تتعدد التصورات حول مستقبل الحراك الجماهيري العربي، بعد أن ركبت موجة هذا الحراك دول الغرب، لتغيير منطلقاته الديمقراطية في مواجهة الاستبداد والبؤس الاقتصادي والفساد المالي، إلى توظيفات وتحالفات خارجية نلحظها من خلال مجريات الأحداث وما رافقها من حملات إعلامية تضليلية متنوعة ومتناقضة دبرها الغرب للتلاعب بالمصير العربي، مجنداً بعض القوى على الساحة العربية، وفي طليعتها قوى الإسلام السياسي المتحالف معه.
لقد تبلورت ما يمكن أن توصف بصفقة القرن، وهو اللقاء بين الولايات المتحدة الأميركية وأوساط إسلامية باتت تعرف بالإسلام الأميركي، هذه الصفقة التي تتجسد في أكثر من مظهر على أرض الواقع، سواء من خلال سياسة القوى الإسلامية التي تسلمت السلطة في تونس أو ليبيا أو باتت مسيطرة في مصر والمغرب أو من خلال ما تنشره العديد من المراكز الإلكترونية والفضائيات الموالية للأميركيين وللإسلام الأميركي التي تروج لهذا اللقاء وتتحدث عما تسميه الديمقراطية، إضافة لما تبثه من برامج هابطة ثقافياً وأخلاقياً وفنياً.
فالتحالف الليبرالي الغربي مع الإسلام السياسي ليس بجديد، وإنما هو قديم وجذوره راسخة منذ بدايات القرن المنصرم، حيث وظفت تنظيمات إسلامية نفسها في خدمة المشروع الاستعماري البريطاني والفرنسي، الذي أوجد الكيان الصهيوني، وهي تعيد الكرة من جديد بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الوريث الشرعي للاستعمار الغربي برمته، وهذا لا يعني التغافل عما ألحقته الأنظمة التي رفعت شعارات القومية العربية من أذى للشعب العربي، نتيجة أنانياتها وتصرفاتها وممارساتها الديكتاتورية، المموهة بشعارات العروبة. ومع هذه الممارسات الخاطئة والمدانة، علينا ألا ننكر الثمن الباهظ الذي دفعته الحركات القومية العربية لتؤكد عبر تاريخها الحديث والمعاصر الهوية القومية، وخصوصية هذه الهوية في التلازم بين العروبة والإسلام، مما مكن المجتمع العربي من تعزيز وحدته القومية الديمقراطية، التي لابد مصطدمة مع الإسلام السياسي المصاب باللوثة الأمريكية الصهيونية، حتى يكون إخراج المجتمع العربي خارج دائرة التلاعب بمصيره من قبل من أصيبوا بشهوة السلطة، تحت أي شعار، وحتى لا يخرج الشعب العربي عن هويته وموقعه.
لقد نشأت الحركات الإسلامية في معظم الدول العربية في فترة الاستعمار الذي فرض سيطرته على الوطن العربي خلال الانتداب البريطاني والفرنسي عليه، وكان الهدف من نشوء هذه الحركات الحفاظ على الدين الإسلامي والعودة إلى الأصول، والخوف من انتشار هيمنة الفكر العلماني الذي كان الاحتلال يحاول فرضه على جميع المناحي العربية، ومن هنا فرضت هذه الجماعات نفسها على الساحة السياسية وعلى المستوى العالمي.
فنشأت في مصر حركة الإخوان المسلمين وتأسست نواتها الأولى في عام 1928م على يد الشيخ (حسن البنا) وتكونت أول هيئة تأسيسية للحركة عام 1941م وبهذا نشأت حركة إسلامية معاصرة هدفها تحكيم الكتاب والسنة وتطبيق شريعة الله في شتى مناحي الحياة، والوقوف بحزم أمام سياسة فصل الدين عن الدولة.
أما التيار الإسلامي في فلسطين، فله مسميات أخرى ترجع إلى ما قبل عام 1948م حيث تعتبر حماس نفسها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وقبل إعلان الحركة عن نفسها عام 1987م كانت تعمل على الساحة الفلسطينية تحت اسم (المرابطون على أرض الإسراء).
وأصدرت حماس بيانها الأول عام 1987م إبان الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في الفترة بين 1987م وحتى عام 1994م ثم صدر ميثاق الحركة في آب عام 1988م. إن حركة حماس ليست على خلاف مع اليهود لما يخالفونها به في العقيدة بل خلافها معهم لأنهم يحتلون فلسطين، ويرفضون حق عودة من هجروهم إبان بداية الاحتلال، وأن إسرائيل هي الملزمة أولاً بالاعتراف بحق الفلسطينيين بأرضهم وبحق العودة، وفي أواخر السبعينيات من القرن العشرين ظهرت في بعض الدول الإسلامية أيضاً مثل هذه الحركات منها طالبان في أفغانستان، وعلى إثر هذه الحركات ظهر تنظيم القاعدة.
أما في الطرف الآخر من العالم فقد نشأ ما يسمى (جبهة مكافحة الإرهاب) وتترأسه أميركا، وهذا الإرهاب في اعتقادها هو بحد ذاته متأصل بالإسلاميين، وهنا بدأت الحرب الشعواء على كل ما يمت للإسلام بصلة، وتم إنشاء قواعد عسكرية أميركية في دول عربية عدة متمركزة في مناطق إستراتيجية كالبحر الأحمر والخليج العربي، وكان تفجير برجي التجارة العالمية في أميركا يوم 11 أيلول عام 2011م التسويغ والذريعة لحملة أميركية أممية على خلفية تلك الأحداث حيث ربطت (عضوياً) بين الإسلام والإرهاب.
شنت واشنطن ومعها أوروبا حربها ضد جميع الأحزاب الإسلامية ومنها حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحماس في غزة، وتنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان، وبحجة مكافحة الإرهاب، كونت ثقافة محاربة الإسلام والحركات الإسلامية حتى داخل الدول العربية، وكذلك كان احتلالها لأفغانستان والعراق جزءاً من خطة مكافحة الإرهاب، كما ساندت أميركا والغرب إسرائيل في حصارها المؤلم لغزة بهدف شل حركة حماس والقضاء عليها لأن الحركة في نظرها هي رأس الإرهاب.
ولكن بعد استلام الجماعات الإسلامية اليوم لمقاليد الحكم في مصر وتونس عن طريق الانتخابات، اعتبرت أميركا أن حزب الإخوان المسلمين في مصر هو جزء لا يتجزأ من دعائم النظم الدستورية، وسيكون له ثقل في الوجود الإقليمي، ولحماية عرابينها اليهود والصهاينة أسرعت أميركا، ووضعت أيديها بأيديهم، وهي من كانت تسمهم بالإرهاب، وتدفع المليارات لتحاربهم، وللحفاظ على ماء وجهها طلبت باستحياء من الجماعة الإسلامية في مصر أن تراعي حقوق المرأة، وكل هذا كرامة لعيون إسرائيل، ولتبقى مصر الدرع الحامي لإسرائيل، ولتمدها بالغاز الذي بيع لها سابقاً بأبخس الأثمان. وعلى ضوء ذلك أرسلت الخارجية الأميركية مبعوثها مساعد وزير الخارجية (وليم بيرنز) بعد شهور من الدراسات والتصريحات والأخذ والرد ليكتمل منظورها عن حركة الإخوان المسلمين في مصر، وهكذا تم اللقاء التاريخي بين عودة الإسلام وحزب الإخوان المسلمين هذا اللقاء المريب، وهنا لا يسعنا إلا التفكير أن أميركا التي استسلمت لمصالحها وسلمت لعدوها اللدود، فهل ستعطي الأمان والأمن لحركة حماس وتعترف بها كحركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي؟
الوقائع لا توحي بذلك فهي تزداد شراسة وإصراراً في توجيه الرأي العام وحثه على محاربة حركة حماس الإسلامية، بذريعة أنها تقاوم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لذلك تعتبرها جماعة دينية متطرفة إرهابية لا حق لها في الدفاع عن حقها المشروع، واعتبرت مقاومتها للاحتلال إرهاباً متشدداً يقضي على الأبرياء والمدنيين.
هذه هي سياسة الكيل بمكيالين، فعندما تصحو المصالح الأميركية في المنطقة فهي تتحالف مع ألد أعدائها، وعندما يصل الأمر لإسرائيل، فهي تعتبر الجماعة الإسلامية المقاومة لها إرهاباً، فأميركا المتشدقة بالديمقراطية العالمية، هي نفسها المساندة للاحتلال وقتل الأبرياء بحجة الحرب على الإرهاب.
فالأميركيون يفاوضون طالبان وإن كانوا يبولون علناً على جثثهم، وطالبان تبتسم للأميركي
طالما صار الوصول للسلطة مجدداً بضمانة أميركية… والأميركيون يريدون إقامة الصلوات على مدار اليوم في المساجد المصرية، طالما أن الإخوان هم من سيؤمون الصلاة… والأميركيون يريدون من القرضاوي المزيد من الفتاوى المضحكة التي تدعو للجهاد في دمشق للوصول الى المسجد الأموي، فيما نؤجل جهادنا من أجل المسجد الأقصى حتى يوم القيامة… والأميركيون فرحون بالغنوشي الذي صرخ ”فلسطين لا تهمنا” لأن المهم أن نقيم الصلاة في مواعيدها في تونس. والأميركيون مرتاحون للوجه السمح والمبتسم لمصطفى عبد الجليل الذي سيعزز النسل في ليبيا للتعويض عن آلاف القتلى بالسماح بتعدد الزوجات… والأميركيون مرتاحون لعمر البشير طالما رفع عصاه بالموافقة على تقسيم السودان، وتكريس شريعته الإسلامية الخاصة بالسودان رغم تأوهات حسن الترابي… والأميركيون مسرورون لأن إسماعيل هنية إستقبل إستقبال الأبطال في تركيا وتونس وإن كان لافتاً أن أي مسؤول مصري لم يستقبل الرجل الذي يبدو أنه لا يزال يفضل أن يكون خطيباً في أحد مساجد غزة… والأميركيون مرتاحون للخطاب الطائفي والمذهبي في لبنان ويرعون كل التحركات التي يشهدها شمال لبنان والوجوه الملتحية التي ترفع علم القاعدة في شوارع طرابلس وتصل الى شوارع صيدا، فيما الريال القطري صار سيد العملات.
إن التّيّار الديني (الأخواني) الذي برز بشكل لافت على السّطح منذ ما سمّي بالرّبيع العربي، والذي يجري الاشتغال عليه لتقديمه كبديل (جماهيري)!! يمتدّ على الرّقعة الوجدانيّة للناس، وعلى صفحة الأحداث، فهو يتقدّم عبر صناديق الاقتراع التي تحوّلت إلى فخّ للإيقاع، لا إلى إجراء يأتي بعد التّمهيد، والتأهيل، وهو ما يصرّ عليه الغرب، كصيغة يسير على خطاها، عارفاً بالنتيجة التي سيتمخّض عنها فرز الأصوات، بحكم عمله القائم على الحفر والنّخر.
إنّ الفكرة السّابقة تحرص على الإشارة إلى أنّ الشغل على ما هو سياسي له الأفضليّة، كمركب وكطريق، عند مَن نعني، فهذه الحركات الإسلامية تعمل منذ زمن لاستلام السلطة بهدف إقامة ”شرع اللّه” كما يعلنون، غير أنّ مسألة العلاقة بين الهدف والوسيلة هنا تعترضنا بقوّة، فهل من الشرعي والجائز أن نًُساير الصهاينة من أجل الوصول إلى سدّة الحكم؟!
هذا الذي نقوله ليس افتراضاً، وثمّة شيء منه ماثل على أرض الواقع، لأنّ كلّ صمت عن جرائم العدوّ، وكلّ تغييب لما يقيمه على الأرض، متابعاً إنجاز مشاريعه في تغيير معالم ما هو فلسطينيّ، وهو عمليّاً في مراحله الأخيرة من هذا المشروع… أيّ صمت، أو تجاهل، أو تغليب لما يجري هنا على ما يجري هناك، هو خدمة مقدَّمة لذلك العدوّ، الذي حين ننصرف عنه ولو لحظة واحدة فإنّنا بذلك نقدّم له وسائل وأدوات التّمكين، والتّجذّر، والاستمرار، ومن يتابع ما هي عليه الحركة، أو الحركات (الاخوانيّة) في الوطن العربي سيجد أنّهم بدؤوا بتقديم أوراق اعتمادهم للصهيونيّة، وللغرب الدّاعم لها، وحاميها الأكبر، حتى قبل أن يصلوا إلى مواقع السّلطة.
فقيادات (الأخوان) على اختلاف تسمياتها كانت، ومازالت تقيم في الغرب معزّزة، مكرَّمة، محميّة، وذلك بإسم حماية الديموقراطية، واحترامها، والغرب، على العموم، وكما نعرف فإنّه لا يقيم ملاجيء للمضطهَدين، وللباحثين عن الحريّة، فهو، في بنيته العمليّة والعقليّة غرب الربّح، والربا، وتأليه الذهب والمال، وما من عمل يتّجه إليه إن لم يجد فيه منفعة ربحيّة، ربويّة، والعمل على بعض السياسيّين ليس أقلّ استثماراً ماليّاً من العمل في آبار النّفط، ونعتقد أنّ ما حدث في ليبيا هو من أقرب الأدلّة وأصدقها على ما نقول. ولكي لا يظلّ الكلام معلّقاً على مشجب التّحليل نذهب مباشرة إلى بعض الأقوال المتداولة بهذا الشأن: برهان غليون رئيس مجلس اسطنبول يصرّح أنّه إذا وصل إلى السلطة في سوريّة فسوف يقطع علاقته بحزب اللّه، وبإيران، وبحماس، وسوف يستعيد الجولان سلماً!! وهو بشخصه، وبما يُراد له أن يمثّله الآن لا يتكلّم كفرد أكاديمي صاحب عدد من المؤلَّفات، لأنّ هذه المواصفات لا تؤهّل كلّ من يحملها إلى إطلاق التّصريحات، فهو يُطلقها بإسم معارضة ارتأت أن يكون هو رئيساً بما له من مسحة ليبراليّة، واختبأت، ليس كثيراً، وراءه كحركة أخوانيّة تشكّل عصب ذلك التّنظيم فهو يقدّم أوراق اعتماد الجميع لعواصم الغرب، ولتلّ أبيب بإسمه وموقعه، وبإسم الجماعات التي يتألّف منها مجلس إسطنبول الأردوغاني.
هذا الموقف من المفيد جدّاً ربطه بما صرّح به الشيخ القرضاوي مفتي الدّيار القطرائيليّة، رافعاً صوته من ليبيا الجريحة المدمّرة، معلناً بُشراه لعواصم الغرب التي لا تقوم لإسرائيل قائمة لولاها بأنّ الحركات الإسلاميّة التي حقّقت أغلبيّة في الانتخابات التي جرت في عدد من الأقطار العربيّة سوف تكون (عاقلة) مع الغرب ومع إسرائيل.
راشد الغنّوشي الذي تستمع إلى فهمه للإسلام، على ضوء تحوّلات العصر ومعطياته، أو تقرأ مقابلاته، أو كتبه، قد لا تختلف معه كثيراً فهماً، وتنظيراً، وأهدافاً كبرى، ولكنّه ما إن حقق حزبه في تونس أكثريّة انتخابيّة وتقلّد مقاليد الحكم، حتى بدأت تصدر عنه تصريحات ليست بعيدة عن تقديم أوراق الاعتماد لذلك الغرب، ولم يكن حسن التّرابي السّوداني أفضل حالاً.
أما في مصر، فأحد قادة (الأخوان) أعلن قبل أن تترسّم السلطة في مصر بأنّ جماعته يحترمون ”المعاهدات الموقّعة”، وهو يشير تخصيصاً بذلك إلى معاهدة كامب ديفيد.
إنّ الرّوحيّة التي يعمل عليها هؤلاء، في الحقل السياسي هي روح الدّهماء التي لا تقدر على التّفريق الحقّ، ولكنّها تنتصر انتصاراً جاهليّاً بحتاً، فتقتل، وتحرق، وتغتصب، وتمثّل بالجثث، وثمّة مَن يمدّها بالفتوى أنّ هذا هو (الجهاد)!! أمّا فلسطين، وتحريرها، وما يجري لها ولأهلها فهي مرفوعة على الرفّ، لا بل وثمّة الكثير من رسائل التّطمين بشأنها لقادة ذلك الكيان… هي صيغة جاهليّة في الفهم والسّلوك والأهداف، ولا علاقة لها بالإسلام السّمح الذي عرفنا منه أنّ مَنْ قَتَلَها فكَأنّما قَتَلَ النّاسَ جميعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنّما أَحْيا النّاسَ جَميعاً، فأين هذا من ثقافة التّقطيع والتّمزيق والتّشويه المنتشرة من قندهار إلى الجزائر، إلى الصّومال، إلى العراق، إلى اليمن، إلى سوريّة؟!! أؤكّد لو أنّ شيوخ وقادة هؤلاء كانوا يؤمنون بأنّهم مسؤولون ذات يوم، عمّا فعلوه، بين يد ربّ العالمين، لا ربّ هذه الطّائفة ولا تلك… لو كان عندهم ذرّة من الإيمان بذلك لكانوا في غير هذا الموقع...
فالشعارات ذات الطابع الديني الأخواني التي أيدتها قوى استعمارية، لا بل قامت بنفسها بانتقائها وتنسيقها وإرسالها عبر وسائلها المختلفة (الإعلامية والسياسية والثقافية والدينية التحريضية…) إلى فئات تتخذ من المساجد تحركاً لها مشكّلة غطاء لعمليات إرهابية مسلحة ما كانت ـ أي هذه الشعارات والتحركات ـ لتنجح لولا توفير الدعم المالي والوجيستيكي لها… وكانت قطر المأوى الحقيقي لكل حركات التطرف الديني، من القاعدة إلى حركة طالبان، وصولاً إلى الإخوان المسلمين، فكيف نفهم تلك المصالح السياسية لقطر مع الإخوان المسلمين؟.
يشكل تواجد الإخوان المسلمين في قطر أمراً لافتاً، ودلالات الوجود كثيرة، هذا التواجد الذي بدأ بعد مغادرة عقول من الإخوان المسلمين مصر إلى قطر، وكان أشهرها الشيخ يوسف القرضاوي حيث وجدوا في قطر أرضا خصبة للممارسة ونشر أفكارهم ”الإصلاحية”، المتسمة في نهاية المطاف بطابعها الإخواني، لذالك كانت المساعي القطرية لجمع الإخوان والأميركيين إلى طاولة واحدة ولأول مرة مثمرة، وبطبيعة الحال حكام قطر يلعبون على التناقضات بشكل كبير، فكان المشروع الأميركي لمصلحة الكيان الإسرائيلي، وبجهود قطرية، بدأ يخرج للنور ويتحقق عبر خطين متوازيين، الأول هو مشروع ”النهضة” يديره القطري الدكتور جاسم سلطان، وهو رجل محنك ملتزم بتعاليم الإخوان المسلمين ومطبق لها، الذي يرجع له الفضل باختراعه للخط القطري الإخواني الذي قد لا يصطدم مع خط الجماعة في سورية ومصر والأردن، والخط الثاني الذي تولته المهمة القطرية في المخطط ”الأميركي ـ الإسرائيلي” هو ”أكاديمية التغيير” عبر زوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوي وهو منفذ مهم لما ينظر له ويضعه جاسم سلطان، من خطوط فكرية ومنهج للتغيير المراد أميركياً ولمصلحة الكيان الإسرائيلي.
ولا يمكن تجاهل أن القطريين سمحوا للإخوان باستخدام صحرائهم كالمخيمات الدعوية، ويجتذبون من أماكن عديدة أنصارهم للتدريب العسكري وللتعبئة الايدلوجية، لكنهم حين فهموا جيداً قوة الانترنت، قاموا بنصب مخيماتهم على شبكة الانترنت ومدوا خيوط شبكتهم عبرها. ولا يتجاهل ذلك التدريب أيضاً استعمال أدوات إعلامية معينة مثل، شبكة الجزيرة، وموقع إسلام أون لاين، وموقع الجزيرة توك، وقناة دليل الفضائية. ويستعمل الإخوان في تسهيل عملياتهم المالية بنك قطر الإسلامي حيث يتم تحويل الأموال لحساب بنكي لـ”أكاديمية التغيير” وهي التي تتولى تنظيم التدريب إدارياً، دون رقابة مالية على تلك التحويلات أو متابعتها.
استغلت قطر كونها الأكثر قرباً للشعوب العربية من تركيا من ناحية العرق، مستمدة نفوذها الافتراضي في العالم العربي من خلال إعلامها من تركيا، وكونها أكثر طواعية للأميركان من تركيا، فكان الشيخ القرضاوي الذي يحظى بقبول شعبي وإسلامي كبير في العالم العربي، بعد أن صدرته الجزيرة وامبراطوريات الإعلام كعالم وفقيه متنور ومعاصر، وقادر على وضع تشريعات فقهية تمهد الطريق أمام سيطرة الإخوان من قطر التي تباركها أميركا وترضي الكيان الإسرائيلي.
ويتبادر لذهن المتلقي كيف يمكن لقيادات الإخوان المسلمين أن يكونوا جزءاً من المشروع الأميركي وأن يعقدوا الصفقات مع أعداء تاريخيين للمسلمين والعرب، وتنطلق الإجابة ببساطة، أنه وضمن فكرة البراجماتية السياسية التي ينتهجها الإخوان فهم جزء من هذا السيرك السياسي، الذي بدأته قطر والتي عقدت صفقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، رغم أداء الجزيرة المناصر للفلسطينيين، وكما ناصرت تركيا ما تسمى الثورة السورية، وأباحت لنفسها قتل الأرمن والأكراد، والقاسم المشترك في كل ذلك ليس إلا ‘المصلحة” بعيداً عن كل مفاهيم الدين والإسلام وحتى السياسة. فالمتأسلمون الجدد منزعجون من أي حديث عن القومية العربية، والمقاومة العربية، ويربطون ما بين مفهوم القومية وهوية أنظمة عربية محددة، ويعتبرون ان هذه القومية فشلت وان البديل المنطقي هو الإسلام السياسي وفق المصطلحات الجديدة لمرحلة ما بعد المحافظين العرب الجدد الذين ظهروا على ساحة التشرذم العربي خلال السنوات العشر الماضية. أما خبزهم السياسي والأيديولوجي فهي الفتنة السنية ـ الشيعية التي تحدث عنها كيسينجر مراراً عام 1974، وترجمها المحافظون الجدد مع إحتلالهم للعراق.
ومع تنامي الميديا الجديدة التي يتقاسمها الوهابيون والليبراليون الجدد!… فالمتأسلمون الجدد ثقافتهم تقوم على تجذير صراع عرقي عربي ـ فارسي له أسس مذهبية متخلفة تسوقها عشرات الشاشات والمحطات والصحف بثقافة وهابية مشفوعة بالفتاوى والتشريعات التي أساسها الجنوح الى سلفية تشن حرباً لا هوادة فيها ضد الآخر.
فويل أمة فيها مثل هؤلاء، وويل لإسلام فيه هؤلاء، يسقطون من حسابهم القدس والأقصى… يحللون ويحرمون على هواهم… شيوخ الفتاوى طوع إرادتهم، القرضاوي أفتى بقتل الليبيين والسوريين: ”ومالوا إن يقتل القتلة ثلث السوريين أو نصفهم ” لترتاح إسرائيل وأمريكا، يقول الجنرال باراك: ”سقوط نظام الرئيس بشار الأسد يصب في خدمة إسرائيل، ويجعلها أكثر أمناً”.
من الدول الدينية، لكن من الطبيعي التحسب للمخاطر، والعمل الجدي مع القوى اليسارية والقومية الموجودة على الساحة العربية لمواجهة هذه المخاطر بإقناع الجماهير ببرامج عمل مستقبلية ديمقراطية، يطالب بتطبيقها هذا الحراك العربي الناجح على الأرض العربية، مبتعدين بذلك عن الوقوع في أحابيل ديمقراطية مضللة، تجبر المجتمع على أن يكون أسير ثقافة متعلقة بالسلوك والملابس، بدلاً من أن تكون متعلقة بمعالجة الهموم الاقتصادية والانفتاح على الحداثة.
من المفيد أن ننبه إلى ما يعنيه مصطلح الدولة المدنية الشائع اليوم، والمستخدم على الساحة العربية السياسية، سواء أكان هذا الاستخدام من قبل الإسلاميين، أم كان من قبل العلمانيين، على أنه مصطلح محلي ابتكره منظرو الإخوان المسلمين للتعبير عن حقيقة الدولة الإسلامية، ويرجعه بعضهم إلى دولة المدينة التي أقامها الرسول (ص) في المدينة المنورة، وإذا كان الإسلاميون يعنون به الدولة الإسلامية صراحة، فإن بعض العلمانيين يعنون به الدولة العلمانية مواربة، وفي الحالتين هو مفهوم شائع عن غاية من قبل العلمانيين والإسلاميين على السواء، فالعلمانيون استخدموه كبديل عن مصطلح العلمانية الذي يتجه في الثقافة العربية باتجاه الإلحاد، بينما الإسلاميون يرفضونه لأنه مناهض للدين. الأهم من كل هذا أن التحالف الغربي الصهيوني الرجعي يصعد من هجماته، مستهدفاً القوى القومية واليسارية والمعتدلة في الحراك الجماهيري العربي، تنفيذاً لنظرية البنتاغون في الصدمة والرعب، وقد اتخذ هذا التحالف من الجماعات الإرهابية رأس الحربة لممارسة التخويف والقتل والتدمير العشوائي لتدمير البلاد العربية، وصولاً إلى تنصيب سلطة سياسية تحقق أهدافه ومصالحه، تسدد فواتير تكاليفها من رصيد الثروات الوطنية، وبواسطة المتبرعين من الدول النفطية، حتى يكون الالتفاف على هذا الحراك الجماهيري، وهذا ما يفسره خطاب المتأسلمين، ويكفي هنا أن نذكر بما قاله فيلتمان مساعد وزير الخارجية الأمريكية في زيارته الأخيرة إلى لبنان، من أن الولايات المتحدة ترحب بوصول الإسلاميين المتشددين إلى السلطة في دول الربيع العربي، حتى لو كلف ذلك شلالاً من الدماء.
إذن نحن أمام هجمة عالية الموج يمثّلها هؤلاء (الأخوانيّون)، في السياسة، كما في الفكر، وإذا كانت السياسة الآن هي ذات الحضور الأقوى، فإنه لن يطول الأمر حتى نقرأ بعض الكتب التي تتحدّث عن (شرعيّة) ما فعلتْه هذه الجماعة، وسيكون ثمّة مناظرات، ومحاضرات، ومنابر للتّرويج إلى هذه الشّرعيّة التي نالت رضى مَن أسّس لها وأفتى، وبذلك يُصادرون من خلال منابرهم الرسميّة الجديدة أن يكون لإسلاميّين آخرين رأي جدير بالإستماع، وهذه البنية الماضويّة في عقليّة (الأخوان) بنية مركزيّة في أساس تكوينهم الفكري، وبينهم وبين إسلاميين آخرين من الشواسع والفوارق ما يلفت الانتباه، فهم ليسوا أحفاد الشيخ الأفغاني، ولا محمد عبده، ولا علي عبد الرّازق، بل هم تحديداً أحفاد تشدّد سيّد قطب، ويتقاطعون جوهريّاً مع (الوهّابيّة) التي أنتجت كلّ ذلك الكمّ من التّكفيريّين والإرهابيّين.
إنّ خطورة هذا الملمح لا تأتي من مضامينه فقط بل من (الشّرْعنَة) التي يخلعونها عليها، فهي وحدها الشرعيّة، وما عداها غير شرعيّ، وهذا يتنافض مع أسس الديمقراطية التي يُرَوَّج لها اليوم بضخّ إعلامي كبير، يضاف إلى ذلك أنّ رؤيتهم تُلغي أيّ رؤية إسلاميّة أخرى تخالفها، وهذا إقصاء لا يتقبّله العقل النّزيه، فشعوب العالم تعترض على الاقصاء السياسي الذي ليست له أي صفة دينيّة، لتقع في منطقتنا العربيّة، عن معرفة، في فخّ الإلغاء باسم (الشّرع)!!، لمجرّد أنّ صاحب هذا الرأي أو تلك الفتوى معدود من رجال الدّين!!