لقد اصطنع الاستعمار الغربي كل المبررات السياسية لتدخله في شؤون المشرق والمغرب العربيين، وطور أساليبه من عقيدة دينية صلبة إلى حملات عسكرية وغزو فكري وحروب نفسية، وصاغها في النهاية بنظرية سياسية واقتصادية واجتماعية، وفلسفها بكل ما لديه من فكر وثقافة جاعلاً مصطلح (الاستعمار) عقيدة وطنية لأوروبا، محاولاً بثها في أذهان الشعوب الأخرى على أنها حق طبيعي لشعوب أوروبا الراقية المتفوّقة في نشر رسالة الحضارة بين الشعوب المتخلفة لإنقاذها من ظلام القرون الوسطى. ومن ثم فإن مبادئ التمدين الجديد تحمل إلى البشرية قيمَ الاستعمار الأخلاقية ومُثلَه الإنسانية التي يجدر بالأقوى أن يطبقها على الأضعف.
هذا ما اعتمده الاستعمار الغربي مدركاً أهمية إضعاف الوعي الوطني وقتل الشعور القومي، ولا أدلَّ على خطورة هذا المخطط من المشاريع التي طبقها الماريشال (ليوتي) الفرنسي في المغرب العربي إذ قال: ”إن على الغرب أن يجعل العربي المراكشي أجنبياً عن العربي الجزائري، وأجنبياً عن العربي التونسي والليبي والمصري والسوري والعراقي”، منادياً بخلق جنسيات جديدة بين العرب تتميز بالخلاف بين المذاهب الإسلامية في كل بلد عربي، ودعا إلى وجوب إبراز هذه المذاهب وتطويرها بحيث يتحوَّل العرب من القومية العربية أو الرابطة الإسلامية إلى طوائف إسلامية متناحرة.
فوسط أمواج المد (تسونامي) لما يسمى ”الربيع العربي” انقلبت اليوم وتغيرت مواقف المنتسبين إلى راية الإسلام والمتبوئين رتبة ”علماء” فأضاعت حرمة الدماء والأخلاق والأعراض والأرض والدين، وانتهكت انتهاكاً غير مسبوق، كان من نتيجته اصطفافات طائفية ومذهبية مقيتة، أججتها وسائل الإعلام المشبوهة والفتاوى والخطب، فحُرِّفت فريضة ”الجهاد” عن سبق إصرار وترصد والتي تقوم على رفع الظلم عن المسلمين، وإزالة مظاهر الظلم والاحتلال عن أراضي المسلمين إذا اغتصبت، وهي فريضة في حكمها وأسبابها وأهدافها يستحقها اليوم الشعب الفلسطيني. إلا أن ما يؤسف له وما يؤلم، أنها تم حرفها لتكون أداة لقتل المسلمين بعضهم بعضاً، فامتشق الذين غرِّرَ بهم وخُدِعوا بهذا التحريف سيوفهم ليقطعوا بها أعناق أشقائهم في العقيدة والدم، وبالتالي أضحى الصراع مذهبياً مدمراً مقيتاً، بعد أن كان الصراع الأوحد هو الصراع العربي ـ الصهيوني، وأن لا عدو سوى العدو الصهيوني.
ومن مفرزات الخطورة أن التخطيط الأمريكي المتراكم وبمعاضدة من العالم الغربي برمّته تقريباً جعل من الضحية العربية تتصارع مع ذاتها وتعتدي على ذاتها، بل حدثت محاولات جدية لجعل الصراع ضمن المكونات الدينية للمنطقة العربية، وحتّى ضمن مكونات الدين الإسلامي، وأخطر أدواته التي ”تعمل” بغية إشعال وتأجيج (فتنة) إسلامية إسلامية تتمثل بفضائيات ومحطات تلفزيونية متفرغة للبحث في إشكاليات حساسة يزخر بها التراث الإسلامي وإبراز الأمور الخلافية واستثمارها للتحريض والاقتتال والفتنة… فلم يشهد التاريخ العربي ولا حتّى مسيرة وسائل الإعلام كلّها عبر التاريخ مرحلة من التحريض الطائفي الديني كما هو موجّه إلى العالم العربي اليوم.
والفضيحة قائمة بوجود أقمار صناعية خاصة بالبث الفضائي توافق على بث قنوات متخصصة بالفتن الطائفية والدينية… والأكثر فضائحية هي الأنظمة والدول التي تسمح لفضائيات متخصصة بالفتنة الدينية العمل على أراضيها، بل وتدعمها وتؤمن لها الكوادر والأموال والميزات والمغريات وتوظّفها كأداة من أدوات التآمر والاعتداءات على الآخر… إنّه انحطاط قيمي غير مسبوق ولا يمكنه أن ينتج إلا عن أنظمة زاد انحطاطها السياسي والأخلاقي وصولاً إلى تخصصها بصناعة الفتن الدينية!
اللافت فيما يتعلق بدراسات الحوار ”الإسلامي ـ الإسلامي” ميل معظم البحوث والمداخلات إلى الارتكاز على المشكلات المذهبية، بوصفها المنصة الظرفية لمشكلات الحوار الإسلامي ـ الإسلامي نفسه، وبطبيعة الحال فإن هذا المنحى من المعالجات والمقاربات سيعاود استهلال المراحل التاريخية السابقة التي كانت تربط باستمرار أزمة العقل الإسلامي بأزمة الفقه والأدلجة وعلم الكلام، وفي هذا السياق ستظل محنة الحوار عالقة في فخ الاجتهاد وأطواره ساحبة معها ذيول النصوص وتأويلاتها وانقساماتها لينتهي الأمر بنا إلى تعطيل الحوار وإغلاق نوافذه، لأننا ببساطة انطلقنا بمنهجية الحوار من أدوات المشكلة دون أي اهتمام بأدوات التغيير التي لا معنى لمفهوم الحوار في غيابها.
ولئن كنا لا نملك أن نماري في أن حالات عدة من إخفاق مشاريع التقريب بين المسلمين قد سُجلت في تاريخ الحوار فليس لنا أن نتجاهل أن مصادرة فكر التغيير الاجتماعي واستبعاد المثقف عن عملية التغيير قد جرّت حواراتنا الفقهية والكلامية إلى مزيد من السجال العقيم المتسلط بأحكامه المسبقة بين سلطوية النفي وسلطوية الإثبات وبذلك بقيت إشكاليات الحوار وأسئلته مطابقة لذهنيات التفكير المذهبي وقائمة عليه، ومن ثم تراجعت قضايا الوحدة والحرية والثقافة والتنمية على حساب المقولات المذهبية، وهي مقولات كان بإمكانها أن تثري تطلعات الحوار وآماله، فيما لو انطلقنا بتوظيف تراكماتها لمصلحة قضايا الوجود والمصير، فتتكامل مع قوى التغيير في أمتنا العزيزة بدل أن تخوض فجاعة الصراع مع المذاهب الدينية المخالفة، أو المذاهب الأيديولوجية النقيضة.
الحوار الإسلامي ـ الإسلامي نحو صياغة جديدة:
هل يعيد الحوار الإسلامي ـ الإسلامي صياغة نفسه؟ فيبتدئ من نقد الواقع الراهن لمحاكمة تاريخيه وماضيه بدل أن يبتدئ من نقد الموروث ويستغرق فيه ليتنصل في النهاية من مواجهة العصر وتحدياته. فإذا أردنا أن يقاس الحوار بمنجزاته فلا بد من استحضار هذا السؤال لتحديد الحوار الحضاري لحوارنا وتفهم معطياته لنقدم من خلاله الفرص الجديدة لبناء الذات ومواجهة التحديات. ذلك أن أي حوار يتورط في معركة المغالبات المذهبية هو حوار خاسر لأنه حوار بين كتب السلف الصالح وليس حواراً بين عقولنا نحن ومواجعنا نحن.
لذلك فإن أي تنظير لموضوعية الحوار الإسلامي ـ الإسلامي خارج ميدان النهوض الثقافي والاجتماعي المقاوم لاستلاب الهوية وخارج النهوض السياسي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي لأرضنا العربية الإسلامية هو حوار ناقص مبستر وعاجز عن الاستمرار في الزمان والتاريخ لأنه يفصل إسلام الفكر والعقيدة عن وظيفته الربانية في الشهودية على الناس والتاريخ. ومن إهمالنا الواضح لمحددات الحوار وموضوعيته وأولوياته وقعنا في واحدة من أعظم المفارقات الساخرة، ففي الوقت الذي تمادى فيه علماؤنا ومفكرونا ومثقفونا في التحاور مع الاستشراق وفي الوقت الذي سقطنا في شبكة التحاور مع الصهيونية كان دخان الحروب الداخلية بين المسلم والمسلم يحجب أبصارنا عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل يومياً.
ومن المؤسف المؤلم أن المقاومة التي تحصّنا بها لعدة أجيال تكاد تتبدد في هذا المدى الغائم من لا موضوعية الحوار الغائب أو المغيب. وأغلب الظن أن الحوار الذي أخطأ وجهته وساريته منذ أن طرد آخر عربي مسلم من غرناطة عام 1492م قد انتهى بنا إلى هذه الحروب الخادعة فيما بيننا لتمنعنا رغم أنوفنا من خوض حربنا الحقيقية وربما الوحيدة على أرض فلسطين، لنجد أنفسنا ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين جاهزين تماماً للالتحاق الكامل بمراكب الغرب عبر وسيطه الصهيوني.
ترى ألا يستفزنا هذا الواقع المرير إلى البحث عن وظيفة الحوار وفق التصور القرآني للإنسان والحياة، ليتمحور العقل الإسلامي حول تحليل المشكلات الأساسية لمجتمعاتنا المتنوعة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فنستدرك ما فاتنا من أسباب النهضة والكرامة بدراسة نقدية شاملة لمكامن التخلف الحقيقي في البلدان الإسلامية كافة والتي تتشابه ظروف تخلفها على الرغم من تعدد مدارسها الفقهية ومذاهبها الدينية؟.
لذلك يبدو لي أنه من الضروري فض الاشتباك بين الحواريات المهتمة بتطوير الوعي المذهبي ونقديات التراث وبين الحواريات المهتمة بنقد نظريات التنمية والخيارات المتاحة في ظل الهيمنة الاستعمارية. وإذا كان من الوارد هنا إرجاع مأزق الحوار الإسلامي ـ الإسلامي إلى اعتماده على مسلمات التراث كمادة أساسية لموضوعاته، فإن هذا الخطأ المنهجي لا يبرر التقاعس الثقافي والسياسي عن الاهتمام بتطوير الاهتمام بالجانب التنموي من الحوار، ولعل أبرز ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن رفض تمطيط المشكلات من الماضي إلى الحاضر والدعوة إلى تعميم عادة الحوار بين المثقف والسياسي والديني، يجب أن يتمثل بطريقة إيجابية تنطلق من مجانبة التشكيك ونبذ الخصومات المجانية بين قوى التغيير في مجتمعنا المتصدع. لأن افتراض سوء النيات سواء التقييم لأوضاعنا العامة، وافتراض سوء التقدير لأي حلول مقترحة لن تخدم إطلاقاً أغراض الحوار ومنطلقاته.
ومن نافل القول أن أشير هنا إلى أن التحولات الجذرية والعميقة، التي شهدها عالمنا الإسلامي بعد سقوط نظام الجامع والخلافة تتطلب الوقوف على وعي المساواة بين المؤسسة الدينية ومؤسسات المجتمع الأهلي لمعالجة قضايانا الحياتية بعيداً عن لعبة التصادم بين المواقع والأدوار لأن معركة التحرر من أخطبوط التبعية لاقتصاديات العالم الجديد وسياساته تخص الواقع الإسلامي كله على اختلاف اتجاهاته ومواقعه.
من هنا نسجل أن الحوار الإسلامي ـ الإسلامي ما لم يحسم أمره في بلورة مفاهيم الحرية والتعدد وحق الاختلاف ووعي التمايز والتنوع المحسوم بعقيدة التوحيد سيظل حواراً سكونياً لا يتجاوز ذاته إلى الآخر، ففي غياب مفهوم الحرية والحرية السياسية بالتحديد غابت الأعمال النقدية وارتمينا من وراء الشعور بالغبن الاجتماعي والاضطهاد الرسمي في قعر الانغلاق على خصوصيات الذات المذهبية أو الحزبية، ومن هذا الخندق بدأنا نخوض معركة الإصلاح والتغيير بسيل جارف من الممنوعات والمحرمات في ضوء فتاوانا المستندة إلى نظرة أحادية لمشكلات المجتمع الإسلامي فقلنا بوجوب قتال الطائفة الممتنعة عن الشريعة وقلنا بتحريم دخول البرلمان والأحزاب الوطنية وقلنا بتكفير الحاكم المبدل لشرع الله دون أن نبذل أي جهد يذكر في مجال الوعي التطبيقي للنصوص الشريفة، أو في تحديد مصطلحاتنا الشائعة، كمصطلحات الفقه والشريعة والحاكم والمنكر والطائفة والمواطنة ”لا تبقرن بأيديكم بطونكم فثم لا حسرة تغني ولا جزع”.
تجديد وظائف الحوار:
وقد يؤخذ على مشروع البحث عن وظيفة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي في دائرة الدعوة إلى الانخراط في مشروع الداخل الإسلامي المتنوع والمتعدد مذهبياً وسياسياً، إشكالية التأخر الزمني، بمعنى أن هذه الدعوة سابقة لأوانها إلا أنني لا أرى أننا بمقدار ما نوفق في حسم إشكاليات العلاقة بين الإسلام ومعارضيه في الداخل سنقترب كثيراً من حسم إشكاليات العلاقة بين الإسلام ونفسه انطلاقاً من حرص القرآن الكريم على خط الاتصال بالآخر، كموضوع للهداية الربانية ليضيء من خلال ذلك أهمية الجدل والتعارف بعيداً عن لجاجة العناد الذي لا يحترز من الكذب والبهتان والافتراء وبعيداً عن لغة الازدراء بجهود الآخرين وتضحياتهم في بناء الأوطان والمجتمعات، لأن من شأن هذا المستوى من المناقضة في الجدال أن يعمق حالة الانفصال الداخلي وتوسيع شروخاته وتناقضاته لا يرجى معه أمل من آمال الأهداف المشتركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومجابهة أي عدوان خارجي بوجه عام عسكرياً، وسياسياً، وثقافياً ومن حقنا أن نبحث عن معيارية ما ومرجعية ما في هذا العصر الذي يتعرض فيه كل شيء للتسييس والاستغلال.
ومن حقنا أن نتساءل من أين ننطلق؟ من السياسة لضبط أجهزتنا الدينية والسياسية أم من الدين لحمايته من أبنائه؟
لابد أن نعترف أن الحوار بين المذاهب والجهود المبذولة للتقريب بينها كانت تتكسر دائماً على صخرة الخلافات السياسية، لكن ورغم ذلك، فإن المسلم العادي لا يشعر بالخلافات الموجودة بين المذاهب بدرجة القسوة نفسها التي تصور أحياناً في وسائل الإعلام، بل إنه يمكن اعتبار الجانب الأكبر من هذه الاختلافات سياسية الطابع والدوافع حتى وإن توارت خلف الدين.
وإذا جنبنا السياسة وبحثنا داخل الحوارات التقريبية نفسها سنجد أن أغلبها لم يكلل بالنجاح لأسباب عضوية كما يقول المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب منها أن التجارب المهمّة لم تؤمن آليات متابعة دقيقة وناجعة، فمشروع المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية استطاع أن يجمع كبار علماء المسلمين لكن ظلت التوصيات التي صدرت عنه مجرد حلم ينتظر التحقيق. كذلك افتقد مناخ الحوار للثقة والرغبة المتبادلة في أوقات كثيرة.
إذ إننا وبسبب فقدان الضوابط والمعايير في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية ظلت أزمة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي مجالاً سائباً يخترقه المرتزقة من رجال الثقافة والدين والسياسة. فالسنوات الماضية بما شهدت من تقلبات وانعطافات مهمة في العالمين العربي والإسلامي دفعتنا إلى إعادة تفحص مفهوم الحوار ووظيفته كيما نقف على شروطه الموضوعية برؤية واضحة المعالم والأهداف.
فهل أخطأت بعض الأنظمة في تقليل شأن الإسلام العقيدة والفكر حيث افترضت بلا وعي أن الدين هو مجرد عنصر تكميلي من مئات العناصر المكونة للأفق السياسي؟
وهل أخطأنا نحن بشعار استحالة التعايش بين الأنظمة والحركات الدينية فاعتبرنا أن المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تكون نموذج الغرب المسيحي الذي فرض العلمانية مبدأ وفلسفة، ولا حتى نموذج اليابان حيث تتكامل الروحانية البوذية مع البراغماتية الاقتصادية دونما توتر أو صدام؟
لقد أشار القرآن الكريم إلى ظاهرة الخبث في الجماعة الإسلامية الأولى واعتبر الامتحان ضرورة لتصفية الواقع المخلط لتمييز الشخصية الخبيثة من الشخصية الطيبة. فقال سبحانه: ”ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء”. العمران 179.
لذلك وبغض النظر عن الأخطاء التي احتملناها صواباً، فالحقيقة المرة أن حروبنا الداخلية كانت من أبشع الأخطاء التاريخية الحديثة لأن سفك الدماء المجانية لم يحقق إطلاقاً قيمة التمييز بين الخبيث والطيب.
قال رسول الله (ص) في وصيته الخالدة لأصحابه معترضاً على إلحاحهم عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين: ”فكيف بالعرب إذا قالت إن محمداً يقتل أصحابه؟”.
فكيف نسقط هذا الجدار المصطنع في حين سميناه نقلاً عن الإعلام الغربي التنويريين والظلاميين؟
إذن لقد قمنا بعملية استنساخ كربوني واضح لعوامل الانحطاط في الماضي والحاضر دون أن نلتفت إلى أن تمسك الذهنية الإسلامية بنقل الماضي ومحاكاته جعلها عاجزة أو قاصرة عن مواجهة تحديات الواقع. كما أن الذهنية العلمانية التي لجأت إلى نقل الفكر الغربي ومحاكاته دون دراسة ودون تحديد الجوهري والثانوي منه ما جعلها عاجزة هي الأخرى وفاشلة عن تأمين الحد الأدنى لرفاه أمتنا ووحدتها وتقدمها. صحيح أن أشياء كثيرة قد امحت من قسماتنا وملامحنا، من خصائصنا وخصوصيتنا غير أن ذلك لا يسوغ شعورنا بالإحباط وحتى لا تستثمر الاختلافات فيما بيننا لمصلحة مشروع المتوسطية الجديدة يجب أن نحدد وظيفة الحوار وآفاقه من واقع حياتنا ومن واقع الاعتراف بتطويع الاختلاف وترويضه لمصلحة أهدافنا العليا في الحياة، ولمصلحة عروبتنا، وأقول عروبة عند هذا المنعطف الحرج من مصيرنا لأن العروبة هي العنصر الأثقل في إسلامية حوارنا ووحدتنا.
فهل ينجح الاستنفار الإسلامي الآن لدعمها في تحرير القدس الشريف؟ نكون قد تجاوزنا فعلاً وحدة الحبر على الورق، ووحدة الجامعة العربية، ووحدة منظمة التعاون الإسلامي، إلى أرضية اختبار هذه الوحدة وتحدياتها في الموقف التاريخي من مستقبل القدس الشريف على جبل أبو غنيم. هذا لو أردنا أن تعيش مهمومة بهموم جيلها وتاريخها.
وبهذا الوعي سيصبح الحوار الإسلامي ـ الإسلامي قاعدة صلبة للحوار المسيحي ـ الإسلامي وامتدادها إلى الحوار الإنساني ـ الإنساني. وبهذا الوعي نكون قد ساهمنا فعلاً من جهة أخرى بإعادة تفسير وتركيب المفهوم النبوي لحديث الفرقة الناجية بتفسير كينونتها ومضمونها بشهود الأمة وشهدائها وثقاتها الأحرار بعيداً عن التفسير المذهبي الطائفي النرجسي الضيق المحدود.
إن القرآن الكريم والمتمعن فيه ليجد أنه أوجد منهجاً فكرياً في التعامل مع الرأي والحوار الهادف، ليتوجب علينا دراسته واستقاء الأبحاث منه والتمعن في حيثياته وأصوله وذلك تجلى في العديد من المواقف القرآنية والقصص التي سردها الوحي الشريف لتحمل العبر وأصول التعامل مع المواقف التي يسودها الاختلاف وتحتاج الى الوقوف عند تفاصيلها المجمعة والتحليل العميق لذلك يوجد أن الرأي السديد والحوار الجاد هو قوة لا عنفية مضادة استخدمت لقلب موازين القوى الظالمة وتفعيل الشراكة المدنية والإدارة البشرية الجامعة وقد حدد ذلك المنهج الرباني خمسة مقومات علمية منهجية تضبط الرأي والحوار في المجتمع وهي:
1ـ التعاضد والتناصر بين أمة المسلمين فيما يخدم الاسلام ورفعته وقضاياه.
2ـ تأكيد الحق على الباطل مهما بلغت قوى الباطل وتأثيره وانجراف المجتمع من خلفه,.,
3ـ منع الانجراف الأعمى والتبعية نحو من هم دون وجه الحق وعلى غير نهج الحق,.,
4ـ عقلانية الرأي وموضوعية الحوار، وعدم النظر للمصلحة الذاتية وتغليبها.
5ـ بعد النظر في قضايا الأمة وعدم تسخير الرأي وتوجيه الحوار لخدمات جزيئيات آنية في أمر المجتمع وقضاياه…
إننا في الحقيقة لابد أن ننطلق من التكريم الرباني الشريف الذي حملته الآية الكريمة الدالة ”وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”.
فالوسطية هي وسطية العقل والقياس والفعل والسلوك والرأي الذي يصدر من توازن بين ما نريد وما يحكمنا من قيم إسلامية واجتماعية وما يرنو اليه المجتمع من تجاوز لمشكلاته ورسم لمسار أهدافه، فعلينا أن ننهج من الوسطية منهجاً قويماً نرسخه أولا في ذواتنا الإسلامية والاجتماعية ومن ثم نبذره في سياق الأهداف والتوجهات التربوية لنسقطه لاحقاً على النسق السياسي والاقتصادي وما يلحقهما من أنساق تشكل السقف الاجتماعي.
ولا يخفى على إخواننا وأبنائنا في المؤسسات والحركات الإسلامية أن الإسلام لا يمنع المسلم من إثبات وجوده ما دام هذا الإثبات مستنداً إلى الاعتراف بحق الآخر في الوجود وحقه في الاختلاف. بيد أن أزمة المقبول والمرفوض من الخلاف ستظل عالقة في أزمة التنابذ بالنصوص الشرعية في حوارات عقيمة تنطلق من احتكار الحقيقة المطلقة وتحتمي بشرعية التخطئة والتصويب بغطاءات دينية. ولكن في غياب الاختلاف الذي لا يصنع الخلاف، ترتكب المؤتمرات الإسلامية والحوارات الإسلامية ورطة الخلط بين مفهوم الاختلاف كمصدر للثراء الفكري ومفهوم الخلاف كمصدر للتباغض والقطيعة المعرفية، وتدمير الذات والهوية.
وحتى الآن لا يزال هناك من يرى في العالم الإسلامي أن ”لا خير يرجى” لتبقى ”الأمة الإسلامية مستعصية على الإجماع”، وأن لا تقارب دينياً بين المذاهب ولا أفق مرجواً لأي حوار مرتقب ما لم يسبقه تقارب سياسي.
لهذا أصبح التكامل والتنسيق بين العلماء ضرورة ملحة، لا ريب أنه يقوي رسالة الإسلام ويسمح بتوحيد الفتوى في فروع كثيرة ما يوحد الأمة ويحصنها من سيل الفتاوى المضللة والمشبوهة والمفتنة التي أساءت للإسلام وشوهت صورته، وأعطت صورة مغايرة، سواء لأعداء الإسلام أو الراغبين في معرفة حقيقة الإسلام. كما أن توعية المسلمين بالقوانين والأحكام الشرعية المستجدة على ضوء القضايا المستجدة، أمر مطلوب حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، وهناك وسائل وطرق كثيرة لنشر هذه التوعية.
ألم نرتكب في الماضي خطأ فادحاً بتقسيم وجودنا السياسي إلى تقدمي ورجعي، ثم اتضح لنا بعد سلسلة فجائعية من الهزائم أن هذا التقسيم لا معنى له على الإطلاق. ثم ارتكبنا خطأ مماثلاً بتصنيف وجودنا الفكري والثقافي إلى ديني وعلماني. وفي ظل الحوار الإسلامي يرتكب أفكاره الملتبسة بتجاوزه لوظيفته التي لا يمكن فصلها عن عالمية الإسلام فضلاً عن مشكلات الحضارة وقضايا الإنسان…