من أرشيف رؤية
في ”اليوم العالمي للديمقراطية”، الذي احتفل به العالم مؤخراً، حاولت القنوات الفضائية التركيز على ”الديمقراطية” الوافدة مع سيول الدماء والكوارث والحروب والتفجيرات وجيوش الغزو الأمريكي المدجج بالكراهية والاضطهاد للمسلمين. وقد تم تركيز الحديث على ”الديمقراطية” كقيمة عليا بغض النظر عن مستوى حياة الناس والمآسي التي تحلّ بهم، والدرك الذي تصل إليه حياتهم بذريعة الارتقاء بالعمل السياسي إلى المستوى ”الديمقراطي”.
منذ بداية ”الربيع العربي”، ازداد الحديث والبحث عن الديمقراطية في العالم العربي، الذي يدخل في نطاق عملية تحرر سياسي جديدة، غير أن النشاط البحثي هذا لا يقدّم إيضاحاً وافياً كما قد يؤمّل، وربما يعود سبب ذلك إلى الاعتماد غير النقدي على تعريفات الديمقراطية المتمركزة حول أوروبا من جهة، وإلى انشغال كثير من المستشرقين بالدفاع، مثلاً، عن الفردانيّة والعلمانية بوصفهما شرطين مسبقين للديمقراطية من جهة أُخرى، وفي كلتا الحالتين، هناك نقص في الاهتمام بالخصوصيّة والقرينة أو (السياق)، إذ لم يول كثير من الاهتمام لحالة النقاش الدائر حالياً حول الديمقراطية في العالم العربي، وبما أن مصلحة الديمقراطية تقتضي التعددية، ولاسيَّما أن الديمقراطية تعددية بطبيعتها، فإن الديمقراطية هي خاصية مميزة ترفض عنف الإقصاء من خلال الثبات والسلطوية والأحادية، تلك هي الفكرة الجوهرية التي يجب على العرب الدفاع عنها، أي رفض النظرة الوحدانية بخصوص الديمقراطية التي تصر أن هذه الأخيرة متأتية من عقل واحد أو من حقبة تاريخية واحدة أو من نظام حكم سياسي واحد.
للمرء أن يتأمل بتأنِ ووضوح رؤيا، متسائلاً: أي من دولنا في الشرق الأوسط حققت الديمقراطية بالطرق الإعجازية (أي بين ليلة وضحاها) عن طريق التمردات أو الاحتلال الأجنبي أو الارتزاق من الأجنبي، أقول أي من هذه الدول والشعوب الشرق أوسطية تحيا اليوم ديمقراطية حقة من النمط الذي يحياه البريطانيون أو الفرنسيون أو حتى الهنود؟
الجواب، بطبيعة الحال، هو، لا توجد أية ديمقراطية شرق أوسطية يمكن أن تقارن بالديمقراطيات الأوروبية الغربية أو الأميركية أو حتى الآسيوية. وعلة ذلك تكمن في أن الديمقراطية تشترط مسبقاً التعامل مع الشعوب على أساس المواطنة الحقة فقط، وليس على أسس أخرى، كالطبقة الاجتماعية، أو العائلة أو الانحدار القبلي، أو الطائفة أو الجنس!
بإمكاني الإتيان بمئات التصريحات لرؤساء وملوك ومسؤولين تمتدح الديمقراطية، وتجد فيها الحل الأهم لبناء الدولة الحديثة، وبإمكاني أيضاً الاستدلال بمئات الوقائع والأحداث التي تؤكد أن هؤلاء يتحدثون عن الديمقراطية عندما يجدون فائدة بين طياتها لنظام الحكم القائم في بلدانهم، إلا أن الأمور سرعان ما تنقلب رأساً على عقب في أول خضة يتعرضون لها، والفرق يبرز هنا بين الحاكم والمحكوم، فالمحكوم كما يرى أرسطو طاليس (مدني بطبعه)، والحاكم الذي يتحدث باستمرار بالديمقراطية، تكتشف في نهاية المطاف أو منتصف الطريق، أنه من الحكام الذين قال عنهم العالم الاجتماعي ”د. علي الوردي” يصفهم بقوله (جميع السلاطين الذين يدعون إلى طاعتهم، وصلوا إلى الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة).
أما النموذج الآخر فيمكن وصفه بالحكام الذين أقنعوا شعوبهم، بأنهم يمارسون الابتزاز والسرقة والهيمنة ليجلبوا الثروات لهم، وهذا الأساس الذي تعتمده نظم الاستعمار القديم والحديث، وإلا كيف يقنعون ملايين الجنود والضباط للذهاب إلى دول وقارات تبعد عنهم آلاف الأميال، وهذا ينطبق على التجارب الأسبانية والبرتغالية والرومانية والبريطانية والفرنسية وغيرها من التجارب الاستعمارية وفي العصر الحديث الأميركية.
وإذا تحدثنا عن مئات الوقائع والأدلة التي يتباهى بها رؤساء ووزراء ومنظرون للديمقراطية، فلا نحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء، فمجرد جمع بياناتهم وخطبهم، التي غالباً ما يتفاعل معها الجمهور(المدني)، ويصفق لها بحماس، باعتبارها البوابة الأولى والأهم للتطور والتقدم والضمانة لحماية الناس من الانتهاكات التي قد تطول حقوقهم، وبدون أدنى شك أن الوعي في هذه النقطة بالذات يؤدي دورا مؤثراً، وبسبب قناعة بعض النخب بعدم وجود أرضية حقيقية لكل الوعود والكلام الذي يصفق له الناس، فإن التشكيك الذي قد يرقى إلى درجة عدم القناعة أسس لـ(المعارضة) ذات التوجه الثقافي والفكري، وهو الأكثر تأثيراً على المدى البعيد من كل المعارضات السياسية ذات النزعة المصلحية، التي تبني معارضتها بغرض الوصول إلى الحكم، وليس هناك هدف يتعلق ببناء الدول الحديثة، بما فيها احترام الإنسان.
ونأتي على الوقائع والأحداث التي تدلل على أن الديمقراطية ليست بأكثر من رداء يتحدث به الحكام عندما يكون مناسباً للفصل الذي يعيشون، فإذا كان شتاء فإنه يكون سميكاً وإذا صيفاً فهو الفضفاض الطري. وأعتقد بأن أكثر دولة تحدثت في خطابها الجمعي عن الديمقراطية خلال العقود الماضية هي الولايات المتحدة، فظهرت الأدبيات السياسية التي تبرز أهمية الديمقراطية في بناء الأمم والمجتمعات، ووظفت مؤسسة إعلامية عملاقة هي (هوليوود) للإنتاج السينمائي لتسويق النموذج الأميركي في الديمقراطية، وزرعت قناعات واسعة لدى الرأي العام العالمي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان…
وإذا أردنا أن نوسع دائرة الأمثلة التي تؤكد كذب الديمقراطية في الممارسة وأنها تحتل الواجهة في الشعارات فقط، فإن دول أوروبا قد سارعت إلى خلع لباس الديمقراطية التي طالما تباهت به بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ووضعت جميع العرب والمسلمين في قائمة المجرمين والقتلة، وشمل ذلك بطبيعة الحال الحاصلين على جنسية تلك الدول، وقد يكون أولادهم لا يتكلمون حتى لغة بلدانهم، فتم إطلاق أجهزة المخابرات في كل الدول الأوروبية وأميركا وكندا والدول العاملة في دائرة استخباراتهم للتعاون فيما بينها لمضايقة الجاليات العربية والمسلمة، كما أن ذلك لا يستثني المسيحيين الوافدين من الدول العربية والإسلامية.
إن ما يؤلم هنا ليس فقط ما حلّ بالعراق، وفلسطين وليبيا وتونس واليمن وسورية على سبيل المثال، ولكن ما نقرأه يومياً من قصص مضللة تقلب حقيقة ما حدث فتحول الضحية إلى قاتل، والقاتل إلى ”ديمقراطي” ساع إلى حياة أفضل لهؤلاء الذين يدمر حياتهم ومستقبل أوطانهم وأطفالهم!
المشكلة اليوم هي أن لغتنا وقيمنا وأفكارنا قد أصبحت أداة بيد الآخر للتعبير عنّا نحن العرب، وعما يرتكبه ضدها في ديارنا، بينما نجلس نحن متفرجين متلقين لأخبارنا منه، ومطلعين على عذاباتنا من وجهة نظره، وعلى قيمنا من خلال رؤيته المليئة بالكراهية العنصرية لها. والخطورة هنا، هي أن نستمر في هذا الوضع السلبي إلى حد الاضمحلال، وإلى أن لا يبقى شيء منا يشير إلى حقيقة واقعنا، بل تبقى القصة التي كتبها الغزاة عنا، وتندثر قصصنا نحن العرب تحت وطأة الإنتاج الفني، واللغوي، والسياسي، الذي تنتجه الجهات المدجّجة بالكراهية ضد المسلمين، التي تروّج نفسها بأنها ”ديمقراطية” وقادمة لتحرير الشعوب من ربقة التخلف والاستبداد!
فبالإضافة إلى وصف كلّ ما يجري أمام أعيننا بلغة كاذبة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، يعمد المستعمرون اليوم إلى توجيه ضربة قاسية للغتنا وثقافتنا وكل ما نعتز به من إرثنا بدعوى الحداثة والتحضّر وغسل أدمغة البعض من أبناء جلدتنا ليتحولوا إلى جلادين للذات ومروجين للكراهية الغربية ضد العرب.
ما يقلق في هذا المجال، هو الوضع في العالم العربي، والذي تنخفض كل مؤشراته البحثية والمعرفية، ومؤشرات القراءة والنشر، إلى حدّ غير مقبول. وعلى سبيل المثال:
فمعدلات القراءة في الوطن العربي لا تتعدى 6 دقائق أو 3 صفحات في السنة، ومعدل النمو الاقتصادي لا يتعدى 3.3 في المائة وتنفق الدول العربية ما مقداره 0.2 في المائة من دخلها القومي على البحث العلمي، وسجل العرب مجتمعين نحو 836 براءة اختراع في كل تاريخ حياتهم، وهو ما مجموعه 5 في المائة فقط مما اخترعه سكان إسرائيل، أما معدل البطالة في الوطن العربي فيبلغ 25.6 في المائة من السكان تقريباً، وهو الأعلى في العالم، وهناك 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية أي ما يعادل 13 في المائة من السكان تقريباً، وهناك نحو مئة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يعادل تقريباً ثلث سكان الوطن العربي.
من جهة أخرى، يبدو التوجه الاقتصادي للحكومات الجديدة لدول الربيع العربي، نسخة طبق الأصل عن سابقاتها في تقديس النيوليبراليية، والإرتهان لصندوق النقد الدولي، وهو ما وجد فيه الغرب فرصة أخرى لاستمرار عملية النهب المنظم، وإن كان اليوم يتستر بستار القروض وإعادة الإعمار، ما يعني استمرار، بل وزيادة، ارتباط الاقتصاد الوطني للخارج سواء كان عربياً أم أجنبياً، الأمر الذي يمنع بدوره قيام ديمقراطية حقيقية، حيث لا ولن يسمح الغرب بها في دول تابعة، كي لا يخرج حاكم منتخب بحق، ليطالب بثرواته الوطنية وحقه في اختيار الطريق الاقتصادي المناسب، بعيداً عن وصفات الخراب العالمية، كما لن يسمح المال الخليجي بذلك لأسبابه الوجودية المعروفة، وبالنتيجة لا ديمقراطية حقيقية دون استقلال اقتصادي ناجز، والعكس صحيح أيضاً.
فلا السوق السياسية المنفتحة والقادرة على المنافسة هي الديمقراطية، ولا اقتصاد السوق يشكل في حد ذاته مجتمعاً صناعياً، بل إن في وسعنا القول، في الحالتين، إن النظام المنفتح سياسياً واقتصادياً شرط ضروري من شروط الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لكنه غير كاف.
صحيح أن لا وجود لديمقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية، ومن دون حرية تعبير، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديمقراطية إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش و/أو جهاز الدولة، لأن العولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تتساهل تجاه انضمام دول مختلفة لاقتصاد السوق، منها دول تسلطية، ومنها دول ذات أنظمة تسلطية آخذة بالتفكك، ومنها دول ذات أنظمة تمكن تسميتها ديمقراطية، أي أن المحكومين فيها يختارون بملء إرادتهم وحريتهم من يمثلهم من الحاكمين.
وهنا أحاول الربط بين الغياب السياسي التام للدول العربية على المستوى الدولي، إلا حين تحتاجهم متطلبات العلاقات العامة الأمريكية، وبين التغييب الرسمي المتعمد للغة والتراث والثقافة…
فإذا لم يكن الإنسان نتاج لغته وثقافته ومكونات حضارته فماذا يكون…؟
وإذا لم تكن الديمقراطية تهدف إلى رفع مستوى حياة الإنسان وإسعاده والارتقاء بكلّ أوجه حياته فماذا تكون…؟
فالتجربة الأوروبية ـ الأميركية الحديثة، هناك من يقرؤها بعيون الأوروبيين والأميركيين، فلا ينتبه أنها ديمقراطية قامت على نظام العبودية الحديث الذي يشمل العالم أجمع، وأنّ موقعه فيها عبد لا سيد. ففي أوج هذا الازدهار للديمقراطيات الأوروبية ـ الأميركية لم يتجاوز عدد سكانها خمس عدد سكان العالم. وفي نطاق هذا الخمس تدار تلك الديمقراطيات من قبل مجلس أعلى ينبثق عن مجالس الشركات المتعدّدة الجنسيات. وإذا كان من حق كل مواطن ديمقراطي حرّ، من أبناء الخمس البشري الحرّ، الإدلاء بصوته فإن ذلك لا يعني أن القول الفصل ليس في يد مجلس الشركات الأعلى.
لقد أوضح الأميركي المنصف ”نعوم تشومسكي” جيداً، في كتابه ”ردع الديمقراطية”، كيف يتوهّم المواطنون الديمقراطيون الأحرار في الولايات المتحدة أنهم يصوتون بإراداتهم، وأنهم يعبّرون عن قناعاتهم، بينما الحقيقة أنهم يفعلون تماماً ما يريده المجلس الأعلى للشركات. وأوضح كيف صار حالهم كذلك نتيجة عمليات طويلة معقدة مارستها إدارات الشركات الاحتكارية الربوية. وهنا أيضاً، كما في حال الإغريق القدامى، بسبب الازدهار الهائل والثروات الأسطورية، توقف التناحر بين أرستقراطية الشركات والمواطنين الديمقراطيين الأحرار، ليستمر بينهم عموماً وبين أكثرية سكان العالم الساحقة، أي أربعة أخماس البشرية، التي حلّت محل العبيد القدامى أكثرية سكان الجمهورية الإغريقية القديمة!
ورغم كل هذا وذاك، لا يكاد يمرّ يوم إلا ويخرج علينا من يتحدث ويتشدّق بفضائل الديمقراطية، وضرورة تعميمها على مستوى دول العالم، وهي في الحقيقة ديمقراطية مقننة خاضعة للمصلحة الأميركية بالمطلق، تحملها وسائل الإعلام، والقوّة، وقبل وبعد ذلك كله الكذب والتزييف من أجل تمرير المصلحة الأميركية. ويأتي تعزيز المصلحة الاقتصادية الأميركية في أول الاهتمامات والاحتياجات، ما يستدعي إيقاع أقصى الضرر في الدول المرشّحة لخدمة الاقتصاد الأميركي على مساحة العالم، سواء من خلال الاحتلال المباشر، أو غير المباشر وما يترك من آثار مدمّرة على تلك الدول، بغض النظر عن أي وازع إنساني.
كل ذلك ينضوي تحت عنوان واضح مفاده تكريس شخصية ”السوبرمان” الأميركي المؤهّل لاغتصاب ثروات الدول، وقيادة شعوب العالم، بالعصا، أو بالجزرة.
ولا يمكن لأي باحث…، إلا أن يعترف أنّ العولمة والقوى الدولية والعناصر الفاعلة فيها، اكتسحت الحدود الإقليمية والثقافية والاقتصادية والسياسية غير محكمة الإغلاق للدول في العالم أجمع، ولاسيما العالم العربي، وترافق مع هجمة العولمة، انتشار الخطابات الديمقراطية، لكنها لم تولد ممارسات ديمقراطية، بسبب سيطرة أقلية غير مسؤولة من أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات والمشروعات على حياة ومعاش أغلبية كبرى من البشر.
لقد سرّعت العولمة التي لا تعدّ في أي حال من الأحوال عملية منتظمة أو إيجابية أو تكاملية أو لا تُعكس، جدليّات إلغاء القطرية واللاقطرية، والمحليّة واللامحليّة. ويصف تعريف ”غيدنز” للعولمة بأنها ”تكثيف العلاقات الاجتماعية العالميّة التي تربط الحقائق البعيدة بحيث تشكّل الأحداث التي تقع على بعد أميال عديدة الوقائع المحلية والعكس بالعكس”. ثمة عنصر مهمّ غائب عن تعريفات العولمة، ولاسيما فيما يتعلق بجدليّات التبادل، وهو عنصر الاختلاف، ربما لا يوجد شيء يوضح هذه النقطة مثل نقل موقع الديمقراطية من بيئتها الخاصّة والمحددة، أي الغرب، وترجماتها المحلية في بيئاتها الجديدة.
باختصار، لقد صار واضحاً أنّ العالم محكوم اليوم بديكتاتورية ديمقراطية، بديمقراطية انتقائية مزعومة، هي واجهة وغطاء للمرابين الدوليين الذين يكنزون معظم الكتلة النقدية العالمية، ويتحكّمون بمعظم الإنتاج والاستهلاك العالمي، ولا يتركون لأتباعهم سوى فتات الموائد!
فالمشروع التنويري الغربي بكل ما يحمله في صيرورته التاريخية من القيم التي رفعها إلى مرتبة ”آلهة العقلانية والديمقراطية” وصل إلى مأزقه المحتوم في ظل أزمة الحداثة الغربية، والحال هذه بات على مثقفي العالم العربي القيام بالمراجعة النقدية لفكرة الديمقراطية الغربية، وإسقاط صبغة القداسة عنها، وإذا كانت الديمقراطية شكلت لحظة إبداع في المشروع التنويري الغربي، ودشنت فتحاً معرفياً وفكرياً مهماً في تاريخ البشرية، فإن الديمقراطية بوصفها قيمة أخلاقية إنسانية متحركة تظل خاضعة لنسبيات شتى كالتاريخ واللغة والدين والزمان والمكان/ من هنا يأتي رفض العديد من الباحثين العرب للنمط الأحادي الذي تريد الديمقراطية الغربية فرضه على بقية العالم المختلف في ثقافاته وحضاراته عن العالم الغربي.
وأخيراً وليس آخر، من المهم أن يتم تعزيز الديمقراطية في الوطن العربي وتكريس المزيد من الحريات بأسلوب بعيد عن التصادم بين أطياف المجتمع، بحيث يتم التأكد من رسوخ المفاهيم الديمقراطية وضمان عدم الانقلاب عليها وتشويهها من قبل أي طرف قد يستطيع، في غفلة من الزمن، كسب الانتخابات بطريقة ما.
فالديمقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف السلطة العربية بضرورة إعادة النظر في بنية الدولة السائدة حالياً، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، لا دولة حزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخية، ويتطلب بناء الدولة الحديثة أن تطلق السلطة حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءاً من قانون الأحزاب والجمعيات إلى قانون المطبوعات إلى قانون الأسرة وغيره، فضلا عن بناء المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، وضمان ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها، والحريات الفردية والعامة لا يمكن أن يكون لها وجود جلي وملموس ما لم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن الشعب قادراً على المشاركة السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي تغييرها.
وهذا يجرنا لأمر آخر يستحق الطرح يختصره السؤال:
هل يمكن مد الجسور بين المرجعية العربية الإسلامية وبين المرجعية النهضوية الأوروبية؟
في الحقيقة هناك الكثير من القيم الحضارية الإسلامية الإيجابية التي تبدو معطلة أو شبه معطلة رغم أنها كانت سبب قوة وانتشار الحضارة العربية الإسلامية من الهند والسند حتى قلب أوروبا، كقيم العدل والرقابة على الحاكم واستشارة الشعب في القرارات المصيرية، كما فعل الرسول الكريم في كثير من القرارات الدنيوية طالباً رأي المسلمين معطياً بذلك النموذج الأعلى وتكريس الإنسان كقيمة، وتحريم الجرائم التي تتنافى مع حقوق الإنسان الأساسية.
إن العلمانية التي يطرحها مفكرون عرب اليوم من مشارب فكرية مختلفة لا تتناقض مع الدين كقوة روحية تعمق إنسانية الإنسان والسمو بقيمه وأخلاقه، والإشكالية القائمة على تناقض بينهما إنما تعود الى التجربة الغربية، فهل ثمة تناقض مابين العلمانية (فصل الدين عن السلطة) والدين كقوة روحية مهمة لتوازن الإنسان والسمو به؟
إن هذه الأسئلة تصب في جوهر عدم التعارض ما بين الديمقراطية والمبادئ (الجوهرية) للإسلام التي أعادت للإنسان حريته من العبودية المقيتة وأشاعت العدل والمساواة، بصرف النظر عن الجنس واللون، وهذا ما يجب مراعاته وأخذه بعين الأهمية والاعتبار في سعي العرب الآن للتأسيس لمجتمعات جديدة على أسس الحفاظ على الأوطان والعدالة والحرية والمساواة.