تتعالى أصوات الذخيرة الحيّة في الدقائق الأخيرة من مقطوعة تشايكوفسكي “افتتاحية 1812”. ليس من المعتاد أن يستخدم أحد سلاحا حقيقيا في مقطوعة موسيقية، لكن الغرض الذي ألّف تشايكوفسكي له تلك المقطوعة جعل من هذا الخيار غير الاعتيادي الطريقة الأمثل للتعبير عن الروح القتالية للحدث الذي كتبها في ذكراه. ففي العام 1812، انسحبت فلول جيش نابليون المهزومة من أرض روسيا، ودوت في السماء صوت الأسلحة الروسية المنتصرة التي حاول تشايكوفسكي في موسيقاه أن يحاكيها، معيدا في النغمات مرة أخرى ذكرى النصر الذي حققته بلاده والهزيمة التي ألحقتها ببلاد العدو. (1)
لم تكن هذه هي المرة الأولى أو الوحيدة التي لجأ فيها الناس إلى الفن بهدف التعبير عن قتال أو صراع. لكن على العكس من افتتاحية تشايكوفسكي التي جاءت في ذكرى حرب حقيقية، قاد الكثيرون حروبا لم تُذرَف فيها قطرة دماء واحدة، فقد كان سلاحها الوحيد هو الكلمات. تبادل الجماعات والأفراد من شتى بقاع الأرض الشعر الهجائي، مفضلين الاختباء وراء الاستعارة والمجاز عن خوض قتال حقيقي، متفننين في الإعلاء من شأن الذات والحط من الآخرين بكل الألاعيب الكلامية الممكنة.
من هذا التقليد الثقافي، تفرعت مدارس شعرية كثيرة. منها شعر الـ”فلايت” (flyting) الذي انتشر في أوروبا في القرون ما بين الخامس والسادس عشر، والذي أخذ يتبارى خلاله شخصان أو جماعتان في تمجيد الذات وتحقير الطرف الآخر لأبعد مدى(2). ومنها أيضا الشعر الهجائي عند العرب، والذي استخدمه شعراؤهم بالطريقة نفسها وللغرض نفسه. واليوم، تتردد أصداء ذلك التقليد في موسيقى الهيب الهوب، والتي حاول الممثل المصري محمد رمضان أن يستنسخها في أغنيتيه الأخيرتين “نمبر وان” و”أنا الملك”. فكيف فعل هذا؟ وهل نجح في ذلك حقا؟
الهيب هوب ورمضان
بداية من الملابس الفضفاضة بعض الشيء والسلاسل الذهبية المتدلية فوق الصدر ونظارات الشمس كبيرة الحجم، هنالك تشابه لا تخطئه عين بين مظهر رمضان في فيديو كليباته الأخيرة وبين مغنّي الهيب الهوب. ويمتد ذلك التشابه لمحتوى الأغنيات نفسه، فالتغني بالذات والتباهي بها وبإنجازاتها، والحط من المنافسين والأعداء، وإبراز الثروة الضخمة بكل الأشكال الممكنة، تارة عبر كلمات تصفها وتارة أخرى عبر مشاهد تصور البذخ الشديد الذي يعيش فيه صاحب الأغنية، كلها من الأركان الأساسية لأغنية الهيب الهوب.
ومع هذا، فتأثر رمضان بالهيب هوب هو تأثر سطحي للغاية، لا يتجاوز استيراد نموذج أجنبي معلب ووضع بعض المساحيق فوقه ليبدو محلي الصنع؛ لتظهر الأغنيات في النهاية كمسخ هجين، منبتة الصلة عن السياق الأميركي الذي لم تنقل منه سوى بعض ملامح الشكل، متنافرة بالضرورة مع مناخ جمهور البلد الذي قدمت إليه.
قبل “أنا الملك” بقرابة خمسين عاما، جاء الهيب هوب إلى الوجود في حلبة مصارعة حقيقية. فالمصارع الأميركي من أصل أفريقي كاشيوس كلاي، والذي صار يُعرف فيما بعد بمحمد علي كلاي، كان من عادته الوقوف بعد النزال وإلقاء كلمات تحط من منافسه وتمجد في ذاته. تبلورت تلك الكلمات في شكل أشعار أخذ علي يلقيها بحماسة وسط جمهوره، سُجّلَت على أسطوانات لتباع كألبوم تحت عنوان أحد قصائدها “أنا الأعظم” (I am the Greatest) والتي يقول كلاي في مطلعها(3):
“هذه في أسطورة كاشيوس كلاي
أجمل مصارع في العالم
يتكلم كثيرا وبالطبع يتباهى
بلكماته القوية والسريعة للغاية”
أغلب الظن، لم يعِ رمضان ذلك الأصل عندما ارتدى حزام مصارعة حول خصره وأخذ يتباهى بعضلاته في كليب “نمبر وان”. لكن الروح القتالية التي تولدت على إثر اللكمات التي سددها كلاي لخصومه ظلّت مسيطرة على مغنّي الهيب هوب الأميركان واستخدموها في أغانيهم بشكل واعٍ تماما. فالهيب هوب هو وليد البيئة الفقيرة التي عاش فيها الأميركيون من أصل أفريقي، والتي سيطر عليها شُح الموارد المادية أمام عدد كبير من البشر. هنا، أصبحت المنافسة هي القانون، فأمام قلة المتوفر أصبح النزال أمرا واقعا، والمتفوق هو من يستطيع أن يجمع العدد الأكبر من الأموال والممتلكات والنساء. شكلّت تلك البيئة أغنية الهيب الهوب، لتتمحور أغلب الوقت حول كل تلك الأشياء، وتنتقل المنافسة من الصراع الفعلي حول الموارد، إلى الصراع المجازي المصاغ في كلمات مسجوعة وشتائم مقفّاة، ليصبح الرابح حينها هو الأكثر قدرة على إبراز تفوقه في أبلغ صيغة ممكنة.(4)
صار هناك ما يُعرف بمعارك الراب (rap battles)، والتي تكاد تكون إعادة بعث لنزالات الهجاء الارتجالية التي خاضها شعراء العرب في الأسواق. الصراع والمنافسة إذن هما لحم الهيب هوب ودماؤه، وهما نفس ما جذب رمضان لاختيار شكل تلك الثقافة ليصوغ بها معاركه في فيديو كليباته. فنجد الكثير من أركان أغنية الهيب الهوب موجودة في أغنياته الأخيرة، وإن بدا أن رمضان تجنب في الكلمات عنصر التغني بالفحولة والقدرة الجنسية الموجود في الغالبية العظمى لأغاني الهيب الهوب، فإننا نجد بوضوح إحالات بصرية إليه. فالأُسود والنمور وعضلات الصدر وحزام المصارعة والفتيات المتراقصات حوله، كلها مجازات عمّا تقوله أغاني الهيب هوب صراحة ولا تناسب بمكان المجتمع المصري المحافظ. وإن بدا أن رمضان قد راعى ذلك الفارق الثقافي بين مصر وأميركا، فهنالك اختلافات أخرى كثيرة لا يبدو أنه ألقى لها بالا.
إن كانت أغاني الهيب الهوب قد نشأت وسط مجتمعات الأميركان السود الفقيرة، فإن التغني بالثروة والممتلكات الذي يسيطر على الأغاني يصبح ذا دلالة قوية. ففي الثقافة الأميركية، حيث يسيطر “الحلم الأميركي”، يستطيع مستمعو الأغنية الأميركيون من أصل أفريقي التماهي مع المغني الذي غالبا ما يشاركهم النشأة والأصل، والحلم بمستقبل يماثله. ففي بلاد تبقى الفرص فيها متوافرة أمام الأكثر كفاءة، كل شيء في النهاية ممكن. قد توهمنا نظرة سطحية للغاية أن الشيء نفسه ينطبق على محمد رمضان وأغانيه الأخيرة، لكن ذلك في الحقيقة بعيد جدا عن أي حقيقة.
أسّس رمضان لنفسه أسطورة ابن الفقراء الذي صعد بجهده وذكائه ليصير ضمن المشاهير والأغنياء، لكن على عكس المتلقي الأميركي، فمن الصعب جدا على المتلقي المصري أن يتماهى مع تلك الصورة. فالنجاح تحول دونه آلاف العراقيل، وحتى الوصول أو الحفاظ على مستوى مادي متوسط يبقى بمنزلة صراع يومي أمام كل مصري، فما بالك بالوصول إلى مثل ذلك البذخ الذي تصوره كليبات رمضان؟ وفي وقت يكافح فيه الجميع لتلبية احتياجات الحياة الأساسية على إثر قرارات اقتصادية طاحنة ومعدلات تضخم وغلاء جعلت مجرد الحصول على أبسط الأشياء مهمة عسيرة، فإن كليبات رمضان التي تتباهى بقصره وسياراته الفيراري واللامبورجيني وأُسوده وحمام سباحته تحمل قدرا عظيما من فقدان الحساسية والبلادة وعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين. فمع معاناة جمهور رمضان من الشباب البسيط “الواقف في ضهره” لتوفير الحد الأدنى، تبدو الكلمات التي وجهها الفتى محفوظ دياب للمذيعة التي نصحته بالعيش على الفتات حياة تأنف هي نفسها أن تعيشها مناسبة تماما: “أنت محساش بالناس”.
تظل هنالك علامة استفهام كبيرة حول الغرض من تلك الأغاني، وهو ما يزيد من استفزازيتها. ففي “ساحة” محمد رمضان التي شقّها لنفسه والمكونة من دراما الأحياء الشعبية، لا يوجد حقا منافس حقيقي له. قد يرى البعض أنها موجهة للوسط الفني بأكمله المعروف باضطهاده وعنصريته ضد من يشاركون رمضان النشأة المتواضعة ولون البشرة الأسمر، وهو بالفعل ما عانى منه رمضان في بدايته وتحدث عنه كثيرا في اللقاءات التلفزيونية؛ ومع أن الكثيرين ممن أصبحوا لاحقا نجوما كبارا شاركوه المعاناة نفسها، لكنّ أحدا منهم لم يتخذ الاتجاه العدائي والاستعلائي نفسه الذي اتخذه رمضان في فيدوهاته الأخيرة.
ربما من الدال جدا أن سلسلة أغاني محمد رمضان الأخيرة قد بدأت أول ما بدأت بإعلان لإحدى شركات الاتصالات، والتي زاوج فيها رمضان ما بين الدعاية للشركة والتباهي بنفسه. وبمد ذلك الخط على استقامته، فقد لا تكون تلك الأغاني سوى نوع من أنواع الدعاية لنفسه، والتي اختزل فيها شخصيته الفنية لـمنتج يروّج له ويخلق له ما يشبه العلامة التجارية عن طريق التسويق الشخصي لا يفتأ أن يعيد على الأسماع أنه الأول والأعظم والأكثر تفوقا، على غرار الشركات التجارية التي لا تمل في إعلاناتها من الإعلان أنها “الرقم واحد”.
لكن بينما تعتمد عمليات التصنيع والإنتاج التجارية على خط إنتاج يعيد صناعة النموذج نفسه عددا لانهائيا من المرات، وبينما يبقى المنتج الاستهلاكي شيئا بلا تعقيد من السهل اختزاله في بضع جمل دعائية، فإن الفنان الذي يضع نفسه في قوالب محددة ويختزل نفسه في مجرد “ماركة” فنية تتباهى بقدرتها على تحقيق أعلى إيرادات ونسب مشاهدة، من المحتم أن الناس يوما ما ستملّه وستسأم ما يقدمه، ليتحول في النهاية إلى بضاعة أفسدها التكرار وحالت ثقة صاحبها المبالغة في نفسه دون أن يلحظ بوادر الرائحة العطنة ويسارع في تغيير الدفة.