مقابل 4 غير مؤيدين للسلطة الرئاسية التي لا حدود لها تقريباً، وهي نسبة يمكن توقعها. من الممكن أيضاً مجابهة قبضة ترمب في حالة فوز الديمقراطيين بمجلسٍ من مجلسي الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
لكنَّها جميعاً أطرافٌ هشة لا يمكن الاتكاء عليها. قد تكون الولايات المتحدة على بُعد حربٍ واحدة كبيرة من انهيار الديمقراطية الأميركية، وعلى الأرجح هي الحرب ضد إيران لتغيير النظام، الذي يسعى ترمب إلى تحقيقه.
شرح المساعد النازي هيرمان غورينغ، عندما كان قابعاً في سجن نورنبرغ، مدى سهولة حشد الجمهور للحرب: «سواءٌ بإجراء تصويتٍ أو لا، يمكن دائماً أن يستجيب الناس لنداء زعمائهم. وهذا أمرٌ سهل، كل ما عليه القيام به هو إخبارهم بأنَّهم يتعرضون للهجوم، واتهام الرافضين للحرب بالافتقار إلى الوطنية وتعريض البلاد للخطر. وهذا الأمر ينجح بالطريقة نفسها في أي بلد».
شرع ترمب في حربٍ تجارية، لكن ليس علينا أن نفاجأ إذا تحولت لتصبح حرباً حامية الوطيس. فنحن في طريقنا إلى الطغيان.
– هذا الموضوع مترجم عن شبكة CNN الأميركية.