من أرشيف رؤية
وصفت منظمات تطوعية عاملة في مجال البيئة والتنمية ما تم التوصل إليه في قمة ريو دي جانيرو بأنه ”أضعف” من أن يعالج الكوارث الاجتماعية والبيئية التي يعاني منها العالم، وكانت الحصيلة النهائية اتفاقاً سياسياً يخلو من أي إشارة بوجوب التصدي للأزمات البيئية والاجتماعية التي تهز أركان العالم الأربعة.
فبعد 20 عاماً، بات مفهوم التنمية المستدامة مألوفاً في جميع أنحاء العالم، إلا أن اجراءات تنفيذ هذه الالتزامات أبعد ما تكون عن الرضا. فمن جانب، ضعفت استدامة الدول النامية بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والتغير المناخي وفقدان الموارد والتكنولوجيا، ومن جانب آخر، بدت بعض الدول غير راغبة في تحمل مسؤولياتها لتوفير المساعدات الضرورية الى العالم النامي.
ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن صافي المساعدات الإنمائية الرسمية من 23 لجنة مساعدة إنمائية تابعة للمنظمة وصل إلى133.5 مليار دولار أمريكي في عام 2011، ما يمثل 0.31 في المائة من إجمالي الناتج القومي المجمع للدول، وهو أقل بكثير من هدف 0.7 في المائة الذي حددته الأمم المتحدة في سبعينات القرن الماضي.
قبل أيام من انعقاد قمة (ريو +20)، افتتحت ”قمة الشعوب” في ريو أعمالها، وضمت 40.000 ممثل و 8000 متظاهر خارج أسوارها، و مع ذلك حاولت قمة ”ريو +20” الرسمية التنكر لها بشكل فاضح عندما تجاهلت تماماً مطالبها، وراحت تركز كافة جهودها باتجاه مصالح الشركات متعددة الجنسيات فقط، لتكون الحصيلة اتفاقاً يسمح لبعض الدول ببيع ”رأسمالها الخالص” لشركات دولية عملاقة دون أدنى تسوية تقتضي من الشركات وضعها في مسؤولية الخسائر التي تلحقها بتلك الدول التي تبيعها رأسمالها الخاص… بالتأكيد لن يتعرض ”الاقتصاد الأخضر” للتبدد طالما أن الصناعيين والممولين يسعون للحفاظ على نضارته… لعلها بارقة أمل ضئيلة، سطعت من ثقوب الاتفاق الختامي أعلاه و الشديد قتامة، بالنسبة لجميع هؤلاء الذين يقاومون هذا النوع الجديد من جبهة القتال الذي يصطنعه عالم المشاريع المنحرفة ضد عالمنا الطبيعي…
ولعل الأنظمة الاقتصادية السائدة اليوم تحفز لاستخدام صيغ إنتاجية واستهلاكية مدمرة للغاية، وهي دون شك مسؤولة عن تدمير البيئة و المجتمع الذي نعيش بين ظهرانيه ففي الوقت الذي يتطلب الأمر ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة، نجد أن الممولين والصناعيين و المتهمين أصلاً بتدمير هذه البنى، ينصبون أنفسهم أصحاب الحلول الشافية والوافية…! في الحقيقة لم يتم اتخاذ أي إجراء ملزم بهذا الشأن ولكن بالعكس فالسوق يحاول تسوية جميع المشكلات بمفرده، الأمر الذي يفسح في المجال لهذه المشكلات أن تستمر وتتفاقم…
وتعتبر هذه القمة أنجح القمم العالمية الفاشلة التي عقدت في شهر حزيران، مقارنة بقمتي الدول الغنية ”الثماني” في شيكاغو بالولايات المتحدة، و”العشرين” في لوس كابس بالمكسيك. وقمم الدول الغنية نوادي قمار مهمومة بالنقود، وليس هناك فشل مثل النجاح في النقود.
“المشتقات” المالية التي ضاعفت حجم النقود عشرة أضعاف حجم الإنتاج العالمي للسلع عبر التاريخ، هي الوجه الآخر للتنمية اللامستدامة التي تستنزف الأموال والموارد الطبيعية على حد سواء. وغياب أبرز زعماء العالم عن ”ريو+ 20” ليس دلالة على تضاؤل أهمية البيئة العالمية، بل تضاؤل شأن الزعامة العالمية.
لقد كانت الحصيلة النهائية للقمة، اتفاقاً يخلو من أي إشارة بوجوب التصدي للأزمات البيئية والاجتماعية التي تهز أركان العالم الأربعة. فمن منا لم يشهد، خلال العشرين سنة الماضية، و على نحو خاص نمواً وازدهاراًَ متنامياً لشركات متعددة الجنسيات و أثرها على مجريات العالم وهي على التوالي: شيل ـ بيتر وشينا ـ كوكا كولا ـ مونساتتو ـ وغيرها، وكل ذلك و بالطبع على حساب الشعوب و الحلول المقبولة للكرة الأرضية… تلك الشركات تمكنت من انتزاع إشراف الأمم المتحدة على محاولاتها في تقديم جميع بيادقها بكل الميادين، وعلى رجاء خاص جداً لتقويض أي جهد يؤسس لعدالة اقتصادية و اجتماعية أو سيادة غذائية…
لقد تحولت القمة الحالية، كما سابقاتها، إلى مجرد قرارات، تبقى حبراً على ورق، لأن الأرقام المنشورة تبعث على التشاؤم، وهي تلح علينا أن نقرع ناقوس الخطر مرات ومرات. فالتوقعات تؤكد أن سكان العالم سيتجاوز عددهم 9 مليارات نسمة، عام 2050، أما معدل عدد السكان في البلدان الفقيرة فيزداد 4.3 بالمائة سنوياً، وسترتفع الحرارة بمعدل 3.5 درجات، كما يزداد انبعاث غازات الدفيئة بنسبة 3 بالمائة سنوياً، وسيتراجع عدد الكائنات الحية بنسبة 28 بالمائة. وتجري إزالة الغابات بمعدل 13 مليون هكتار سنوياً، ويؤكد خبراء أننا بحاجة لكوكبين مثل الأرض لتلبية حاجات البشرية بحلول عام 2030، وعدد فقراء البلدان النامية يبلغ 43 بالمائة من السكان، علماً أن هناك نحو مليار شخص يفتقرون لمياه الشرب النظيفة في الوقت الذي اشترى فيه مستثمرون أجانب أراضي في بلدان نامية توازي مساحتها كل أوروبا الشرقية! فالشركات الكبرى هي المسؤول الأكبر التي ترفع الشعارات كي تكدس مزيداً من الأرباح الضخمة، ولا يهمها لا التنمية المستدامة ولا الحفاظ على الأرض.
فما الذي يمكن أن يفعله لكوكب الأرض، الذي يهدده خطر تغير المناخ، زعماء أمريكا وبريطانيا وألمانيا الذين عجزوا عن الاتفاق على قرارات تنقذ الاقتصاد الرأسمالي العالمي من التلاشي؟
ومعضلة مصطلح ”التنمية المستدامة” مستدامة على الرغم من أنها أصبحت العنوان الرئيسي للقمة، وهذه ليست معضلة لغوية بل فلسفية، تتعلق بتحقيق تنمية مستدامة لا تستنزف الموارد الطبيعية. وتدعى القمة بإسمها المختصر ”ريو+20” إشارة إلى مرور عشرين عاماً على ”قمة الأرض”، وما بين القمتين نشأت شبكة الإنترنت التي وضعت العالم في أحضان سكان العالم وأتاحت لهم متابعة يوميات ”ريو+20” على مدار الساعة، وخلفياتها التاريخية على مدى الأعوام. وشارك عبر الإنترنت ملايين الناس في السجال الكوني حول ما يحدث للكون، وشاهدوا بأبصارهم وقلوبهم راقصة سامبا سمراء وخلفها لافتة مكتوب عليها ”نريد خبزاً لا قنابل”. الجمال البشري الفتان يتحدى مبتهجاً قنابل الموت. أليست هذه صورة العالم اليوم في كل مكان؟.
“حصيلة هذه القمة لم تجعل أحداً سعيداً، وعملي هو أن أجعل الجميع غير سعداء على حد سواء”، قال ذلك ”شا زوكانغ’ أمين عام قمة التنمية المستدامة ”ريو+20”. و”زوكانغ” هو دبلوماسي صيني نصف مصيب في الادعاءين على حد سواء، كذلك مسؤولو القمة المهمومون بمناقشة أجندات انتهت منها ”قمة ريو” الأولى عام 1992.
البيان الختامي للقمة الذي صدر بعنوان ”المستقبل الذي نريد” يكرر في 80 صفحة 59 مرة عبارة ”نؤكد مجدداً”. وماذا عند زعماء 188 دولة حضروا قمة ”ريو+20” سوى التأكيد على تأكيدات ”قمة ريو” الأولى. فالموضوع يتعلق بإنشاء كوكب سماؤه صافية، وهواؤه نقي، ومياه أنهاره وبحاره ومحيطاته غير ملوثة، وسكانه لا يموتون من الجوع والأوبئة.
ورغم مصادقة جميع الدول على اتفاقيتي ”المناخ العالمي” و”التنوع الحيوي”، فإنها مثل بقية مشاريع الاتفاقات شبه معطلة. والمعاهدة الدولية الوحيدة الناجحة في الحفاظ على البيئة العالمية هي اتفاقية مونتريال لحماية الأوزون. والفارق الوحيد الذي يستحق الانتباه بين القمم العالمية الثلاث، حدّده زعماء دول ”بريكس” بأكفهم المتلاحمة في ”ريو+20”.
البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا، تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية التي لم تعد تقسم العالم إلى شمال وجنوب، أو إلى بلدان متطورة وبلدان نامية، فبلدان ”بريكس” الخمسة من شمال وجنوب الكرة الأرضية، وهي لا تعتبر متطورة ولا نامية، بل صاعدة. والبرازيل التي كانت تعاني عام 1992 التضخم والفساد والعنف، أصبحت القوة المالية الجديدة في أمريكا اللاتينية. وبينما كنا نستيقظ صباح كل يوم في قمة ريو 1992 على صور جثث أطفال مشردين يشاع أن البوليس يطهر الشوارع منهم، تعتبر البرازيل اليوم أنجح نموذج في القضاء على الفقر والجوع.
مشروع ”تصفير الجوع” الذي شرعت بتطبيقه عام 2006، يقدم إضافة إلى الدعم المالي والتقني للمزارعين الصغار، برامج ”العلاوات العائلية” التي غيّرت حياة 12 مليون عائلة فقيرة. وتضع ”العلاوات العائلية” مبالغ شهرية مشروطة في حسابات مصرفية للعائلات الفقيرة، تتعهد مقابلها بتلقيح أطفالها ضد الأمراض السارية، وضمان إرسالهم إلى المدارس.
الإشادة ببرنامج ”تصفير الجوع” كانت موضوع كلمة الختام لأمين عام الأمم المتحدة في قمة ”ريو+20”، والذي تعهد بتبنّي إسم وطرائق المشروع لتغيير عالم ”يبيت فيه كل ليلة مليار إنسان على الجوع”. وبشّر ”بان كي مون” القمة بأن خوسيه دي سيلفا وزير الأمن الغذائي البرازيلي السابق، المسؤول عن نجاح مشروع ”تصفير الجوع”، انتخب مديراً عاماً لـ”منظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية” التي تتولى مشروع ”تصفير الجوع” العالمي.
والسؤال المطروح على المنظمة الدولية: من أين تأتي بالأموال لتصفير الجوع، وقد خفضت بلدان منطقة اليورو مساعداتها للبلدان الفقيرة بمقدار 700 مليون يورو العام الماضي؟ ولو كان مبلغ عشرين تريليون دولار الذي خصصته قمة دول ”العشرين” لإنقاذ البنوك المفلسة خلال أزمة عام 2008 قد استخدم لإنقاذ مليار إنسان من الجوع والفقر، لأنقذت معهم البيئة العالمية والبنوك التي عادت مفلسة. ولو أطلقت طاقة الإبداع المكتومة في نفوس مليار إنسان لتحرروا من الفاقة والجوع ولتضاعفت ملايين المرات المشاريع المقدمة في ”ريو+20” والبالغ عددها 900 مشروع.
بعض هذه المشاريع تولّد طاقة من الرياح والشمس تسد 20 في المائة من حاجة الطاقة الكهربائية لبلد صناعي مثل الدانمارك، ذكرت ذلك ”نيويورك تايمز” في تقرير عنوانه ”ليس كل ما في ريو خسارة“، أشارت فيه إلى أن اليوم المشمس في ألمانيا يدرّ طاقة تعادل 40 في المائة من الطاقة الكهربائية المستخدمة يومياً هناك. ويبلغ الإنتاج العالمي الحالي من طاقة الرياح والشمس 300 ميغاواط، تعادل ثلاثة أضعاف استهلاك الطاقة في بريطانيا.
ولابد أن نعترف أن شركات الطاقة كانت أحد الأسباب في عدم تحقيق تقدم بشأن التنمية المستدامة. ومن المقرر أن تعكف دول العالم ثلاث سنوات من أجل رسم أهداف التنمية المستدامة في المستقبل.
وكانت التوصية بتقليل استخدام الوقود الأحفوري وردت في عدد من التقارير باعتبارها خطوة لتقليل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون. ولم يتحقق الكثير من التقدم، خلال القمة التي استمرت ستة أيام، في قضايا أخرى مثل حق الفقراء في الحصول على مياه نظيفة ونوعية مناسبة من الغذاء وأشكال حديثة من الطاقة. كما أعرب عدد من الدول عن سخطها من إزالة نص يتحدث عن حقوق المرأة الإنجابية من الإعلان النهائي.
مارتين لابانت، أحد أصدقاء الأرض و المشارك في القمة الرسمية ”ريو +20”، خلص للقول بأنه ”خلال هذه القمة، تكونت علاقات قوى جديدة بين دول صاعدة، و قوى عالمية قديمة وراحت هذه القوى جميعها تقدم بيادقها الاقتصادية، ولكن وفيما ”قادة” العالم غارقون في لعبتهم المفضلة، أعني لعبة الاحتكار و الاستئثاء LaMonooly، نجد الكرة الأرضية تتجه صوب الهاوية لتلامس قعرها”
واقع الأمر أن تدهور الأنظمة العالمية المشتركة بلغ حداً لا مثيل له في أيامنا هذه… وإن حاول هؤلاء القادة الذين يدعون زعامة العالم عقد المزيد من القمم والمؤتمرات، فإن لا شيء مفيداً سيتحقق سوى إتمام وإنجاز مصالحهم ومشاريعهم الكبرى… وعليه يجب على المواطنين والشعوب العودة لامتلاك ناصية مصائرهم والقبض على مفاتيح مستقبلهم و التمسك به أكثر من أي وقت مضى.
يذكر أن الامم المتحدة وصفت القمة بأنها ”فرصة واحدة خلال عقد من الزمان” لتحويل الاقتصاد العالمي إلى مسار الاستدامة.