من أرشيف رؤية
العدد المتزايد للمحللين السياسيين باطراد على شاشات الفضائيات العربية ظاهرة تستحق الوقوف عندها، ولاسيما أن هؤلاء باتوا يساهمون اليوم في صياغة الرأي العام العربي عبر ما يقدمونه من معلومات حول موقف سياسي أو اقتصادي من هذه الدولة أو تلك، أو حتى عبر ما يقومون به أحياناً من تسريب معلومات استخباراتية عن لقاءات وطبخات سياسية في الكواليس أو مناورات وضربات عسكرية محتملة شرقاً وغرباً في منطقة عربية مابرحت تهتز على صفيحٍ ساخن، خصوصاً بعد اندلاع شرارة ما يسمى ”الربيع العربي” مع حادثة إحراق بائع خضار تونسي لنفسه بولاية سيدي بوزيد ربيع 2011 الماضي.

فبعد أن فقد ”شهود العيان’ بريقهم ومصداقيتهم لدى المتلقي العربي، برزت الحاجة للبديل الملائم الذي يغطي تراجع دور ”شهود العيان” أو يدعّم أكاذيبهم على الأقل، وكان الحل استضافة الخبراء والمحللين والمفكرين الاستراتيجيين العرب، من مختلف أقطار الوطن العربي، ليكونوا شهوداً أكثر جاذبية وقبولاً وهم يقومون بتحليل ما يحدث بالمنطقة العربية.

من هنا أفرزت الفضائيات العربية ما يشبه نُخباً جديدة قوامها جيش من المحللين في مختلف الاختصاصات والاتجاهات، فهم يتكاثرون بسرعة هائلة على الشاشات، يوزعون آراءهم العاجلة ويثوّرون مواقف ضد مواقف أخرى، يصرخون ويتقاذفون الشتائم ويتبادلون تُهم الخيانة والعمالة والارتهان للأجنبي أو العمل كأبواق لدى السلطة، وربما وصلت بهم الحكاية إلى حد الاشتباك بالأيدي على الهواء مباشرة.

 

هكذا نجح الإعلام العربي في تصنيع نُخب جديدة ميدانها الرئيسي حلبات بصرية لديكة تتصارع على مدار الساعة، ليكون المُشاهد في هذه الأثناء رهن رأي هذا المحلل أو ميول ذاك، دون البحث عن أهلية حقيقية لعشرات البرامج التي توّظف آراء هؤلاء المحللين في مصلحة دعم فرضية الأجندة الخاصة بهذه الفضائية أو تلك، ولنصل في النهاية إلى ما يشبه ”كباش تلفزيوني” أو حرب تلفزيونات لا صلة لها بموضوعية التفكير أو التحليل المنطقي للأحداث، بقدر ما يهمها في النهاية تغليب رأي على آخر مهما كلّف ذلك من افتراءات وتزوير في الحقائق ولوي عنق المعلومة.

 

من هنا يمكن الحديث اليوم عن عشرات الجبهات المفتوحة بين محللين من كل الأنواع، وبصفات ما أنزل الله بها من سلطان على نحو: ”خبير في الشؤون الحربية، مدير مركز إستراتيجي، مستشار عسكري، محلل اقتصادي، ناشط حقوقي… المشكلة اليوم أن الكثير من هؤلاء المحللين الذين يتقاضون أجوراً عالية لقاء ظهورهم في البرامج الحوارية الساخنة، باتوا يشكلون اليد الطولى لتكريس سياسة القناة التي يتكلمون من على منبرها، منتمين بقوة إلى البروباغاندا الخاصة بها، ولاسيما عندما تلجأ قنوات عربية دولية باستضافة العديد من ”مفكري التلفزيون” من مشرب سياسي متقارب لمناقشة قضية عربية شائكة، متجاهلةً رأي محللين من الضفة الأخرى.

 

والغريب أن مثل هذه الفضائيات ما زالت ترفع شعار ”الرأي والرأي الآخر” أو شعار ”أن تعرف أكثر” فيما بات المشاهد يتوقع ضيوف هذا البرنامج أو ذاك، والأغرب أنه حفظ عن ظهر قلب كل ما سيقولونه نتيجة التكرار الهائل للرسالة الإعلامية الخاصة بالمحطة، واستنفاد فرص الإشباع الإعلامي الذي وصل مؤخراً حد التخمة، وبخاصةً أن هذا النوع من ”النخب” لا يمكن الركون لآرائهم. فمن المعروف أن التلفزيون يبحث دائماً عمن يسميهم عالم الاجتماع الفرنسي الراحل ”بيير بورديو” بـ ”مفكرين على السريع” متسائلاً: ”ما الذي يدفع هؤلاء للتفكير تحت ضغط الزمن التلفزيوني والمساحة الضيقة المُعطاة لهم بين غابة من البرامج وفقرات الأخبار والإعلان، سوى تلك الرغبة العارمة لحب الظهور؟” فانخداع ”المفكر التلفزيوني” بسطوة الفضائيات وسعة انتشارها تجعله ”زبوناً طيباً” ومُرحباً به على شاشاتها، شريطة أن يدعم السياسة التحريرية للمحطة بكل أنواع الدجل والشعوذة الإعلامية وتبرير ما لا يمكن تبريره.

وبكل أمانة، فما يستفز حد الغثيان، أن أولئك يمتطون ”التحليل السياسي” على أنه مبيّض للصفائح، ويتحدثون عن الوطن وكأنهم من صانعي أمسه وغده. وكلنا لا زال يتذكر فضيحة المحلل السياسي وجهبذ زمانه، ”عزمي بشارة” الذي تفرّد بفضيحة كبرى عبر تسريب مقطع فيديو تم نشره على اليوتيوب من برنامج ”في العمق”، وفيه يظهر المفكر الفلسطيني أثناء الاستراحة، طالباً ـ تحت الهواء ـ من المذيع السعودي ”علي الظفيري” عدم ذكر الأردن والبحرين في تحليلاته والتركيز على سورية حيث اشتهرت كلمة ”الظفيري” وقتها لضيفه بشارة: ”بيّض صفحة المؤسسة”. فضيحة مدوية اعتبرها الكثيرون بالنسبة لوزن ”بشارة” وأخلاقيته كمثقف عربي معروف جعلت الكثيرين ينتبهون إلى انتهازية العديد من المثقفين العرب الذين تم شراؤهم بأموال النفط العربي مقابل تغيير مواقفهم السياسية والتبعية نهائياً لأجندات هذا المال ومآربه في المنطقة.

”المحللون السياسيون” والصفة منهم براء، يمنحون المتابع العربي مؤشرات على مكونات فوضاهم ودوافعها وأهدافها، وإلا كيف سنفهم أن ”عرضحالجي” أو سارق أو مارق أو شاذ أفاق، يتحول بمعية الفضائيات إلى محلل ”استراتيجي” يجيز استحضار العفاريت الزرق لتساعده في رسم خارطة وطن على مزاجه وبألوانه المفضلة، طالما أن الرسم سيضمن له خازوقاً في كرسي المستقبل، ويضمن له أيضاً المزيد من الثراء وأوراق اللعب، وبعض الاستشفاء من عقد وفوبيات مالها من آخر.‏

إن هذه التحليلات تدور في حلقة مفرغة لأنها تبحث في تفاصيل وجزئيات الأزمة العربية فتخلص إلى تصور حلول آنية، توفيقية، ترقيعية مبتسرة، باهظة الكلفة، عديمة الجدوى، ومتناقضة في أغلب الأحيان، تزيد من استفحال الأزمة، هذا إن خرجت إلى حيز التنفيذ وأبصرت النور.
إن كل ما قيل، ويقال، وسوف يقال في هذا الصدد صحيح، ومنطقي، ويمكن لأي تفكير سليم أن يتقبله، باعتبار حقيقة وجود المخططات الاستعمارية التي تستهدف المنطقة من جهة، وكوننا مستهدفين من جهة أخرى، هذه حقيقة، والباقي مجرد تفاصيل تختلف حسب كيفية النظر إليها.
ولكن الحقيقة الثابتة أيضاً أن أزمتنا تكمن في أننا كشعب عربي، وأنظمة، ومنظمات، ومؤسسات ندعي أننا نعرف من نحن كما نعرف الأخطار التي تتهددنا. إلا أن الممارسات العملية في الفعل ورد الفعل تظهر أننا لا نعرف من نحن ولا ماذا نريد، أو ما الذي يتهددنا، في حين الآخرون يعرفون أننا لا نعرف، وفي نفس الوقت يحتاطون لأي احتمال صحوة نتمناها، ونملك أسبابها، ولكننا لا نعرف الطريق إليها.

 

والمتابع للفضائيات التي تتزعم الربيع العربي، يستطيع اكتشاف مدى سطحية وجهل الكثير من التحليلات السياسية لهؤلاء المحللين، ومدى إسهامها بتشويه الوعي وإحلال واقع لا وجود له إلا في أذهان أصحابه محل الواقع الحقيقي، سواء المتعلقة بالأسباب أم فيما يتعلق بالتضليلات التي تضمنتها حول وهم القوة المزعوم وخدعة التفوق، لدرجة أن انساقت عشرات الجماهير وراء هذا الوهم الذي يتأسس على تصورات هوامية ذات بعد فصامي يحل التصور محل الواقع الحقيقي. فهل هذه التحليلات مشكِّلة للوعي أم مشوهة له؟ والأخطر من هذا أن بعض هذه التحليلات يأتي في إطار التبريرات التي هي أشد تضليلاً وتشويهاً للوعي الأمر الذي يقود إلى استمرارية استنساخ الوعي المشوه، ويقلل من أمل انبثاق وعي جديد.

فما الذي يمكن أن يفعله ”المحللون” عرب الربيع العربي، الذين يمتطون اليوم حصان الثورة لكي يطمئنوا إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم؟ لا شيء غير التركيز على شحذ أفكارهم وإجهاد أنفسهم لكي تبقى تلك الأفكار في أعلى مستويات التوثب والثاقبية. والواضح أن آخر همومهم ما قد يقوله العقل السليم عن فكرتهم. لأن أول تلك الهموم هو الاطمئنان إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم. واطمئنانهم مرجعه إلى كون من يمدونهم بالمال لا يعرفون القراءة، وإن كانوا من القارئين فإنهم يسأمون سريعاً ويعودون إلى مباهجهم المعتادة المعروفة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد: هل كل من حمل رتبة عسكرية في جيش، أو شغل وظيفة مدنية في دولة، هو مفكر أو باحث أو محلل استراتيجي؟.

وهذا يدفعنا إلى إعادة التساؤل بصيغة أخرى، من هو المحلل السياسي؟ وهل هناك توصيف مهني في أي من البلدان العربية لمهنة إسمها المحلل السياسي؟ أم أنها أصبحت مهنة من لا مهنة له، ومهنة المرشحين المحتملين لمناصب سياسية معينة، ومن ثم فإن إبرازهم على الأقنية الفضائية جزء من عملية التلميع ومحك للولاءات في إطار صناعة الشخص!؟

 

وفي الواقع ليس عندي إجابة عن مثل هذه التساؤلات، ولكن ظهور كم كبير من هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم تسمية ”محلل سياسي” أو ما يشبه ذلك ممن يعبرون عن إيديولوجيات معينة، ومن تكون إحدى العينين على الكاميرا والأخرى على نظام ما يجعلنا نثير مثل هذه التساؤلات. 

والمتتبع للأحداث السياسية يمكنه أن يصنف من يطلق على نفسه تسمية محلل سياسي ضمن أصناف ثلاثة:

 

الأول: المحلل السياسي الذي يعبر عن رأي نظام ما من الأنظمة السياسية أو يمثل أيديولوجية معينة دون أن يكون في موقع ما (بعد) ضمن دائرة النظام.

 

الثاني: المحلل السياسي بحكم الموقع في مركز أو جهة قد تكون حكومية أو غير حكومية الطابع، وهؤلاء غالبيتهم في أوربا وأمريكا وقلة قليلة منهم في الوطن العربي.

 

الثالث: ينتمي لإطار علمي ـ ثقافي ما امتهن مهنة التحليل السياسي مستمداً منهجيته من الأطر التي ينتمي إليها، وقد تكون نتاجاً جانبياً لعمله الأصلي، أي يمكن اعتبارها هواية وقت الفراغ.

 

ويمكن إضافة صنف رابع يجمع بين كل هؤلاء بدرجات مختلفة. يضع رِجلاً داخل النظام والرِجل الأخرى خارجه ويعمل في مركز مستقل ظاهرياً، ومقولب بشدة داخلياً وينتمي في الوقت نفسه لإطار ثقافي معين فهو خليط من كل هؤلاء وربما يكون الأخطر من بين هذه الفئات الأربعة.

 

إن رغبة الإنسان في الحصول على المعرفة ليست محدودة. والفضول الذي يدفعه لتقصي الأخبار والأحداث يمثل دافعاً من الدوافع الإنسانية، الذي تعرف وسائل الإعلام كيفية استغلاله بالشكل الأقصى. وتقود الثغرات في المعلومات أو نقص المعرفة عند الإنسان إلى رغبة ملحة في التقصي لسد ذلك التوتر الناجم عن عدم المعرفة. ولعل ذلك ينطبق بصورة خاصة على الأحداث العالمية، السياسية منها بشكل خاص، في عصر الانفجار النووي المعرفي الذي تكاد آثاره تطال كافة أرجاء الأرض.

 

والمحللون السياسيون هم أولئك الأشخاص الذين امتهنوا مهنة سد الثغرات المعرفية في مجالات متنوعة، وتقديمها على صورة عصارة جاهزة لأولئك الراغبين بالحصول عليها، بغض النظر عن الدوافع الكامنة خلف ذلك، أو عن الكيفية التي سيتم فيها توظيف سد الثغرة هذه. وللسياسة سحرها الخاص، لما لها من تأثيرات تنعكس على حياة الأفراد بشكل مباشر وغير مباشر، ولما يكتنفها من غموض وحجب للأسرار يجعل الإغراء باختراقها معرفياً (أو معلوماتياً) لا يقاوم، ويعطي ذلك الذي ينجح باستقرائها إحساساً واهماً بمشاركته في صنع الحدث لمجرد معرفته به.

 

ويمكن بطريقة هشة تقسيم الناس إلى قسمين:

 

الأول، صانع السياسة (أو واضع  السيناريو التنفيذي)، وهؤلاء هم السياسيون  وأصحاب القرار المخولون بطريقة ما لرسم سياسة معينة. والثاني، يتمثل دوره في السماح للفئة الأولى سواء مكرهاً أو عن طريق الانتخاب باتخاذ القرارات ورسم السياسات نيابة عنه. والمحللون السياسيون أو الإعلاميون بصورة عامة ينتمون للجزء الثاني. إلا أنهم قد ينتمون للقسم الأول أحياناً أو يمثلون الجسر بين القسمين.

 

وبسبب الغموض الذي يكتنف عمل الفئة الأولى فإن مهنة ورغبة الناس في معرفة ما يدور وراء الكواليس واستباق الحدث قبل حدوثه دفعت بعض الأشخاص إلى جعل التحليل السياسي مهنة يمكن استثمارها وأصبحت مهنة التحليل السياسي يمكن التخصص بها وفق أسس وقواعد معينة، موضوعها الأحداث الماضية الغامضة التي ما زال الغموض يكتنفها و الحاضر الذي هو أشد غموضاً والتنبؤ بالأحداث المستقبلية.

 

وتسعى هذه المهنة إلى الاستنتاج والاستقراء والتشخيص والتفسير والتنبؤ، إلا أنها  ليست صانعة للحدث أو موجهة له و لا تتحمل مسؤوليته، سواء سار بهذا الاتجاه أو ذاك. والمحلل السياسي شخص يواجه لغزاً كبيراً عليه أن يجد الحل له من مجموعة من الوقائع المتناثرة والغامضة والتي لا يتوفر حولها الكثير من المعلومات، ومن مجموعة من التصرفات الشبيهة في الماضي والحاضر. ويمكن تشبيه عمله بالشخص الذي عليه تركيب لوحة فسيفساء كبيرة، لا تتوفر عنها لديه إلا بعض الجوانب وعليه إكمال الجوانب الأخرى من تلقاء نفسه بناء على ما توفر له من معلومات. فقد يركب بعض القطع في مكان ما لتبدو له بأنها صحيحة وفي مكانها المناسب فتؤلف جزءاً من المشهد العام يبدو منطقياً للوهلة الأولى، إلا أنه لو تم النظر إلى اللوحة من الأعلى، من المنظور الكلي لتجلى لنا أن هذه التركيبة لا تتناسب مع المنظر العام، وهو اجتهاد لا يمكن عده صحيحاً أو خطأً بحد ذاته، إلا أنه قد يكون مشكِّلاً للوعي ومعدلاً له أو مشوهاً له في دائرة معقدة من التأثيرات المتبادلة ذات آثار بعيدة المدى على الأداء السياسي أو الوعي السياسي للأفراد في مجتمع من المجتمعات.

فمجال التحليل السياسي له رجالاته الذين يؤدّونه بجدارة، ويقومون عليه بكفاءة، ومن أراد أن يخوض في هذا المجال يجب أن يلتزم بمعاييره التي يتحتم التمسك بها واحترامها من كل محلل أو باحث أو مفكر إستراتيجي. وفي هذا السياق نذكّر بأهم هذه المعايير التي ينبغي أن تتوفر في الباحث أو المحلل الاستراتيجي، والتي لا يجوز التغاضي عنها، أو تجاوزها أو إسقاطها أو إعفاء أي مفكر استراتيجي من استحقاتها.

وهذه الصفات التي ندرجها أدناه يفتقر إليها كل المحللين الذين تستضيفهم ”الجزيرة” أو ”العربية” أو أخواتهما في الرضاعة، على هوائها، لتشريح الوضع العربي:

ـ يجب أن يتوفر في المحلل الاستراتيجي مؤهلات علمية وشخصية، تجعله قادراً على تحليل الوضع الاستراتيجي لبلد ما بموضوعية وشفافية. فالتحليل الاستراتيجي ليس هواية، بل هي كفاءة علمية وتحصيل أكاديمي، لا يقْدر عليه إلا من كان مؤهلاً، ويملك رصيداً ضخماً من الثقافة والخبرة والإطلاع.

ـ لابد أن يكون المحلل الاستراتيجي فقيهاً في الشأن الذي يتناوله. والفقه بالشيء لا يقف عند حدود المعرفة السطحية به، بل الإحاطة بكل جوانبه، والقدرة على تفسير ظواهره وتحديد مساراته ومسبباته، والوقوف على العوامل المحفّزة أو المانعة لوقوعه، ولماذا تم الحدث على هذا النحو دون ذاك، وما هي النتائج التي ترتبت على وقوعه بكل دقة وأمانة.

 ـ والمحلل الاستراتيجي ليس منجّماً ولا متنبئاً ولا عرّافاً، إنما هو خبير في موضوع البحث، يملك لكل استنتاج يسوقه سنداً موثوقاً يدعم استنتاجه ويبرره. فكم من محلل على الجزيرة قال إن سقوط الدولة في سورية مسألة وقت، والوقت لا يتعدى شهراً أو شهرين، ومر أكثر من عام فسقط المحلل، وظلت سورية صامدة.

ـ على الخبير الاستراتيجي ألا يحمل أفكاراً مسبقة مطلوب منه إثباتها أو تأكيدها، كما عليه أن يكون نزيهاً محايداً قدر الإمكان (رغم معرفتنا أن حياد المحلل مسألة نسبية). كما يجب عليه أن يعطي الموضوع حقه، فينظر إليه من زوايا عدة، ويُبرز ماله وما عليه. كما ينبغي أن يتجنب طرح الأفكار المسبقة، حتى لا يأتي التحليل مثقلاً بمعلومات يريدها المحلل أو معد البرنامج التلفزيوني، على حساب الموضوعية والحياد، ذلك أن حشر الأفكار المسبقة في التحليل يدمر موضوعيته، ويغتال المصداقية والشفافية المطلوبة في المحلل الاستراتيجي.

ـ على المحلل الاستراتيجي العربي الذي يخاطب الرأي العام العربي، أن يكون أكثر الناس حرصاً على الأمن القومي العربي، وأكثرهم تمييزاً بين العدو والصديق، وأكثرهم تمسكاً بالثوابت القومية، لكونه أكثر الناس إطلاعا على الأخطار المحدقة بالوطن العربي، ومخططات الأعداء الرامية للنيل من وحدته وتماسكه وصموده. لذا لا ينبغي أن يفرط بالأمن القومي، إرضاءً لرغبات القناة المستضيفة، وهو متى فعل ذلك سقط كمحلل، وأضحى بوقاً مأجوراً ليس إلا.

ـ ينبغي على المحلل الابتعاد عن اتباع أسلوب التحليل حسب الأماني، لأن هذا الأسلوب لا يعكس الرؤى الواقعية، بل يعبّر عن عاطفة المحلل، أو أماني القناة المستضيفة، فالتحليل الاستراتيجي هو نتاج بحث مرهق، وتحرٍ مضنٍ عن الحقيقة، وتدقيق مجهد في كل رقم يستخدمه المحلل، وتحقيق موثق لكل قول يستشهد به.

ـ على المحلل الاستراتيجي أن يكون مواكباً للقضية المطروحة، ملماً بتفاصيلها وتطوراتها المستجدة، ويمتلك المهارة المطلوبة لربط أحداثها وبالشكل الصحيح، وتقدير الموقف على نحو دقيق، بما يخدم هدف التحليل، ثم الخروج بعد ذلك بالاستنتاجات التي تأتي في أغلب الأحيان واقعية سليمة. فليس كل من حفظ بضع جمل رنانة في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، يكررها في كل حين، هو محللٌ استراتيجي.

ـ حتى لو توفرت الشروط الواردة أعلاه في المحلل الاستراتيجي، مع ذلك ينبغي ألا يجزم بحدوث تطور من نوع معين في المستقبل، بل عليه أن يترك هامشاً للمفاجآت المحتملة، لأن الخبير متى قطع بحدوث أمرٍ خلال فترةٍ زمنية محددة، ولم يحدث هذا الأمر بعد انقضاء الأجل، سقط هذا المحلل وعليه ـ من الناحية الأدبية على الأقل ـ أن يتوارى عن الأنظار، لا أن يبدأ بسوق الأسباب التي أدت لعدم حدوث ما توقع.

تلك هي أهم الشروط الواجب توفرها في المحلل الاستراتيجي، لكي يكون خبيراً أو مفكراً أو محللاً بالمستوى اللائق.

لكن ـ مع شديد الأسف ـ إن المعايير التي تضعها ”الجزيرة” وأخواتها للمحلل الاستراتيجي تختلف تماماً عما أدرجنا، ونلخص معاييرها بالأتي:

ـ أن يكون ذا وجه تلفزيوني مقبول ولسان طليق (أي حائزاً على البريستيج المطلوب)، لأن ذلك يلعب دوراً في التأثير على نفسية المتلقي.

ـ أن يكون خبيراً على المقاس القطري، لإجراء تحليلات حسبما تهوى قناة الجزيرة. وأن يقتنع بما يمليه طاقمها، وأن يقوم بدوره ـ خلال التحليل ـ بإيجاد المسوغات المناسبة لتسويق هذه الإملاءات.

ـ أن يكون قد حمل رتبة عسكرية رفيعة، أو تمتع بصفة سياسية من أي نوع.
ـ أن يحفظ عبارات جذابة ومصطلحات معاصرة وجمل بليغة لاستخدامها أثناء الحوار، بهدف خداع المتلقي، وإيهامه برفعة مستوى وشأن المحلل.

ـ وإذا توفرت لدى الخبير مهارات ذاتية إضافية يمكن توظيفها لتعزيز تحليلاته واستنتاجاته، كالخبرة في مجال الحاسب الإلكتروني ورسم الخرائط والمخططات الخاصة بالموقف، وشرح التفاصيل التي تريدها الجزيرة، فإن ذلك سيكون بصمة خاصة، يضيفها المحلل إلى رصيده.

أخيراً، أن يقنع المحلل في نهاية المقابلة بمبلغ عشرة آلاف دولار، ولا يطلب زيادة على هذا المبلغ المتواضع”.

في الختام نقول: هذا هو حال المحللين الاستراتيجيين في قناة الجزيرة وأخواتها، وهذه مواصفاتهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا تستضيف قناة ”الرأي والرأي الآخر” وأخواتها محللين يملكون رؤى تختلف عما هو مطلوب قطرياً؟!

الجواب في غاية السهولة: لأن ذلك لا يخدم السياسة المشبوهة للقناة، ولا يدعم إستراتيجيتها الموضوعة أمريكياً وصهيونياً لتدمير عناصر القوة والمنعة والصمود لدى الأمة العربية، ويتعارض مع الجهود المبذولة لتحقيق أهداف الأعداء، ممثلين بأمريكا والكيان الصهيوني، الطامحين في تجزئة الأمة وإضعافها، ووأد كل أمل للشعب العربي بتحقيق المنعة، وبناء القوة الذاتية، التي تعيد للعرب مجدهم الغابر، الذي كان على الدوام يضيء العالم بنور العلم، ورسوخ الحقيقة.

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version