تابع العالم في الأسابيع الأخيرة اللكمات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ، والتي وصلت إلى حد فرض تعريفات جمركية أميركية بقيمة 200 مليار دولار على بضائع صينية. وبينما اكتفت الصين بالرد بفرض ضرائب جديدة بقيمة 60 مليار دولار فقط من الواردات الأميركية، يبقى السؤال هل يخطط رئيسها للرد خارج الحلبة التجارية؟ وما هي خياراته وإلى متى سيتمسك برباطة جأشه؟
يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب تنفيذ تعهده بتصعيد الحرب التجارية مع الصين بفرض تعريفات جمركية بقيمة 200 مليار دولار على بضائع صينية. ومن جانبها، ردت الحكومة الصينية بالفعل بفرض ضرائب جديدة بقيمة 60 مليار دولار من الواردات الأميركية.
وإذا كنتم تريدون معرفة سبب عدم تطابق العقوبات الصينية مع عقوبات ترمب، هناك تفسير سهل. إذ أشار عددٌ من المُعلّقين إلى أنَّ بكين ليس لديها الكثير من المنتجات الأميركية التي يمكن استهدافها. إذ اشترى الأميركيون بضائع من الصين أكثر من البضائع التي اشتراها الصينيون من الولايات المتحدة في العام الماضي 2017 بنحو 375 مليار دولار، وهو ما يعني أن ترمب لديه منتجات كثيرة، يمكنه فرض عقوباتٍ عليها.
وبينما قد يعني هذا أنَّ نفوذ الصين على التجارة محدود، لكنَّه لا يعني أنَّ ترمب يستطيع الفوز في هذه المواجهة بسهولة.
ذلك لأنَّ الصين لديها العديد من الطرق الأخرى للانتقام، مثل بيع حيازاتها الكبيرة من الديون الأميركية أو تصعيب التوصُّل إلى اتفاقٍ نووي مع كوريا الشمالية على ترمب، حيث تتمتع بكين بنفوذ هائل في هذه المناطق وغيرها.
ودفع ذلك البعض للإشارة إلى أنَّ الحرب التجارية قد تتحول قريباً إلى «حربٍ باردة جديدة».
هل يمكن أن تكون أميركا والصين على حافة الجمود الجيوسياسي الذي هيمن على النصف الثاني من القرن العشرين؟
أشياء كثيرة ستعتمد على على كيفية رد الصين على أحدث الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة. ورجحت صحيفة The Conversation الأسترالية أن يأخذ ذلك الرد 4 أشكال:
1- ضبط النفس.. وانتظار نتيجة الانتخابات المقبلة بأميركا
أولاً، قد تختار الصين عدم تصعيد المواجهة. ويمكن فعل ذلك سريعاً بالتفاوض على بعض القرارات مع إدارة ترمب، مع أنَّ شروط ترمب لإنهاء الحرب التجارية ما زالت غير واضحة.
وبدلاً من ذلك، يمكن للصين ترك الصراع يتأجج بإبقاء المعركة سارية في الساحة التجارية، ما يسمح لها بمواصلة الانتقام بينما تبدو «عقلانية». وهذا النهج من شأنه أن يُجنِّب الصين أي حرج كبير بينما تُرجئ التعامل مع المشكلة على أمل أن تُخفِّف نتائج انتخابات التجديد النصفي الأميركية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أو الانتخابات الرئاسية في عام 2020 من حدة السياسة الأميركية. وفي الواقع، قالت الصين بالفعل إنَّها لن تتفاوض إلا بعد انتهاء انتخابات التجديد النصفي.
قد يكون تبني استراتيجية تصالحية أمراً جذَّاباً للمعتدلين في بكين الذين يدركون جيداً أنَّ الصين تحتاج إلى الولايات المتحدة بقدر ما تحتاج الولايات المتحدة إلى الصين. فضلاً عن أنَّه سيطمئن شركاء الصين التجاريين الآخرين بأنَّ بكين جادة في الوفاء بالتزاماتها.
2- عقاب اقتصادي.. خُمس الدين القومي الأميركي بيد الصين
لدى الصين خيارٌ آخر يتمثل في تصعيد المواجهة باستخدام نفوذها الاقتصادي القوي خارج ساحة التجارة.
تكمن الطريقة الأوضح التي يمكن أن تنتقم بها الصين في تخفيض مشترياتها من سندات الخزانة الأميركية أو بيع بعض السندات التي تمتلكها والتي تبلغ 1.18 تريليون دولار. وتمتلك الصين في العموم ما يقرب من خُمس الدين القومي الأميركي التي تحتفظ به دول أجنبية.
ومع أنَّ تأثير ذلك ربما سيكون أقل كارثية ممَّا هو مفترض في بعض الأحيان، ستؤدي تلك السياسة الصينية المتمثلة في تقليص حيازاتها إلى ارتفاعٍ كبير في تكلفة العديد من السلع التي يشتريها الأميركيون يومياً.
بيد أنَّ المشكلة التي سيحملها هذا النهج للصين تمكن في أنَّه سيعزز أيضاً قيمة اليوان الصيني ويجعل السلع الصينية أكثر تكلفة للأجانب. لذا قد لا يكون مثل هذا النوع من الانتقام المالي خياراً معقولاً بالنسبة لبكين.
وسيكون استهداف الشركات الأميركية العاملة في الصين بمزيدٍ من اللوائح والتدخلات من بين الاستراتيجيات الأكثر جدوى وفعالية. وبينما سيتعارض هذا النهج مع القانون الدولي، سيكون من السهل جداً على بكين إنكار المسؤولية عنه.
وفي الواقع، ثمة سببٌ للاعتقاد بأنَّ الصين قد استخدمت هذا النهج من قبل مع شركاتٍ كورية جنوبية، وهناك مؤشراتٌ على أنَّها بدأت بالفعل في تأخير طلبات الترخيص المُقدَّمة من الشركات الأميركية.
3- ألعاب جيوسياسية.. وإيقاظ التنين العسكري النائم
تُعَد علاقة الولايات المتحدة مع الصين متعددة الأوجه، وهي حقيقة يمكن أن تسمح للصين بالانتقام خارج الساحة الاقتصادية تماماً.
وقد تكمن إحدى الطرق في استخدام نفوذها مع كوريا الشمالية لتقويض جهود الولايات المتحدة لنزع سلاح كيم جونغ أون، ربما عن طريق عدم تنفيذ العقوبات الأميركية على كوريا الشمالية.
أو يمكن أن تواجه الصين الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، الذي يُحتمل أن يكون أخطر نقطة اشتعال استراتيجية في شرق آسيا. وبينما تهرع بكين إلى المطالبة بالمزيد من الجزر والممرات البحرية الواقعة جنوب ساحلها، فإن استمرار الخلاف مع الولايات المتحدة بشأن التجارة قد يشجعها لتصبح أكثر عدوانية.
وتتمثل الخيارات الأخرى المتاحة أمام الصين في زيادة محاولاتها عزل تايوان أو تعميق العلاقات مع روسيا باعتبارها قوةً مُقابلة للولايات المتحدة أو تسريع زيادة قوتها العسكرية.
4- تسريع وتيرة الهيمنة.. وتغيير وجهات ضخ المليارات الصينية
أخيراً، يمكن أن تحتجَّ الصين بالنهج العدواني الأميركي في التجارة لتسريع جهودها لتحقيق هيمنة إقليمية واستقلال اقتصادي أكبر.
ويمكن أن يحصل برنامج الصين لعام 2025، الذي يضم مجموعةً من السياسات الصناعية تهدف إلى تقريب البلاد من الساحة التكنولوجية، على دفعةٍ من تلك المواجهة.
ويمكن كذلك توسيع «مبادرة الحزام والطريق» أو Belt and Road الصينية الشهيرة، وهي ممر اقتصادي ضخم تموله بكين.
ويمكن توسيع جهود البلاد لتنمية نفوذها في إفريقيا (وهو ما عرضه الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة انعقدت بداية سبتمبر/أيلول 2018، من خلال تمويل جديد لإفريقيا بقيمة تصل إلى 60 مليار دولار وشطب جزء من ديون الدول الأكثر فقراً في القارة).
وقد تضخ الصين كذلك مزيداً من الأموال في البنك الآسيوي أو Asian Infrastructure Investment Bank للاستثمار في البنية التحتية، والذي يُعَد بديلاً لديها عن البنك الدولي.
وبالطبع، سعت الصين لبعض الوقت لتنمية نفوذها باستخدام جميع الآليات التي نوقشت أعلاه. ومع ذلك، فإن وجود ولايات متحدة أميركية أكثر عدوانية يمكن أن يؤجج شعور الصين بالإلحاح الشديد لهذه المساعي.
ماذا ستختار الصين وهل يمكن أن تضغط بطريقة غير مباشرة؟
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية جورجيا الأميركي تشارلز هانكلا: «بصفتي خبيراً اقتصادياً سياسياً، أعتقد أنَّ الرد الصيني الأرجح سيكون مزيجاً من جميع الخيارات الأربعة».
فإبقاء المواجهة مقتصرةً على التجارة -ولو ظاهرياً على الأقل- هو الرهان الأكثر أماناً لقادة الصين بنظره. لذا يتوقع أن تُقصِر بكين انتقامها العلني على فرض رسومٍ جمركية على الواردات الأميركية، ولكن في الوقت نفسه، يتوقع مشاركتها في إجراءاتٍ أخرى ملحوظة لكنَّها غير رسمية وقابلةٌ للإنكار ضد مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والأمنية، مثل التسبب في إلحاق أضرار بالشركات الأميركية وتعزيز أعداد جيشها وقدراته.
باختصار، ستسعى الحكومة الصينية لتوسيع نفوذها حتى تكون قادرة على ردع التهديدات المستقبلية المماثلة من الولايات المتحدة.
إذاً فالعالم على أعتاب نوع مختلف من الحرب الباردة
بعبارة أخرى، يلعب الرئيس ترمب لعبة «ضرب الخلد» محفوفة بالمخاطر. ففي ظل سعيه لمعالجة العجز التجاري بقوة مفرطة، يخلق مجموعة من التحديات الخطرة الأخرى للمصالح الأميركية قد تستمر لسنوات قادمة.
إذ يحتاج العجز التجاري الأميركي الهائل والمتواصل مع الصين إلى حل، لكنَّ الرسوم الجمركية ليست الحل/ برأي هانكلا. ويمكن لأميركا أن تسلك نهجاً أحكم يتمثل في استخدام الآليات الموجودة في النظام الدولي لحل مظالمهم التجارية المشروعة مع الصين.
وثمة طرق أخرى لتقليل العجز التجاري وتخفيف آثاره السيئة، مثل تشجيع زيادة معدلات الادخار وتخفيض العجز الفيدرالي (الذي ازداد سوءاً بسبب تخفيضات ترمب الضريبية) وتعزيز التنافسية بالاستثمار وإعادة التدريب على مهارات جديدة من أجل الوظائف.
لكن بالعودة إلى سؤالنا الأصلي: هل نتجه إلى حرب باردة جديدة؟
يجيب هانكلا: «باختصار، لا، على الأقل ليس من النوع الذي نشأ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية».
ويضيف: «ربما تكون الحرب الباردة قد تجمدت في أوروبا، لكنها أدت بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة إلى صراعات رهيبة في كوريا وفيتنام وغيرها. وقسَّمت العالم إلى كتلتين متعارضتين تناضلان باستمرار من أجل الهيمنة».
ومن المؤكد أنَّ تنامي صراع بين أكبر قوتين في العالم يمكن أن يشجع مرة أخرى تشكيل مناطق نفوذ متعارضة. لكنَّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الولايات المتحدة والصين -بالإضافة إلى وجود قوى رئيسية أخرى- من شأنه أن يجعل هذه «الحرب الباردة» مختلفة تماماً عن الحرب الباردة السابقة، وربما أقل حدةً منها.
ومع ذلك، من الأفضل للولايات المتحدة أن تتجنب تماماً أي علاقة مواجهة مع الصين. ومن الطبيعي أن يدافع كل طرف عن مصالحه، لكنَّ الصراع المتصاعد الذي لا يعرف أحدٌ تبعاته لن يفيد أحداً.