حتى يومنا هذا، ما يزال العالم ينظر إلى هتلر وموسوليني وفرانكو وبول بوت بكثيرٍ من اللوم والتوبيخ والاشمئزاز؛ لدورهم المشين في جر العالم إلى حروب طاحنة قتلت الملايين من البشر، وتأسيس أنظمة سياسية بوليسية خلفت وراءها أعداداً مرعبةً من الضحايا تفوق الحربين العالمية الأولى والثانية مجتمعتين. في حين تشير قوى التحرر الوطني ومناهضو الاستعمار بالبنان لأحمد ياسين، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي، ويوسف العظمة، وأحمد عرابي؛ فبطولاتهم المشرفة ما تزال أناشيداً وأهازيجاً وأشعاراً تتغنى بها الأجيال ويعلموها لأبنائهم، ومؤلفاتٍ ومخطوطاتٍ تثري المكتبة العربية والقيم الإنسانية.
ومع أن جميع قادة الأنظمة الدكتاتورية حاولوا دائماً استعراض القوة، والقدرة على البطش، ونشر الرعب في صفوف الجماهير، ودفعهم للالتفاف حولهم تحت لهيب النار والحديد، لم يخلُ هتلر ورفاقه من النرجسية وجنون العظمة والتمركز حول الذات والرغبة في مناطحة النجوم؛ كي يكونوا محور الاهتمام المحلي والعالمي، ويتصدروا المشهد في جميع المناسبات. أجزم دون أدنى تردد أن الكثير من الحروب والأزمات الدولية كان محركها الأساسي ظهور قيادات سياسية تعاني من عقد نفسية، ونرجسية سلوكية، وشعور دائم بالنقص، والرغبة في تحقيق الذات بأي ثمن، أي فشل الكيمياء السياسية في ردم الهوة بين السمات والميول الشخصية من جهة، والذوق العام لأبناء المجتمع المحلي والبيئة الدولية المحيطة من جهة أخرى.
يمكن تعريف الكيمياء السياسية بأنها: (درجة الانسجام والتوافق العضوي بين المركبات السياسية من ناحية، والعناصر والجزيئات التي تدور حول نواتها من ناحية أخرى). وبمقاربة سياسية مباشرة للمصطلح، نعرف الكيمياء السياسية بالتالي: (قدرة القائد، أو الرئيس، أو المرشح للانتخابات على إحاطة نفسه بهالة من الجاذبية، والقبول الجمعي، وخلق مواقف انطباعية إيجابية من خلال ما يتمتع به من سمات جسدية، أو فكرية، أو سلوكية “فطرية أو مكتسبة” من قوة، ومصداقية، وثقة بالنفس، وقبول النقد، وطلاقة في الخطاب، والقدرة على إلهاب مشاعر الجماهير، وتحمل المخاطرة، وتبني برنامج سياسي واقعي يلبي حاجات الجمهور ويرتقي برغباتهم). وكلما كانت السمات الشخصية والجسدية والفكرية والسلوكية أكثر قدرةً على الانصهار، زاد مستوى التمازج بين القائد والبيئة الرسمية والشعبية المحيطة به؛ وبالتالي أصبحت الكيمياء السياسية موجبة، ومرجحة لكفة القائد، أو المرشح السياسي، ومحركاً لتفوقه ونجاحه.
مهما وجهنا من انتقادات لاذعة لترامب، إلا أن مناصريه يرونه قائداً مثالياً وزعيماً مؤثراً استطاع نقل الأداء الرئاسي الرسمي لمرتادي البيت الأبيض خارج السياق البيروقراطي الذي ينتابه الكثير من الرتابة |
هنالك مجموعة من العوامل والمحركات التي تعمل على تحفيز الكيمياء السياسية لدى القائد أو المرشح لمنصب سيادي رفيع في الدولة، وهذه المحركات يمكن تلخيصها بالتالي:
محركات شخصية
تتمثل المحركات الشخصية في الجنس والعمر، والدرجة العلمية، والمستوى الثقافي، والتوجه الأيدولوجي، ودرجة الجاذبية للجمهور، والقدرة على تحمل المخاطرة والتصرف السليم في الأزمات والصراعات.
محركات جسدية
تلعب لغة الجسد دوراً لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه اللغة المنطوقة؛ فبنية الجسد، وطول أو قصر القامة، وحركة الأيدي، ونظرات العين، وحركة الأيدي، والتوزيع البصري، وقسمات الوجه، كلها عوامل تعمل على تحفيز الكيمياء السياسية لصالح القائد إذا تم توظيفها بشكل يتناسب مع ميول وأذواق الجمهور.
محركات لغوية
تعتبر اللغة محركاً مهماً في تحديد طبيعة الكيمياء السياسية للقائد، ويتجلى ذلك في طبيعة الخطاب، وبلاغة الخطيب، والسلاسة في استخدام الكلمات، ومستوى الخطأ، ونبرة الصوت، وحدة الكلمات، والفواصل الزمنية بين الجمل، والقدرة على توظيف الرمزية والصور البيانية، واستخدام التشديد أو الاطالة أو الإمالة في المجال الصوتي لبعض الكلمات أو المقاطع، والقدرة على استخدام الإيقاع الصوتي للفت أنظار الجمهور وتحريك مشاعرهم، واستدعاء مفردات رنانة تستجيب للذوق العام، والمهارة في عرض الحجج وتفنيد الادعاءات وسياقة الأدلة والبراهين، والأهم من ذلك كله طريقة الخطاب مكتوباً أو بالمشافهة.
محركات سلوكية
تتجسد المحركات السلوكية في الاحترام المتبادل، وتوظيف الألفاظ بدقة، وفهم ثقافات وقيم وعادات الشعوب والجماعات الأخرى، والعمل وفق قواعد البرتوكول السليم، وعدم اظهار تصرفات نرجسية خارجة عن الطبيعة البشرية السليمة.
محركات فكرية
تكمن القدرات الفكرية للزعيم أو القائد في القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وتحليل مجريات الأحداث، وربط المتغيرات والظواهر السياسية، وتقديم أطروحات وأفكار إبداعية تلبي رغبات الآخرين، وعرض رؤيا سياسية واقتصادية واجتماعية ثاقبة تستجيب لاحتياجات المواطنين وتلبي رغباتهم.
بالرغم من الملاحظات الجسيمة والتصرفات الهوجاء لهذا الرئيس النرجسي المصاب بجنون العظمة، لا يمكن لأحد استبعاد الحقيقة أنه استطاع بسلوكه الأهوج إنعاش الاقتصاد الأمريكي
يعرض ترامب مواقفاً خارج السياق الكيميائي للسلوك السياسي السليم؛ فموقفه من الهجرة، وتحريضه على طرد المسلمين من أمريكا، وتأجيجه نيران العنصرية، وسلوكه الاباحي، ودعوته لبناء سور بين الولايات المتحدة والأشرار المكسيكيين، وتهجمه على رؤساء أمريكا السابقين، ومحاولته الإطاحة بقانون الضمان الاجتماعي، والتضييق على الصحافة كلها مواقف تساهم في تآكل القبول المحلي والدولي له، وتجعله في عزلة عن محيطه الحيوي، وبعبارة أخرى تجعله عنصراً خاملاً وسط مجموعة العناصر الكيميائية النشطة.
وفي السياق السياسي الخارجي، أظهر ترامب توجهاً معادياً لأوروبا، وحرص على التقارب مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، وأقدم على تنفيذ قرار نقل السفارة إلى القدس، وحرض على تفكيك الاتحادات والتجمعات الدولية، ونعت شخصيات وقارات بأسرها بأقذع الأوصاف؛ وبالتالي لم تلقَ الكيمياء السياسية للرئيس أي استحسان دولي، وجاهر معظم زعماء دول العالم برفضهم المطلق لسياسته الخارجية الهوجاء التي ترمي إلى إغراق العالم ببحر من الفوضى وعدم الاستقرار.
مهما وجهنا من انتقادات لاذعة لترامب، إلا أن مناصريه يرونه قائداً مثالياً وزعيماً مؤثراً استطاع نقل الأداء الرئاسي الرسمي لمرتادي البيت الأبيض خارج السياق البيروقراطي الذي ينتابه الكثير من الرتابة والروتين بقيامه بإصدار جميع المراسيم والقرارات الرئاسية من خلال موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، ذلك السلوك الذي لم يكن معهوداً لدى سابقيه. ويضيف مناصروه أن ترامب يتمتع بكيمياء سياسية مميزة جعلته يتحمل المخاطرة، ويتخذ القرارات الصعبة، ويقدم على توجهات سياسية غير مألوفة كانفتاحه على الصين وروسيا وكوريا الشمالية، والتنازل عن حلفائه التقليديين، وحزمه في مواجهة تنظيم الدولة، وجرأته في مواجهة قادة أوروبا بقراره الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.
الحقيقة العملية تقول إنه لا يمكن لقائد تقليدي روتيني أن يحقق الكثير من النجاح طالما أن سلوكه وفكره لم يتمازج مع توجهات وتفضيلات المحيطين به، ولم يلقَ الكثير من القبول والرضا. وبالرغم من الملاحظات الجسيمة والتصرفات الهوجاء لهذا الرئيس النرجسي المصاب بجنون العظمة، لا يمكن لأحد استبعاد الحقيقة أنه استطاع بسلوكه الأهوج إنعاش الاقتصاد الأمريكي، وتوفير فرص عمل لمليون مواطن، وفرض رسوم جمركية على الواردات الخارجية لدعم السوق المحلي، وجعل أمريكا أمة عظيمة مرة أخرى.
الآن وفي المستقبل، لا يستطيع أي زعيم مهما أوتي من كيمياء سياسية فريدة أن يصل إلى حالة مطلقة من التمازج والتزاوج بين سماته الشخصية وطبيعة الذوق العام للجمهور المحيط به. لا يعكس ذلك مطلقاً حالة من الفشل في فهم الجمهور والتكهن برغباته التي يسعى إلى تحقيقها، وإنما حالة طبيعية من التماهي النسبي تتفاوت من شخص لآخر، وينجح بها فائد ويخفق بها آخر. ويجدر بنا الإشارة إلى أن الأنبياء والرسل المؤيدين من الله سبحانه وتعالى لم يصلوا إلى حالة القبول المطلق من أقوامهم بل كذبوهم وكفروا بهم وألقوا في وجوههم صنوفاً من العذاب والاضطهاد، بالرغم من المعجزات وخوارق العادات التي أيدهم الله بها؛ فالنتيجة قليلٌ آمن وكثيرٌ كفر.