حين يخبر محامي هيئة الادعاء أنَّ موكله وجَّهه لارتكاب جريمة، ويقر هو نفسه بارتكابه الجرائم المذكورة، فمن المرجح أن يعقب ذلك مباشرةً توجيه اتهامات إلى موكله.
والشعب الأميركي على وشك أن يعرف ما إذا كان هناك استثناء لهذه القاعدة العامة حين يكون مُوكِّله هذا هو رئيس الولايات المتحدة.
على الرغم من أنَّه لا يوجد حظر صريح في الدستور ضد تجريم الرئيس، فلطالما تبنَّت وزارة العدل موقفاً معارضاً لإخضاع الرؤساء لمحاكماتٍ جنائية في أثناء شغلهم المنصب.
وهذا يشير إلى أنَّ الاتهامات والاعترافات الاستثنائية التي أفصح بها مايكل كوهين، المحامي السابق لترمب الذي أنجز عدة مهمات غير قانونية لصالحه، لن تسفر عن أية اتهامات جنائية ضد ترمب بينما لا يزال في السلطة. اعترف كوهين بأنَّه دبَّر لدفع أموال لسيدات مقابل سكوتهن عن علاقاتهن المزعومة مع ترمب، وقال أيضاً إنَّ ترمب أمره بدفع الأموال للتأثير على سير الانتخابات، بحسب صحيفة New York Times الأميركية.
وإذا تبيَّنت صحة أقوال كوهين، فسيكون ترمب قد ارتكب جرائم خطيرة.
ومن جانبه، قال فيليب آلين لاكوفارا، الذي عمل مستشاراً لمحققِين خصوصيِّين حققوا في دور الرئيس ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترغيت: «الإقرار بالذنب تحت القَسم يؤكد أنَّ الرئيس كان شريكاً متآمراً في الانتهاكات التي شهدتها الحملة (الانتخابات الرئاسية) التي اعترف بها كوهين».
في قضية ووترغيت، قررت هيئة محلفين كبرى اعتبار نيكسون «شريكاً متآمراً غير متهم»، وتقدَّم نيكسون باستقالته لاحقاً في مواجهة المطالب المتصاعدة بتوجيه اتهامٍ له في الكونغرس.
وقال لاكوفارا إنَّ ترمب الآن «يُعتبر فعلياً شريكاً متآمراً غير متهم».
لكن في ظل سياسة وزارة العدل الحالية، لن يواجه ترمب أية ملاحقة قضائية، على الأقل لحين رحيله عن منصبه.
الخيار الآخر
وبحسب الصحيفة الأميركية، هناك خيار آخر وحلٌّ وسط يلحّ بشأنه بعض الخبراء القانونيين، وهو السماح للمدّعين بتوجيه اتهامات، مع تأجيل أية إجراءات إضافية لحين مغادرة الرئيس منصبه.
أما الخيار الثالث، فهو توجيه اتهام لترمب في الكونغرس، ويمكن للمدّعين تقديم الأدلة التي جمعوها إلى المجلس لينظر فيها.
وقال لاكوفارا إنَّ المدعين في ولاية مانهاتن «يمكن أن يطلبوا الإذن من نائب المدعي العام للقيام بما قمنا به في قضية ووترغيت، أي وضع خريطة طريق للأدلة التي تثبت إدانة الرئيس وإرسالها إلى اللجنة القضائية في مجلس النواب، التي تتمتع بصلاحية توجيه اتهامٍ برلماني».
وتتقيد هيئة ادعاء مانهاتن وروبرت مولر الثالث، المحقق الخاص المُكلف التحقيق في مزاعم علاقات ترمب مع روسيا، بالالتزام بسياسات وزارة العدل التي تمنع الملاحقة القضائية للرؤساء في أثناء شغلهم المنصب.
ولم تُجب المحكمة العليا قَط عن السؤال حول ما إذا كان يمكن مقاضاة الرئيس الشاغل للمنصب. واستمعت المحكمة بالفعل لجدالٍ حول هذه المسألة عام 1974 في القضية التي أمرت فيها نيكسون بتسليم التسجيلات الصوتية، لكنَّها لم تحسم المسألة.
وأقرب ما توصل إليه الدستور الأميركي في التعامل مع هذه المسألة جاء في الفقرة الثالثة من مادته الأولى، التي تقول: «لا تتعدى الأحكام في حالات الاتهام البرلماني حد العزل من المنصب، وتقرير عدم الأهلية لتولي منصب شرفي أو يقتضي ثقة أو يدرّ ربحاً لدى الولايات المتحدة، والتمتع به. لكن الشخص المدان يبقى مع ذلك عرضةً وقابلاً للاتهام والمحاكمة والحكم عليه ومعاقبته وفقاً للقانون».
وهذه الفقرة كافية لتوضيح الأمر: الرئيس الأميركي وغيره من المسؤولين الفيدراليين يمكن ملاحقتهم قضائياً عقب رحيلهم عن مناصبهم.
ومع ذلك، كتب بريت كافانو في مقال عام 1998 لاستعراض القانون: «سواء ما إذا كان الدستور الأميركي يسمح بإدانة الرئيس الشاغل للمنصب أم لا، فهذا موضع جدال». كان كافانو أحد أعضاء فريق عمل كيفن ستار، المحقق المستقل الذي تولى التحقيق في قضية الرئيس بيل كلينتون، وهو الآن مرشح الرئيس ترمب لملء المقعد الشاغر في المحكمة العليا. وخلص كافاناو، الذي يشغل مقعداً في محكمة الاستئناف الأميركية عن دائرة مقاطعة كولومبيا، إلى أنَّ الاتهام البرلماني وليس الملاحقة القضائية هو الطريق الأفضل لمواجهة الجرائم التي ارتكبها رئيسٌ في السلطة.
أما الرأي الأبرز المنشق عن الآراء السائدة، فيعود لإيريك فريدمان، أستاذ الحقوق بجامعة هوفسترا، الذي كتب أيضاً مقالاً لاستعراض القانون عام 1999، ودافع عن السماح بالملاحقة القضائية للرؤساء المُعيَّنين.
كتب فريدمان أنَّ منح الرؤساء في السلطة حصانةً ضد الملاحقة القضائية «يتنافى مع تاريخ حكومتنا وبنائها وفلسفتها الضمنية، ويتعارض مع السوابق (القانونية)، ولا تبرره الاعتبارات العملية».
ولفت إلى أنَّ المسؤولين الفيدراليين الآخرين، من بينهم القضاة، الذين يخضعون للاتهام البرلماني وُجِّهَت لهم اتهاماتٌ جنائية في أثناء شغلهم مناصبهم؛ إذ رفضت المحاكم حجة أنَّ الاتهام البرلماني هو العلاج الوحيد لمثل هؤلاء المسؤولين.
قضية إقالة نيكسون
وجادل سبيرو أغنيو، نائب الرئيس ريتشارد نيكسون، في أثناء تحقيقٍ أجرته هيئة محلفين كبرى والذي انتهى إلى إقالته عام 1973، بأنه كان يتمتع بالحصانة ضد الملاحقة القضائية بينما كان في المنصب. وقال إنَّ الاتهام البرلماني هو الحل الوحيد.
وفي مذكرةٍ لوزارة العدل وقَّعها المحامي العام روبرت بورك، أعربت الوزارة عن مخالفتها هذا الرأي. وأضاف بورك أنَّه على الرغم من أنَّ استجواب أغنيو لم يجرِ أمام المحكمة، فإنَّ «السمات الهيكلية للدستور» الأميركي تحظر الملاحقات القضائية للرؤساء في أثناء شغلهم المنصب.
وكتب بورك أنَّه نظراً إلى أن الرئيس بيديه سلطة التحكم في المحاكمات الفيدرالية ومنح العفو بالجرائم الفيدرالية، فلن يكون من المنطقي السماح بمقاضاة الرئيس بينما ما يزال في السلطة: لكن، ينبغي مقاضاته حين يرحل عن المنصب ويفقد هذه السلطات. (وأصبح بورك قاضياً في محكمة استئناف فيدرالية ومرشحاً غير موفق للانضمام إلى المحكمة العليا).
وبعدها بعام، تبنى ليون جاورسكي، المحقق الخاص في فضيحة ووترغيت، موقفاً أقل حسماً.
إذ قال جاورسكي للمحكمة العليا، خلال سعيه الناجح للحصول على تسجيلات البيت الأبيض التي أسهمت في استقالة نيكسون: «مسألة إمكانية إخضاع الرئيس خلال شغله المنصب للإدانة، سؤال جوهري ما زال دون إجابة».
ماذا سيحدث مع ترمب؟
وإذا تم التعامل مع ترمب كأي مرشح آخر، وليس كرئيس، فسيواجه -على الأغلب- اتهاماتٍ مماثلة لتلك التي وُجِّهَت للسيناتور جون إدواردز عن ولاية نورث كارولينا حين واجه اتهاماتٍ بانتهاكاتٍ مزعومة لقوانين تمويل الانتخابات عام 2011. وحملت هذه الإدانات عقوباتٍ مجمعة مشددة تصل إلى السجن 30 عاماً، وغرامة تتجاوز 1.5 مليون دولار.
وقال بول راين، نائب رئيس السياسات والادعاء في منظمة Common Cause غير الربحية: «نحن نتحدث عن احتمال قضاء سنوات في السجن إذا لم يكن رئيساً حالياً لكن مجرد مرشح مدني». وتقدمت منظمة Common Cause بشكاوى تتعلق بقوانين تمويل الحملات الانتخابية، تستند إلى الأموال التي دُفِعت للسيدات اللاتي كنَّ على علاقة بترمب.
ولم يُدَن إدواردز؛ إذ برَّأته هيئة المحلفين من إحدى التهم، ولم تستطع التوصل إلى قرار بشأن بقية التهم. لكن من جانبه، قال راين إنَّ المدعين في ولاية نيويورك «لديهم قضية أقوى لأسبابٍ عدة ضد فريق ترمب».
تمحورت قضية إدواردز، وهي الأولى من نوعها ومن ثم المعيار الفعلي الوحيد الذي قد يستند إليه المدعون في نيويورك، حول مبلغ مليون دولار تقريباً قدَّمه اثنان من داعميه لتمويل خطة مُفصَّلة لتقديم عشيقته رييل هانتر على أنَّها عشيقة مساعده أندرو يونغ.
وزعم المدّعون في قضية إدواردز أنَّ المبلغ المذكور الذي قدمه المانحون للتعتيم على الأمر هو في الواقع تبرعٌ سياسي. وشملت الرواية الزعم بأنَّ يونغ هو والد الطفل الذي أنجبته رييل من إدواردز.
ولتوجيه اتهاماتٍ جنائية، تعيَّن على المدعين أن يبرهنوا على أنَّ الأموال أُنفِقَت في الأساس لحماية ترشح إدواردز. وفي الاعتراف الذي أدلى به كوهين الثلاثاء 21 أغسطس/آب 2018، أقر تماماً بأنَّ فِعلته كانت للتأثير على الانتخابات، وأنَّه قام بذلك بتوجيهٍ من ترمب.