ومع التضييق الذي شهدته المملكة مع تولي محمد بن سلمان ولاية العهد على جميع الآراء المنتقدة، اختار جمال خاشقجي مغادرة وطنه والتوجه إلى الولايات المتحدة عام 2017 ككاتب رأي في صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، اختفى بشكل غريب داخل قنصلية بلاده في إسطنبول وسط تقارير أمنية تركية ترجح تصفيته داخل مبنى القنصلية.
المولد والنشأة
ولد جمال خاشقجي يوم 13 أكتوبر/تشر ين الأول 1958 في المدينة المنورة لأسرة ذات أصول تركية استقرت في المنطقة قبل خمسة قرون.
الدراسة والتكوين
درس في ثانوية “طيبة”، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة لدراسة الصحافة في جامعة إنديانا التي تخرج منها عام 1983.
التجربة الإعلامية
بدأ مسيرته الصحفية مراسلا في صحيفة “سعودي غازيت” الإنجليزية، ثم مراسلا لعدد من الصحف العربية اليومية والأسبوعية ومنها “الشرق الأوسط” في الفترة بين عامي 1987 و1999، واشتهر حينها بتغطياته الميدانية للحرب الأفغانية ضد السوفيات، والتحول الديمقراطي القصير الأجل في الجزائر، وحرب الخليج الثانية.
خلال مسيرته الصحفية، أجرى خاشقجي عددا من المقابلات مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في أفغانستانوالسودان.
وبعدما اشتهر بتقاريره وتغطياته، عيّن نائبا لرئيس تحرير صحيفة “عرب نيوز” عام 1999 واستمر في المنصب إلى العام 2003، ليتولى بعدها رئاسة تحرير “الوطن” التي كانت حينئذ أكثر الصحف انفتاحا وانتقادا للأوضاع الداخلية، لكن جلوس خاشقجي على كرسي رئاسة التحرير لم يدم أكثر من شهرين لتتم إقالته مباشرة.
ورغم تحسره على ضياع تلك الفرصة التي ستقربه أكثر من كواليس السياسة وصناعها في بلاده، فإن القدر منحه فرصة حسده عليها أقرانه من كبار مواطنيه الصحفيين بعدما اختاره الأمير تركي الفيصل مستشارا إعلاميا حين كان سفيرا في لندن ثم واشنطن، واستمر كذلك حتى العام 2007.
منحت تلك المحطة خاشقجي أبعادا مختلفة للمشاركة في توضيح سياسة الرياض في أهم عواصم صنع القرار في العالم، كما قربته من أهم مصادر المعلومات حيث ترأس الفيصل قبل ذلك جهاز الاستخبارات العامة، وكان له دور كبير في رسم السياسات الخارجية.
عاد خاشقجي إلى الصحافة من أوسع أبوابها، فعيّن مرة أخرى عام 2007 رئيسا لتحرير “الوطن” المثيرة للجدل -حينها- خاصة في ما يتصل بمناكفاتها مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المدعومة من وزارة الداخلية آنذاك. وللمفارقة فقد كانت الصحيفة أيضا رأس حربة أحد أجنحة السلطة الميالة إلى “الإصلاح” وتخفيف القيود الشرعية التي كانت تفرضها هيئة الأمر بالمعروف.
في صيف 2008 كان خاشقجي يرتع في البلاط الملكي حين رافق الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في زيارته إلى لندن، وقتئذ قدمه الملك في حفل الاستقبال بقصر بكنغهام إلى ملكة بريطانيا على أنه “أهم صحفي سعودي”.
لم تشفع له تلك الشهادة الملكية، فبعد أن خاض معارك فكرية واجتماعية بصحيفة “الوطن” كان يدعو فيها إلى التحديث والإصلاح، وجد نفسه هدفا لحملات شعواء خاصة من التيار الديني المتشدد، كلفته نهاية المطاف منصبه بعد أن سطر أحد كتاب صحيفته مقالا انتقد فيه الفكر السلفي، فكانت القطرة التي أفاضت الكأس، وأرغم على تقديم استقالته عام 2010 رغم أنه كان حينها خارج المملكة.
منحه القدر فرصة ذهبية ومن أحد أبواب الأسرة الحاكمة حين استدعاه الملياردير الوليد بن طلال آل سعود الذي كان يطمح إلى توسيع إمبراطوريته الإعلامية “روتانا”، فاختار خاشقجي لتأسيس قناة “العرب” التي وُئدت بعد يوم واحد من عملها عام 2015 انطلاقا من العاصمة البحرينية المنامة بعد خلاف مع السلطات البحرينية حول السياسة التحريرية للقناة.
وبقيت القناة تبحث عن مستقر لها حيث كثرت التكهنات بشأن المقر البديل عن المنامة، وطرحت حينها أسماء عواصم عربية وغربية، قبل أن يتم الإعلان نهائيا عن التخلي عن المشروع.
ظل خاشقجي يكتب بعدها في صحيفة “الحياة” مؤيدا لرؤية المملكة 2030 التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، كما كان يدافع عن سياسة المملكة الخارجية وخاصة انخراطها في حرب اليمن تحت اسم عاصفة الحزم، حتى باتت تستضيفه القنوات العربية ومراكز الأبحاث الأجنبية بوصفه محللا سياسيا “مقربا من السلطة”، وحظي بمتابعة واسعة بفضل ظهوره على شبكات التلفزيون العربية.
بالتزامن، استمر خاشقجي في الكتابة والتعبير عن آرائه التي كان يدافع في بعضها عن فكر الإخوان المسلمين رغم انتقاده لسياساتهم، وكان يدعو إلى استيعاب موجات الربيع العربي ومحاولة دعمها.
كما حذر -في تغريدات ومحاضرات بمراكز فكر غربية- بلاده من التماهي مع سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد انتخابه رئيسا في يناير/كانون الثاني 2017، مما اضطر خارجية المملكة إلى إصدار بيان قالت فيه إن خاشقجي ليس له علاقة بالحكومة، وإن آراءه تعبر عن وجهة نظره الشخصية فقط.
بعدها أخذت علاقة خاشقجي بالسلطات السعودية منحنى حادا، فمنعته من الكتابة والتغريد لمدة تسعة أشهر، ليعود بعدها ويكتب في صحيفة “الحياة” مقالات لم ترق كثيرا للسلطات، حيث امتدح في بعضها فكر الإخوان، فقرر ناشر الصحيفة خالد بن سلطان آل سعود في ديسمبر/كانون الأول 2017 إيقاف خاشقجي عن الكتابة نهائيا.
صمت خاشقجي مدة، وحين رأى حملات اعتقالات امتدت إلى رموز دينية واجتماعية وثقافية، وعدد منهم أصدقاء له، قرر في سبتمبر/أيلول 2017 مغادرة السعودية إلى الولايات المتحدة.
ومستفيدا من وضعه الجديد، أخذ يكتب مقالات بصحيفة واشنطن بوست ينتقد فيها سياسة تكميم الأفواه واعتقال كل من له رأي مخالف في المملكة، كما انتقد محاربتها لجماعات الإسلام السياسي ومعارضتها للربيع العربي.
وعن ظروف مغادرته لموطنه كتب في الصحيفة قائلا “تركتُ ورائي بيتي وأسرتي وعملي، وأنا الآن أرفع صوتي، لأن التزام الصمت خذلان لمن يعاني خلف القضبان.. أنا الآن في موضع القادر على الحديث بينما كثيرون لا يستطيعون”.
ومن جديد، قوبلت مقالاته بحملات إعلامية وتحريضية من الداخل وصفته بأقذع التهم والشتائم، حتى وصلت مرحلة متقدمة من العنصرية التي شككت في أصوله وعدم استحقاقه الجنسية السعودية، غير أنه لم يتوقف عن الكتابة والتغريد.
وفي الوقت الذي تخوض فيه السلطات حملات دعائية لتلميع سياساتها وتسويق أجندة ملكها المرتقب (محمد بن سلمان)، يكتب خاشقجي في أعرق الصحف الأميركية والغربية يفند بعض تلك السياسات، وإن كان يمتدح البعض الآخر.
فقد كتب في مقال مشترك مع روبرت لايسي بصحيفة “ذي غارديان” البريطانية في مارس/آذار 2017 “بالنسبة لبرنامج الإصلاح الداخلي فإن ولي العهد يستحق الثناء”، لكنهما أشارا إلى أن الأمير الشاب “لم يشجع ولم يسمح بأي نقاش في السعودية حول طبيعة التغييرات”.
كما أورد المقال أن ولي العهد “ينقل البلاد من التطرف الديني إلى نسخته الخاصة من التطرف المبنية على وجوب قبولكم إصلاحي بدون أي تشاور، مصحوبا باعتقالات واختفاء منتقديه”.
|
وفي الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 كتب مقالا جديدا بعنوان “ولي العهد السعودي يتصرف مثل بوتين”، جاء فيه “حتى الآن، أود أن أقول إن محمد بن سلمان يتصرف مثل بوتين.. يفرض عدلا انتقائيا للغاية. الحملة تستهدف حتى أكثر الانتقادات البناءة. المطالبة بالولاء الكامل وإلا… لا تزال تمثل تحديا خطيرا لرغبة ولي العهد في أن يُنظر إليه على أنه زعيم عصري ومستنير”.
جمال الذي يبلغ عدد متابعيه على موقع التواصل الاجتماعي أكثر من 1.7 مليون متابع، انتقد احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض وإعلانه منها تقديم استقالة حكومته، وكتب بهذا الخصوص مقالا يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بعنوان “السعودية تثير فوضى كاملة في لبنان”.
الاختفاء
سيبقى تاريخ الثلاثاء 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018 عالقا في الأذهان، إذ شهدت القنصلية السعودية في إسطنبول واحدة من أغرب الحوادث التي تعرض لها صحفي عبر العالم، حيث شكل دخول خاشقجي مبنى القنصلية لغزا محيرا بينما كانت خطيبته أمام الباب تنتظره، إلا أنه دخل ولم يخرج منذ ذلك الحين.
وتعتقد الشرطة التركية أن خاشقجي قُتل في مبنى القنصلية بأيدي فريق مكون من 15 سعوديا -بينهم مسؤولون- أتوا خصيصًا إلى إسطنبول وغادروا في اليوم نفسه.
وتحدثت مصادر عن تعذيبه وتقطيعه، بينما أصرت الرياض على أنه غادر القنصلية مباشرة بعد دخولها بقليل، وأن لا علاقة لها بموضوع اختفائه أو مقتله.
المؤلفات
من بين مؤلفات خاشقجي “علاقات حرجة.. السعودية بعد 11 سبتمبر”، و”ربيع العرب.. زمن الإخوان” (2013)، بالإضافة إلى كتاب “احتلال السوق السعودي” الذي يروي -بحسب مؤلفه- “قصة استيلاء الأجانب على السوق السعودي، مما ولد أزمة البطالة”.